نجا لبنان من الزلزال المدمّر الذي أصاب جنوب تركيا وشمال سوريا، لكن إلى حين. الزلزال المدمّر وما أعقبه من هزّات ارتدادية متباينة القوّة “الريختريّة” أدّيا إلى التهاب جرح لبناني عميق يتمثّل في المباني المتصدّعة والهشّة. ففي المدينة الكثير من هذه المباني التي كان قاطنوها قبل الزلزال ينامون وأياديهم على قلوبهم خوفاً من انهيار السقف أو الحوائط، فما بالكم اليوم بعدما اهتزّت وتمايلت مرّات ومرّات على مدى الأيام الفائتة؟
مرارات الانهيار
طرابلس مدينة الوجع الذي لا ينتهي تبدو الأكثر معاناة لوجود عدد كبير من الأبنية المتصدّعة فيها يتجاوز أرقام الدراسات والإحصاءات، ولأنّها خبرت مرارة الانهيارات. كان آخرها في مدرسة الأميركان الرسمية، وأدّى إلى استشهاد الطالبة ماغي محمود (16 عاماً) إثر انهيار بعض حجارة السقف عليها مباشرة. وقبله بأشهر قليلة، استشهدت الطفلة جمانة الديكو عقب انهيار المبنى الذي تقيم فيه عائلتها في ضهر المغر. وفي تشرين الأول 2021، توفّيت الشقيقتان صباح وحياة الزعبي إثر انهيار شرفة منزلهما في القبّة. وقبلهما استشهد عبد الرحمن وراما كاخية في كانون الأول 2019 بعدما سقط عليهما سقف منزلهما المتهالك في الميناء وهما نائمان.
طرابلس مدينة الوجع الذي لا ينتهي تبدو الأكثر معاناة لوجود عدد كبير من الأبنية المتصدّعة فيها يتجاوز أرقام الدراسات والإحصاءات
أبعد من ذلك، فقد كشف الزلزال وتردّداته عورات كانت مخفيّة. فالخطر لا يحدق فقط بالمباني المتصدّعة قبلاً أو القديمة فقط، بل أيضاً بتلك الحديثة التي لا يتجاوز عمر بعضها بضع سنين بسبب غياب الرقابة على أعمال البناء بشقَّيها الذاتي والرسمي. وثمّة مشاريع تتسرّب مياه الشتاء إليها منذ سُكِنت، وبعض الشقق فيها تحوّلت بفعل غزارة الأمطار إلى أقنية مائية. يؤدّي هذا الأمر إلى “التآكل التدريجي لتلك الأبنية وتصدّع الباطون بما يضعف قدرتها على الصمود في وجه العوامل الطبيعية”، حسب رئيس بلدية طرابلس المهندس أحمد قمر الدين.
لذلك تعالت النداءات والصرخات التي تطالب الدولة بالتحرّك محذّرة من زلزال مقبل في طرابلس بدأت أماراته تظهر تباعاً. في اليوم التالي لزلزال تركيا سقطت بعض حجارة مبنىً في الزاهرية قرب ماليّة طرابلس. وبعد أيام تكرّر المشهد نفسه. ويوم الأربعاء انهارت شرفة في أحد المباني القديمة في الميناء فأدّت إلى سقوط جريح. ويوم الجمعة انهار مبنى في حيّ ضهر المغر من دون سقوط ضحايا.
خطّة الطوارئ
كانت وزارة الداخلية قرّرت تفعيل عمل غرف الطوارئ في المحافظات وتكليف البلديات إجراء مسح للمباني بالتعاون مع نقابتَيْ المهندسين وإفادتها خلال مهلة 72 ساعة بالمباني غير المؤهّلة للسكن، حسب خطة العمل التنفيذية التي أقرّتها لجنة إدارة الكوارث الوطنية.
لكنّ مفتي طرابلس والشمال محمد الإمام هو من أخذ زمام المبادرة عوضاً عن محافظ الشمال، فعقد اجتماعاً طارئاً، حضره رئيس بلدية طرابلس أحمد قمر الدين، وأمين الصندوق في نقابة المهندسين محمد شيخ النجارين وآخرون، لتسريع عمليّات المسح. وبالفعل باشرت الفرق الهندسية من نقابة المهندسين مسح الأبنية للتأكّد من سلامتها.
يقول رئيس بلدية طرابلس أحمد قمر الدين إنّ عدد المباني المتصدّعة في طرابلس يفوق 700. لكنّ أمين صندوق نقابة المهندسين محمد شيخ النجارين يحرص على التمييز بين “التصدّعات في أساسات المباني، وتلك التي في داخل الشقق”. ويفيد بأنّه بعد الكشف على أكثر من 100 مبنى، تبيّن أنّ عدداً محدوداً جدّاً منها تصدّعت أساساته، مع استثناء حيّ ضهر المغر الذي تُصنّف جميع أبنيته خطرةً وغير صالحة للسكن لأنّها قديمة العهد وشهدت حروباً ومعارك كثيرة ما تزال آثارها بادية للعيان، إضافة إلى أنّ السلطات تغاضت عن إضافة السكان غرفاً أو طوابق في بعض الأبنية أيام الاستحقاقات الانتخابية، “الأمر الذي زاد من ضعفها وهشاشتها”، حسب شيخ النجارين الذي يعتبر أنّ “العناية الإلهية أنقذت تلك المنطقة من كارثة مهولة”. بيد أنّ ما يسري على ضهر المغر، يسري أيضاً على أغلب المنطقة المعروفة بـ”طرابلس القديمة”.
