لا يزال الغزو الشامل لأوكرانيا مستمرًا منذ ما يقرب من عام، عندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه شن ما أسماه “عملية عسكرية خاصة”. قبل ذلك التاريخ لم تعتقد أوروبا أن حربا واسعة النطاق كانت وشيكة، وأن روسيا تحت حكم بوتين تعول على تقسيم أوروبا وإضعافها.
استعادة الاتحاد السوفياتي هو حلم موسكو، لكن كل المؤشرات تقول إن بوتين لا يسعى إلى احتلال الأراض في المقام الأول، بقدر سعيه الى فرض قوته ونفوذه خارج حدود بلاده، وتحديدا في شمال أوروبا.
ثروات القطب الشمالي
كان الاهتمام بمنطقة دول شمال أوروبا قد تعاظم في العقدين الأخيرين، بعد التقارير التي تحدثت عن ارتفاع درجات الحرارة في القطب الشمالي بوتيرة تنبئ بذوبان الجليد عن أجزاء منه بحلول منتصف القرن الحالي. وزاد التركيز على المنطقة بعد الصفقة التي عرضها ترامب على الدانمارك لشراء جزيرة غرينلاند عام 2019. ويعكس هذا الاهتمام حجم طموحات القوى العظمى في المنطقة القطبية الشمالية، وسعيها الى تعزيز مواقعها فيها ومحاولة السيطرة عليها. ولا يتعلق الأمر فقط بالمصالح الأمنية والعسكرية، بل أيضا بالتحكم في معادن وغاز وكنوز القطب الشمالي النادرة، والتي كانت منسية وصارت محط أطماع القوى الاقتصادية الدولية.
ترى روسيا في تحول الغطاء الجليدي في منطقة القطب الشمالي إلى محيط صالح للملاحة، بفعل التغير المناخي، تهديدًا عسكريًا متزايدًا
تهتم تلك القوى بتوكيد حجم نفوذها وقوتها قبل قص شريط البدء باستخراج ثروات القطب وإنشاء بنى تحتية أساسية: خط اتصالات وبناء موانئ وممرات بحرية بديلة لطرق التجارة العالميّة. والى جانب الطموحات الأميركية في السيطرة على بحر الشمال وتطلعات الصين لبناء كاسحات جليد تساعدها في إنشاء “طريق الحرير في القطب الشمالي” وزيادة أنشطتها في تجاه غرينلاند وأيسلندا، تعول روسيا على الممر الشمالي الشرقي لربط أوروبا بآسيا عن طريق سيبيريا، وإقامة قواعد العسكرية وعلمية. فهذا الممر أصبح الآن صالحًا للملاحة لعدة أشهر في السنة، وهو فرق كبير مقارنة بما كان عليه قبل عشر سنوات فقط، ويقصر بشكل كبير الأطر الزمنية للنقل.
لذا حاولت دول الشمال الأوروبي التأكيد على ضرورة إبقاء الموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز والفحم، في باطن الأرض في منطقة القطب الشمالي، وعلى أن التنقيب عن كنوزه يزيد من المخاطر الامنية بسبب اهتمام روسيا المتزايد في المنطقة، ما اعتُبر مؤشرا على أن القطب الشمالي أصبح منطقة متنازعاً عليها بين دول الشمال الأوروبي وروسيا.
استراتيجية دول شمال أوروبا
ترى روسيا في تحول الغطاء الجليدي في منطقة القطب الشمالي إلى محيط صالح للملاحة، بفعل التغير المناخي، تهديدًا عسكريًا متزايدًا. ويُنظر إلى هذا التهديد على أنه خطير في المنطقة المجاورة لبلدان الشمال الأوروبي، وتحديدا في منطقة مورمانسك، أهم ميناء لروسيا على المحيط القطبي والمتميز بخلوه من الجليد طوال العام. هذا ما دفع روسيا إلى إقامة قاعدة جوية عسكرية أقرب إلى القاعدة العسكرية الأمريكية “ثول” بشمال غرينلاند. والتنافس العسكري الدولي على المنطقة أثار مخاوف الدول الشمالية، ما حمل السويد والنرويج وفنلندا على إبرام اتفاقية في عام 2021، لتعزيز التعاون العسكري في منطقة الشمال لتكون رادعة لروسيا بالدرجة الأولى، ردا على قيامها بالمزيد من التدريبات والمناورات المتقدمة قرب من فنلندا.
