من راقب ما تسرّب من أعمال الاجتماع الخماسي بشأن لبنان في باريس في 6 شباط الماضي، أمكنه استنتاج وجود استعصاء إقليمي ودولي يمنع حتى الآن تسوية خارجية تُفرض على الداخل اللبناني. والمفارقة أنّ هذا الاستعصاء تقابله جهوزية كاملة من فرقاء السياسة في لبنان للسير بمن ترعاه إرادة الخارج وانتخابه رئيساً للجمهورية. يكفي تأمّل طبيعة الموانع المحليّة لرصد أنّها هامش ينتظر متناً من خارج الحدود.
تصدّع لبنان والموقف الدوليّ
تشاركت الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومصر وقطر في اجتماع باريس. وسبق للدول الثلاث الأولى أن تحادثت وتواصلت وأصدرت مواقف وبيانات بشأن ما هو مطلوب للحلّ اللبناني. أمّا انضمام القاهرة والدوحة فيُراد منه توسيع مظلّة التوافق، سواء في ما تملكه قطر من علاقات متقدّمة مع إيران وما تملكه مصر من ثقل عربي إقليمي ودولي يسهم في توليف توافقات من أجل لبنان.
من يدقّق عن كثب في مسار الموقف العربي والدولي من الشأن اللبناني انتهاء بالاجتماع التشاوري في باريس، يستنتج أن لا “تطبيع” ماليّاً واقتصادياً وسياسياً خارجياً مع لبنان من دون الالتزام بشروط المملكة العربية السعودية
تمثّل الدول الخمس مزاجاً واحداً وإن كان متعدّداً في مقاربة الشأن اللبناني. يتّفق الجميع على أنّ خلاص البلد يتطلّب تنفيذ إصلاحات وشروط، سواء تلك التي يردّدها بيأس صندوق النقد والبنك الدوليّان، أو تلك التي حملتها المبادرة الكويتية في كانون الثاني 2022، أو تلك التي حفلت بها بيانات الجامعة العربية، وكانت واضحة حازمة بارزة في البيان الثلاثي الأميركي – الفرنسي – السعودي في 21 أيلول الماضي.
مع ذلك، غياب بيان مشترك يصدر عن المجتمعين في باريس لم يكشف بالضرورة خلافاً، ما داموا لا يختلفون على شيء ممّا يطلبونه لإصلاح البلد وتصويب أدائه. لكنّ الأمر يفصح مع ذلك عن عجز في الوقت الراهن عن ابتكار آليّات تمثّل تحوّلاً عملانيّاً لاجتراح الحلّ في لبنان. بمعنى آخر، يقف التصدّع اللافت في النظام الدولي المتفاقم بسبب الحرب في أوكرانيا وتصاعد التوتّر الغربي – الصيني واستفادة إيران من هذه الفوضى عائقاً في لبنان (والمنطقة) أمام توافقات في باريس تغيب عنها مصالح عواصم أخرى.
أوراق اللغز اللبنانيّ
يعرف أصحاب ورشة باريس ذلك ويستنتجون عدم امتلاكهم كلّ أوراق اللغز اللبناني، على الرغم من تحكّمهم بأغلبها:
– فرنسا صاحبة المبادرة الأولى منذ زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبنان بعد يومين على انفجار مرفأ عاصمته في 4 آب 2020.
– الولايات المتحدة صاحبة “الفضل” الأكبر والأوّل في اتفاق ترسيم الحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية.
– قطر باتت منذ 29 كانون الثاني الماضي (من خلال شركة “قطر للطاقة”) شريكاً في اتفاقية استكشاف وإنتاج الغاز في المياه الإقليمية اللبنانية.
– مصر لاعب كبير يملك علاقات دولية وإقليمية، ولها يد طولى في سوق الطاقة الدولي، وبات دورها مطلوباً من كلّ أطراف الشأن اللبناني.
– السعودية بوزنها الإقليمي والدولي المتصاعد تحمل بهدوء وحكمة فيتو نهائيّاً ضدّ التمديد لحكم الأمر الواقع في لبنان، وحولها تلتفّ أيّة ديناميّة جادّة لإخراج لبنان من مأزقه التاريخي.
