مع كلّ يوم يقترب موعد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، يزداد تعقيداً الوضع المالي والاقتصادي، وحتى السياسي. كان آخر هذه التعقيدات ما كشفته قناة “العربية – الحدث” نقلاً عن مصادر في الخزينة الأميركية، من أنّها “على بُعد خطوة واحدة من فرض عقوبات ضدّ رياض سلامة” بعدما قالت إنّه “كشف عن علاقة تربطه بحزب الله”. كلام نفته مصادر دبلوماسية أميركية عبر “الجديد”، واضعة الأمر في إطار “الشائعات التي يطلقها أشخاص بهدف تأجيج الأزمة الاقتصادية في لبنان من أجل مصالحهم”.
ولأنّ “اللبيب من الإشارة يفهم”، فقد يكون سبب تلك “التسريبات” إثارة موضوع التمديد لسلامة، على ما علم “أساس” من مصادر موثوقة ومطّلعة.
مصدر عليم بخفايا ما يدور في مصرف لبنان لـ”أساس”: سلامة هو “أجمل هديّة للسلطة اليوم”، فهو الوحيد القادر على “امتصاص الصدمات وتلقّف جميع الاتهامات واللوم بهدوء، فيما يجلس بمكتبه… فمن أي سيأتون بسلامة آخر إذا رحل؟”
تنتهي ولاية سلامة في الأوّل من شهر تموز، أي بعد نحو 5 أشهر، وقد أعلن سلامة في آخر مقابلة تلفزيونية، قبل أيام، أنّه لن يطلب التمديد لنفسه، لكنّ المعلومات تفيد بأنّ ثنائي “حزب الله” و”حركة أمل” فاتحا سلامة بهذا الاقتراح أخيراً، وهو حتّى اللحظة لم يعطِ جواباً نهائياً.
تفيد معلومات أخرى بأنّ سلامة كان يعدّ العدّة للانتقال إلى الإمارات العربية المتحدة بعد انتهاء ولايته، في سياق “خروج آمن” من دون أن يفتح خزائن الأسرار، منذ 30 عاماً إلى اليوم، لكلّ الطبقة السياسية في لبنان، وربّما خارجه.
معضلة المادّة 25
تكمن هواجس “حزب الله” و”حركة أمل” في المادة 25 من “قانون النقد والتسليف”، التي تقول إنّه “بحال شغور منصب الحاكم، يتولّى نائب الحاكم الأوّل مهامّ الحاكم ريثما يُعيَّن حاكم جديد”. وكما هو معروف، فإنّ مركز النائب الأول مكرّس للطائفة الشيعية، أي في حال شغور منصب سلامة ستؤول الحاكمية إلى الدكتور وسيم منصوري، الذي أُبلغ هو الآخر رفض الثنائي الشيعي بشكل قاطع تولّيه هذا المركز تحت أيّ ظرف، بحسب مصادر عليمة، وذلك لسببين:
– أوّلاً، لأنّ الحزب والحركة لا يريدان استفزاز المسيحيين، وتصوير “الشيعة” على أنّهم يطمحون إلى “الاستيلاء” على هذا المنصب، خصوصاً بعد إصرار “الثنائي” على تولّي “حقيبة المالية”، التي كُرّست للطائفة الشيعية بفعل الأمر الواقع.
– ثانياً، لأنّهما يرفضان أن تتحمّل الطائفة الشيعية وزر استمرار انهيار الليرة اللبنانية وتبعاتها على الواقع المالي والاقتصادي، الذي يُنبىء بأنّه آيل إلى مزيد من السقوط الحرّ في حال استمرار الشغور في سدّة الرئاسة لأمد طويل، وهذا ما سيحصل على ما يبدو.
إضافة إلى ذلك، يعتبر فريقا “الثنائي الشيعي” أنّ بتّ التمديد قبل انتهاء ولاية سلامة سيمنحهما هامشاً إضافياً للتحرّك بملف الرئاسة، لأنّ الفراغ في الحاكمية سيكون أمراً ضاغطاً على الفراغ الرئاسي، وبذلك يفقد الحزب والحركة هامش المناورة. ولا يُستبعد أن يكونا في حينه ملزمين بالرضوخ لمطلب تبنّي اسم وسطيّ على وقع “الضربات” النقدية والاقتصادية التي لن ترحم أحداً.
تفيد المعلومات بأنّ سلامة كان يعدّ العدّة للانتقال إلى الإمارات العربية المتحدة بعد انتهاء ولايته، في سياق “خروج آمن” يمكن أن يجنّبه الملاحقات، ومن دون أن يفتح خزائن الأسرار، منذ 30 عاماً إلى اليوم، لكلّ الطبقة السياسية في لبنان، وربّما خارجه
إلى جانب الثنائي يتشارك هذه الهواجس جميع أركان السلطة، لأنّ دور سلامة تخطّى أخيراً حيّز الحاكمية وصولاً إلى ما يشبه “رئيس حكومة الظلّ”، فهو من يقرّر ويبتّ استيراد المحروقات والأدوية، وهو من يوافق على فتح اعتمادات الفيول، وهو من يدفع الرواتب لموظّفي القطاع العام بالنيابة عن الحكومة الفعلية، ويتدخّل في السوق بين الحين والآخر من أجل لجم سعر الصرف والتخفيف من حدّة غضب الناس على المنظومة كلّها.
في هذا الصدد، يقول مصدر عليم بخفايا ما يدور في مصرف لبنان لـ”أساس” إنّ سلامة هو “أجمل هديّة للسلطة اليوم”، فهو الوحيد القادر على “امتصاص الصدمات وتلقّف جميع الاتهامات واللوم بهدوء، فيما يجلس بمكتبه… فمن أي سيأتون بسلامة آخر إذا رحل؟”.
