لم تُكشف بعد أسرار اجتماع باريس الأخير كلّها.
منها أنّه لم يكن بالفعل لقاء خماسيّاً.
ومنها أنّه كان هناك فعلاً بحثٌ في مرشّحين وأسماء. وكان هناك حسم.
ومنها أنّ بنوداً أخرى طُرحت، وصولاً إلى المال والمصارف.
ومنها أخيراً الفرض على ميقاتي أن يُصدر توضيحاً لتصريحه بعد لقائه السفراء.
أسرار كثيرة لا بدّ من محاولة كشفها.
************************
طبعاً لا شيء غير المصادفة جعل ذلك الاجتماع يحصل بين هزّتين:
– هزّة الشريط الوثائقي الطفيفة على شاشة فرنسية شبه رسمية عن حزب الله.
– زلزال تركيا وسوريا بمآسيه المستمرّة.
بشيء من سياسة الممكن وكثير من البراغماتية، بدا الفرنسي أنّه يريد بشكل ملحّ وماسّ، الخروج من اللقاء بحلّ ممكن قابل للتطبيق والتنفيذ فوراً، ولو على حساب بعض الاعتبارات، من أيّ نوع كانت أو طرف كان
السعوديون حاولوا تأجيل الاجتماع بضعة أيّام. الفرنسيون تمنّوا وألحّوا، حتى تثبّت الموعد بعد زيارة وزيرة الخارجية الماكرونيّة للعاصمة السعودية.
على الطاولة الباريسية كان هناك فعليّاً فريقان، ومراقبان، ومتعهّد تنفيذ.
الفريق الأوّل هو الفرنسي:
جاء محمّلاً بالكثير من الهواجس والاعتبارات وتضارب الأولويات. شيء من ذاكرة “الأمّ الحنون”، معطوفة على “تروما” الفشل الرئاسي بين زيارتَيْ ماكرون عقب انفجار 4 آب لبيروت، وعجزه خلالهما عن تحقيق مبادرته الإنقاذية. يضاف إلى كلّ ذلك هاجس باريس من اتّهامها بمغازلة حزب الله، فيما هي تتصلّب مع طهران وتخوض معها دبلوماسية الرهائن، في توتّر يذكّر بما حصل بين العاصمتين منتصف الثمانينيات، وفي بيروت بالذات، وتحت تسميات مختلفة للقبضة الإيرانية يومها.
بينما أولويّات الإليزيه اليوم متبدّلة كليّاً، منذ لحظة جنون بوتين قبل عام كامل في قلب أوروبا، ومنذ تحوّل ممثّل كوميدي سابق، من آل زيلينسكي، نجماً صاعداً في السياسة الأوروبية بلا منازع، وحاصداً للاحتضانات الماكرونيّة البلا نهاية.
خلاصة هذه الأجواء الفرنسية تجسّدت على طاولة الاجتماع اللبناني موقفاً أقرب ما يكون إلى مقولة “نريد حلّاً”. بشيء من سياسة الممكن وكثير من البراغماتية، بدا الفرنسي أنّه يريد بشكل ملحّ وماسّ، الخروج من اللقاء بحلّ ممكن قابل للتطبيق والتنفيذ فوراً، ولو على حساب بعض الاعتبارات، من أيّ نوع كانت أو طرف كان.
في المقابل كان فريق ثان، هو السعوديّ:
فريق جسّد في تلك اللحظة الحكمة القديمة بأنّ الغنيّ هو المستغني. فكيف إذا كان في هذه الحال ليس الغنيّ وحسب، بل الأغنى والأوحد. لم يُبدِ السعودي في أيّ لحظة نوعاً من الحماسة للّقاء، ولا للملفّ اللبناني برمّته. موقفه منذ البداية بات معروفاً: “إذا ذهب لبنان في الاتجاه الذي نتمنّاه، فنحن جاهزون لأقصى المساعدة”. والاتجاه المقصود يعني أربع نقاط: رئيس سيادي إصلاحي، حكومة فعليّة لا صوريّة، إصلاحات وفق أجندة المؤسّسات الدولية، وعودة إلى الشرعيّتين العربية والدولية.
“غير ذلك، إنسونا. ولا لزوم للكلام”. ملخّص الموقف السعودي بدا أقرب إلى مقولة “نريد حقّاً”، ومن زاوية الرياض.
الأميركي والمصري كانا أقرب إلى مراقبين جاهزين للترجمة أكثر منهما للمبادرة وطرح الأفكار، مع شيء من توزّع أدوار بينهما: المصري يترجم بعض دوافع الفرنسي إلى العربية، بينما الأميركي أقرب إلى ترجمة الموقف السعودي إلى الفرنسية.
يبقى القطري. مشارك بالوجود، لكن ملتزم الصمت. ينتظر ختام البحث وصدور النتائج النهائية كي يتكلّف ويكلّف نفسه بالتطبيق. شيء من متعهّد تنفيذ أشغال دبلوماسية، أو ملتزم تجسيد اتفاقيات دولية. يبدأ عمله بعد فضّ العروض. قبلها لا دور له غير الترقّب والجهوزية العملانية.