يشير شيخ النجارين إلى أنّ “المشكلة الكبرى هي غياب الصيانة الداخلية للشقق والمنازل” بسبب الصراع القديم العهد بين الملّاك والمستأجرين، ولا سيّما في المباني ذات الإيجارات القديمة. فالطرفان يمتنعان عن صيانة المنازل، الأوّلون لأنّهم يرون أنّها تقع على عاتق المقيمين فيها، في حين أنّ المستأجرين أغلبهم عاجز عن دفع أجرة الشقّة، فما بالكم بالترميم؟
مفتي طرابلس والشمال محمد الإمام هو من أخذ زمام المبادرة عوضاً عن محافظ الشمال، فعقد اجتماعاً طارئاً، حضره رئيس بلدية طرابلس أحمد قمر الدين، وأمين الصندوق في نقابة المهندسين محمد شيخ النجارين وآخرون، لتسريع عمليّات المسح
المتاهة الطرابلسيّة
تصبح القضيّة معقّدة أكثر في المباني المصنّفة “أثريّة”، وفي طرابلس الكثير منها. وهنا تدخل الترميمات في متاهة لا مخرج منها. “فالبلدية ترميها على مديرية الآثار، والأخيرة ترميها على الأولى وهكذا. المشكلة أنّه لا يوجد قرار صريح يحدّد الجهة المختصّة بترميم وإصلاح الأبنية المصنّفة أثرية”، حسب الباحث في تاريخ طرابلس جمال ساعاتي، والنتيجة أنّ “تلك المنازل تتداعى وتبدأ الانهيارات الصغيرة التي تهدّد بوقوع كارثة”.
يضرب ساعاتي مثالاً على تلك المتاهة بمبنى أثريّ تعرّض لعدّة انهيارات في عقبة الزعبية بمحلّة باب الحديد يقع على بعد أقدام قليلة من قلعة طرابلس. فقد قامت البلدية بتوجيه إنذارين عامَيْ 2015 و2016 إلى شاغليه للقيام بـ”التدعيم والترميم” مع “مراعاة شروط المنطقة الأثرية، وإلّا فستضطرّ البلدية إلى استعمال الوسائل القانونية”، وفق نصّ الإنذار. “ومع أنّ صاحب المبنى تبرّع به للبلدية من أجل ترميمه، إلا أنّ الأخيرة رفضت واكتفت بمنح ساكنيه حديداً كي يقوموا بتدعيمه بأنفسهم من دون إشراف هندسي”، وفق ما يقول ساعاتي الذي يشير إلى أنّ الكثير من الأبنية الخطرة المأهولة بالسكّان “يُتوقّع انهيارها في أيّ وقت، مثل أغلب منازل محلّة السويقة المتصدّعة منذ طوفان نهر أبو علي أواخر الخمسينيات وغيرها”. وحسب المعلومات كان في صندوق بلدية طرابلس حوالي ثلاثة مليارات ليرة مخصّصة للترميم منذ عام 2016، لكنّ المبلغ أصبح ملاليم لا قيمة لها بسبب الكسل والإهمال.
يقول قمر الدين في حديث إلى “أساس” إنّ “بلدية طرابلس بالتعاون مع نقابة المهندسين تقوم بتكوين ملفّات للمنازل التي تحتاج إلى ترميم عاجل، ثمّ تحوّلها إلى هيئة إدارة الكوارث في السراي الحكومي”، نافياً وجود خطة لإيواء العائلات “لعدم وجود إمكانيات مالية لدى البلدية”. وينفي أيضاً وجود أيّ مشاريع دعم من جهات مانحة على الرغم من كثرة الوفود الأجنبية التي تزور المدينة وبلديّتها. ويلفت إلى وجود تواصل حكومي مع الخارج للحصول على دعم ماليّ. وقد دفع هذا العجز بلديّتَيْ طرابلس والميناء إلى فتح الحدائق العامّة أمام الناس الخائفة من البقاء في منازلها.
إقرأ أيضاً: أربع شهادات عن الزلزال
المثال الأوضح على عجز السلطة تمثّل في بناية “النجاة” ذات الطوابق التسعة في شارع بور سعيد بالميناء التي غارت أساساتها في الأرض بضعة سنتيمترات على إثر الزلزال. فما كان من شرطة بلديّة الميناء إلّا أن سارعت إلى إخراج العائلات منها، وعددها 15، من دون تقديم أيّ بديل. وقد قام رئيس الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد الخير بجولة في المبنى للتأكّد من إخلائه من دون أن يحمل في جعبته أيّ حلّ. “عليكم الترميم بأنفسكم”، هذا هو الجواب الرسمي على تساؤلات قاطني بناية “النجاة” وسائر الأبنية المهدّدة بالسقوط. وتبقى الآمال معلّقة على المبادرات الفردية التي تشكّل نبض طرابلس الفعليّ في هذه السنوات الصعبة.