خيارات سلامة
عمليّاً، يمكن القول إنّ سلامة أمامه خياران:
1- قبول التمديد: بمعزل عن “الدلع” الذي يبديه الحاكم، فهو يعرف أنّ الأفق أمامه مسدود، وأنّ الثنائي هما الفريق الذي يحميه اليوم والقادر على تمرير هذا الطرح من خلال مجلس الوزراء، خصوصاً أنّ ميقاتي لا يرفض هذا الخيار. قد تمرّ تخريجة التمديد لسلامة على غرار التخريجات السابقة للفيول أو القمح أو أدوية الأمراض المزمنة، تحت مسمّى “جلسات الضرورة”، من خلال تأمين النصاب اللازم لتلك الجلسة بالطريقة المعهودة إيّاها، لكنّ ثمّة من يقول إنّ هذا الخيار شبه مستحيل في ظلّ الظروف الحالية.
أمّا الفرقاء المسيحيون الرافضون لبقاء سلامة (التيار الوطني الحر مثلاً)، فقد يرضخون في نهاية المطاف، وفق الحجج إيّاها (حماية حقوق المسيحيين)، أي تحت تهديد ضياع هذا المركز نتيجة الفوضى التي قد تنشأ بعد الفراغ على غرار ضياع مراكز أخرى مثل منصب المدير العام للأمن العام.
2- رفض التمديد: سلامة يشعر أنّه بات محاصَراً قضائياً: في الداخل بواسطة الدعاوى المتلاحقة من القاضية غادة عون (ومن يقف خلفها) وربّما غير غادة عون، خصوصاً عبر ما يحكى عن تخريجة للتحقيقات الأوروبية تقضي بالادّعاء على سلامة “محلّياً” من أجل تصفير التحقيقات الأوروبية.
هو محاصَر أيضاً من الخارج، إن كان من خلال الدعاوى الأوروبية، التي تكشف تطوّراتها أنّ الخواتيم قد لا تكون سعيدة، وقد تفضي إلى الادّعاء على سلامة في أوروبا، أو عبر الإشارات التي بدأت الخزينة الأميركية ترسلها بين الحين والآخر. وقد ظهرت جليّة في البداية عبر نصّ العقوبات الأخيرة ضدّ حسن مقلّد وشركة الصيرفة التي يملكها، وقبل أيام في تسريبات الخزينة لقناة “العربية الحدث”.
يقول مصدر مطّلع على سياسات الخزينة الأميركية لـ”أساس” إنّ هذه التسريبات من باب “هزّ العصا”. فالخزينة الأميركية أذكى من أن تُدخل لبنان في هذا النفق بهذا التوقيت بالتحديد. وعلى ما يبدو وُجّهت هذه الإشارة إلى من يفكّر أو يسعى إلى التمديد لسلامة.
في معرض تعقيبه على تلك التسريبات، يعود المصدر إلى الطريقة التي أُقصيت بها شركة ميشال مكتّف من السوق، ثمّ استبدال مصرف لبنان لها بشركة مقلّد. في نظره كان هذا الاستبدال “دعسة ناقصة” من سلامة لأنّه بذلك يكون كمن نقل البندقية من كتف إلى كتف: “كان يمكن لسلامة الركون إلى شركة محايدة نظيفة ولا تشوبها الشبهات، من أجل تغطية تدخّله في السوق ولمّ الدولارات، وليس اللجوء إلى مقلّد المقرّب من حزب الله والنظام السوري، وهو أمر لا يخفى على الخزانة الأميركية”.
هل من خيار ثالث؟
ثمّة معضلة إضافية تواجه الحاكم وتتعلّق بـ”منع السفر” المسطَّر بحقّه. وهو بالمناسبة الإجراء الوحيد الذي دخل حيّز التطبيق ضدّ سلامة من بين كلّ الإجراءات القضائية التي سُطّرت بحقّه، وكأنّ ثمّة من يصرّ على بقائه في لبنان ويرفض رحيله أو تنحّيه أو غيابه عن دائرة “السيطرة”.
إقرأ أيضاً: المصارف تواجه السلطة وصندوق النقد: يريدون دفننا
ربّما كلّ هذه المعطيات تقود إلى خيار ثالث أكثر عقلانية، وهو خيار الوصول إلى تسوية رئاسية قبل انتهاء ولاية سلامة، خصوصاً أنّ الوضع الاقتصادي ما عاد يحتمل تعطيل الانتخابات الرئاسية أبعد من شهر تموز. حتماً سيتمّ اتفاق بين الفرقاء السياسيين على اسم الرئيس العتيد بمباركة خارجية، ولا سيّما من كلّ من فرنسا والولايات المتحدة.
ربّما تتضمّن “الصفقة” في حينه مخرجاً لسلامة، خصوصاً أنّ “تقليعة” العهد الجديد وعدّة عمل العهد الجديد تتطلّب فريقاً جديداً. ولا يبدو أنّ الفرنسيين أو حتى الأميركيين سيعارضون خروج سلامة إن كان الثمن انتخاب رئيس جديد للبلاد وتشكيل حكومة تكون قادرة على إتمام الإصلاحات. بهذه الطريقة يُحفظ للجالس على كرسي بعبدا حقّ تعيين “حاكم عهده” الجديد في منطقة الحمرا، بينما يخرج الحاكم “السابق” من لبنان وفق شروط “الخروج الآمن”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@