عند تولي السويد الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي مطلع العام الحالي، طالبتها جهات عدة بالعمل الجاد والتحرك العاجل في القطب الشمالي من خلال الاتحاد الأوروبي باعتباره الحلقة الأكثر أهمية لتقوية وترسيخ سياسة القطب الشمالي. ومن أبرز تلك الجهات، جمعية الشمال الاسكندنافية في ستوكهولم التي حثت السويد ودول الشمال الأوروبي والاتحاد الأوروبي على تطوير استراتيجيات في المنطقة أواخر الصيف الفائت. وحذرت من أن حرب بوتين ضد أوكرانيا هي بمثابة “تغيير تاريخي” يتطلب من السويد مجهودا في فترة رئاستها الاتحاد الاوروبي، ويتناسب مع هذه التطورات. وربما هذا أحد الأسباب التي يفسر رغبة روسيا في تأخير عملية انضمام السويد الى حلف الناتو، لتحول دون تسليحها. لا سيما أن السويد تمتلك ميزة عسكرية في تصنيع الأسلحة الجوية والبرية، وتعتبر من كبار مصنعي السلاح التقليدي والمتقدم في العالم. وتدرك روسيا أن حلف الناتو أصبح الحلبة الأكثر أهمية عندما يتعلق الأمر بالعمل النشط لضمان بقاء القطب الشمالي منطقة هادئة ومستقرة لجميع دول الشمال.
جميع دول الشمال الأوروبي تعتبر روسيا مصدر خطر عليها، تجري السويد وفنلندا والنرويج لقاءات دورية منذ تولي السويد رئاسة الاتحاد الأوروبي مطلع العام الحالي
السويد تعوق خطط روسيا
انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الأطلسي يحدث تغييرا جيوسياسيا في شمال أوروبا، فيزيد من التفوق الغربي عسكريا وجغرافيا وسياسيا واقتصاديا، نظرا الى الحدود البرية والبحرية المشتركة بين روسيا والبلدين. وهذا ما يحاول بوتين أن يتفاداه، أقله قبل استعادة موسكو بعض السيطرة والقوة، نتيجة إخفاقها حتى الآن في أوكرانيا.
لطالما أدركت دول الشمال أن المناورات العسكرية الروسية المتتالية في بحر البلطيق على مدى السنوات السابقة، كانت جزءا من مخطط روسي لبسط سيطرتها على المنطقة الشمالية الاستراتيجية المحيطة بالقطب الشمالي وللاستيلاء على معادن بحر البلطيق النادرة وخصوصا “المنغنيز” في خليج بوثنيا في السويد.
ولأن تلك الاعتداءت كانت تحدث قرب السويد كونها دولة منفردة وليست عضواً في حلف الناتو، تعززت شكوك دول الشمال بأن السويد تشكل أولى العقبات التي ينوي بوتين إزالتها في المنطقة الشمالية. ولم تكن المعلومات الاستخباراتية التي نشرها مركز الابحاث الأميركي “سيبا” في عام 2015 – بشأن قيام روسيا بمناورات عسكرية بمشاركة 33 الف جندي بهدف تدريبهم على كيفية اجتياح جزيرة غوتلاند السويدية في بحر البلطيق – صعبة التصديق بعد سنة من ضم روسيا شبه جزيرة القرم. ومنذ ذلك الحين، بدأت حال العداء بين السويد وروسيا تاخذ منحى أكثر جديا. وبدأت ستوكهولم في عام 2016 بوضع خطة عسكرية استعداداً لحرب دفاعية محتملة بوجه اعتداء محتمل من موسكو، قبل أن ترتأي الانضمام الى حلف الناتو بعد غزو أوكرانيا.
وبما أن جميع دول الشمال الأوروبي تعتبر روسيا مصدر خطر عليها، تجري السويد وفنلندا والنرويج لقاءات دورية منذ تولي السويد رئاسة الاتحاد الأوروبي مطلع العام الحالي. وذلك لتنسيق القرارات التي من شأنها التأثير على روسيا لمنعها من الفوز على أوكرانيا ولتقليل حجم الخطر على منطقة الشمال الأوروبي. وحجم المناكفات بين السويد وروسيا لا يقف هنا. فالسويد تعمل من موقعها الرئاسي على دفع الاتحاد الأوروبي الى تصنيف مجموعة المرتزقة الروس “فاغنر” على أنها جماعة إرهابية، وترى أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يفرض استراتيجيات لمواجهة تأثير مجموعة فاغنر الروسية في إفريقيا.
إقرأ أيضاً: درس أوكرانيا: مصالح لا مبادئ
طموحات بوتين واسعة النطاق وتهدف إلى تشكيل دولة روسية عظيمة يمكنها ضم كامل أراضي جورجيا التي احتلت روسيا أجزاء منها، وكذلك أرمينيا في القوقاز، ومولدوفا، وآسيا الوسطى، ومن ثم بالطبع أوكرانيا ودول البلطيق. لكن أكثر ما يريده بوتين هو أن يكون قادرًا على اتخاذ القرار خارج روسيا، لا سيّما بسط نفوذه السياسي والأمني في منطقة الشمال الأوروبي للتنافس على حصص معادن بحر البلطيق النادرة، وكنوز القطب الشمالي الخام، والقنوات الدولية لتصدير الغاز الروسي والبترول النرويجي.