في اجتماعَي السفراء الخمسة مع برّي وميقاتي، بدا الدبلوماسيون وكأنّهم يقرأون في ورقة واحدة. أصلاً قيل إنّ ورقة موحّدة كانت بين أيديهم فعلاً
رحلة البيان الموؤود
وصل البحث إلى البيان. وكانت هناك مسوّدة. انطلقت من بيان نيويورك وقمّة جدّة والورقة الكويتية. فجأة خرج السعودي بورقة جديدة سقفها أقلّ ممّا توقّعته باريس في الشكل. لا تذكير بقرارات أممية من أرقام 1559 و1680 وسواهما. لكن تأكيد على اتفاق عمره من لحظة الفراغ الرئاسي في بيروت: لا نبحث في الأسماء إطلاقاً، كي لا نقع في خطأ 2014 – 2016، يوم بدأنا بترشيح سمير جعجع، فانتهينا إلى انتخاب ميشال عون. لسبب بسيط أنّنا بادرنا إلى طرح الأسماء. ومن يطرح يُحرق ويحترق. الآن، نسكت وننتظر.
حاول الفرنسي الالتفاف على الطرح السعودي عبر مقاربة أنّه: فلنحدّد بعض الثوابت في هذا المجال. ثابتة أولى أنّ هناك مرشّحين اثنين جدّيّين في السباق لا غير. قائد الجيش وسليمان فرنجية. ثابتة ثانية: فلنفكّر معاً، هل ثمّة رغبة أو قدرة على البحث في خيار ثالث؟
ومرّة جديدة عاد السعودي إلى ثوابته: لا أسماء. لا شيء تغيّر في مواقفنا المعروفة من الأسماء المذكورة. كلّ كلام آخر هو تنازل. ولا يمكن أن نتنازل.
تعثّر البحث، فتعدّلت مسوّدة البيان، ثمّ تعرقلت عملية صدوره. بين ضرورات التغيير، ثمّ العودة إلى الإدارات لإقرار التعديلات، انتهت ساعتا اللقاء، ثمّ ساعتا الغداء، بلا نتائج حاسمة. وبالتالي بلا إعلان ختاميّ.
بين طاولتَي الكلام والطعام، قيل إنّ الفرنسي حاول جسّ النبض حيال بدائل في مصرف لبنان، كما حيال إمكان التفكير في وديعة ماليّة سريعة للدعم، فظلّ الجواب السعودي إعادة إلى ما سبق: مقاربة شاملة من النقاط الأربع، وقبلذاك لا شيء للبحث.
محاولة فرنسية أخيرة
قيل أيضاً أنّ الفرنسيين حاولوا التشجيع على ضرورة المساعدة. ذُكر أنّ رهانات الغاز والنفط اللبنانيَّين قد لا تكون في محلّها، وأنّ شركة توتال غير متحمّسة ولا تتوقّع الكثير، وأنّ أولويّاتها في القطاع في أمكنة أخرى، وأنّه لولا مونة الإدارة الحكومية الفرنسية، لتأخّرت وتلكّأت أكثر… ولا جواب سعوديّاً.
ماذا سنفعل الآن؟
سؤالٌ طُرح قبل المغادرة. لا شيء. نقول إنّ على المسؤولين اللبنانيين إنقاذ أنفسهم، وإنّ “الذين يعرقلون انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة مكتملة الصلاحيات سوف يواجهون تداعيات سلبية”. ثمّ ننتظر تفاعلات الجميع مع هذا الكلام ومع الوقت الفاصل. ثمّ نتداول ونقرّر عودتنا إلى الاجتماع مجدّداً، أو رفع مستوى اللقاء لمشاركة الوزراء، وبالتالي الانتقال من لغة الحوار إلى لغة القرار.
في اجتماعَي السفراء الخمسة مع برّي وميقاتي، بدا الدبلوماسيون وكأنّهم يقرأون في ورقة واحدة. أصلاً قيل إنّ ورقة موحّدة كانت بين أيديهم فعلاً. خلاصة قراءتهم الأحاديّة بأصوات متعدّدة: “هذا ما لدينا. الباقي عليكم”. حين اجتهد رئيس الحكومة في بيانه لتحميلهم التهويل “بإعادة النظر بمجمل العلاقات مع لبنان”، بدا وكأنّه يوحي بخارطة طريق دولية. بينما العكس هو الصحيح. وهو ما اقتضى التوضيح: هناك “تداعيات سلبية” على المعرقلين في بيروت، وبالتالي المسؤولية كلّ المسؤولية على عاتقكم.
إقرأ أيضاً: واشنطن تخون الشعب السوريّ…. مرّة أخرى!
هل يمكن لهذا المشهد أن يصمد حيال كلّ التطوّرات المقبلة؟ ماذا لو بلغ الانهيار الداخلي حدّ الانفجار غداً؟
أو ماذا لو عُقدت فجأة جولة التفاوض السادسة بين الرياض وطهران في بغداد غداً، وكانت على مستوى سياسي لا أمنيّ، كما ألمح رئيس الحكومة العراقية؟ وماذا لو كانت ثمّة بوادر لذلك في ملفّ تبادل الرهائن والأموال بين أميركا وطهران؟
فهل تظلّ اللغة الباريسية عند هذا الحدّ أم تتبدّل؟
مسألة تستحقّ المتابعة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@