تمثّل الدول الخمس مزاجاً واحداً وإن كان متعدّداً في مقاربة الشأن اللبناني. يتّفق الجميع على أنّ خلاص البلد يتطلّب تنفيذ إصلاحات وشروط
لم يفاجأ المجتمعون بتعذّر الخروج بخلاصات ناجعة. فلو كانوا واثقين أو ذاهبين من أجل ذلك لارتفعت طبيعة المشاركين إلى مستويات وزارية سياسية أرفع. ولم تكن إيران حاضرة ولا حتى شبه حاضرة، ولا يمكن اعتبار مشاركة قطر ممثّلاً مقنَّعاً لذلك الحضور. صحيح أنّ للدوحة علاقات متميّزة بإيران ورعت الاتّفاق الذي جرّ الفرقاء اللبنانيين إلى العاصمة القطرية بعد أحداث “7 أيار” 2008 بالشراكة مع طهران. لكنّ الظروف اختلفت، سواء في المشهدين الإقليمي والدولي أو حتى في تموضع الدوحة الكامل داخل المجموعة الخليجية بالتوافق الكامل مع الرياض، بعد قرارات قمّة العلا في عام 2021.
الرياض تواجه الغرب
من يدقّق عن كثب في مسار الموقف العربي والدولي من الشأن اللبناني انتهاء بالاجتماع التشاوري في باريس، يستنتج أن لا “تطبيع” ماليّاً واقتصادياً وسياسياً خارجياً مع لبنان من دون الالتزام بشروط المملكة العربية السعودية. فالرياض تودّ المساهمة في استيلاد حالة لبنانية تُنهي حالة التعفّن اللبناني التي لطالما حظيت قبل ذلك بتغطية ورعاية وقبول من الدوائر القريبة والبعيدة. ومن يراقب مطالب المؤسسات المالية الدولية (الرياض مانح أساسيّ فيها) وتلك التي تصدر عن عواصم كبرى أهمّها واشنطن وباريس، يلاحظ انزياحاً واضحاً صوب الرؤى السعودية.
تعرف طهران ذلك جيّداً، وتدرك أنّ حزبها في لبنان ما عاد قادراً على فرض مرشّحه على منوال ما فعل قبل ذلك، وأنّ السعودية هذه المرّة شريك حتميّ لا يمكن تمرير أيّ تسوية (حتى تلك التي تروّج لها إيران) بدون موافقتها ووفق شروطها. تدرك إيران أيضاً أنّ مستقبل لبنان رهن مقاربات السعودية في تحوّلاتها الجذرية التاريخية التي تنسحب قواعدها على كلّ ملفّات علاقاتها مع البعيد والقريب.
لم تتردّد الرياض في التمسّك بمواقف رافضة ومعاندة لوصاية أرادتها واشنطن على سوق الطاقة و”أوبك بلاس”. تبنّت السعودية مواقف متباينة مع المنظومة الغربية وراحت توسّع وتوطّد علاقاتها مع الصين وروسيا في سلوك يكشف للعالم كم تغيّرت المملكة. ولا مبالغة في استنتاج أنّ مآلات ملفّات أساسية في المنطقة والعالم في السياسة والأمن والاقتصاد باتت تحتاج إلى إرادة سعودية. ولسان حال الرياض ما قاله وزير المالية السعودي في 18 كانون الثاني في دافوس: “تغيّرنا.. ولّى عهد المنح والمساعدات غير المشروطة.. نريد رؤى إصلاحية”.
إقرأ أيضاً: غموض خماسيّ باريس: الموقف الإيرانيّ لم ينضج بعد
الواضح أنّ المجتمعين في باريس أو أصحاب الشأن في بيروت باتوا مذعنين لحقيقة، حتّى مرشّحو الرئاسة يعملون وفقها، مفادها أنّ لأبواب قصر الرئاسة في بعبدا مفاتيح الأرجح أنّ أغلبها والأساسيّ منها في خزائن الرياض.