أربع شهادات عن الزلزال

مدة القراءة 8 د


إنّه الزلزال.. حيث يختلط الخوف بالقلق، فتضيع معهما الكلمات. لكلّ منّا شهادته عن تلك الثواني المرعبة، التي تجرّدك من كلّ مهاراتك وفنونك وإبداعاتك. يصطدم فيك الإنسان بالإعلامي فتبحث عن وسيلة كي تعبّر عن ملامحك الإنسانية في تلك التجربة الصعبة من دون أن تفقد أدواتك المهنيّة. لا يمكن لأحد أن يختصر ما حصل برواية واحدة أو بشهادة واحدة. هي شهادات ارتداديّة تماماً كالهزّات الارتدادية التي تتبع الزلزال الأوّل.

لأنّنا خفنا مع الخائفين وقلقنا مع القلقين وقلوبنا تتقطّع على الضحايا في تركيا وسوريا والبائسين اللبنانيين في تلك الليلة الباردة.

نكتب أربع شهادات توثّق الحدث من زوايا مختلفة، لكنّها تمثّل في كلٍّ منها شهادات المئات من النّاس وربّما الآلاف.

كأنّها لحظات ما بعد الموت (محمد أبي سمرا)

كأنّني كنتُ الإنسان الوحيد الباقي على هذا الكوكب المعتم في تلك اللحظات التي حوّلت حياةَ الكرة الأرضيّة والبشر عليها مناماً خاطفاً.

لم أسمع أيّ صرخة رعب. كأنّما البشر اختفوا جميعاً. ابتلعهم الظلام الأزليّ الخاطف.

فكّرت في مَيْ.

على شاشة الهاتف المضيئة قرأتُ كلمة تحت اسمها: فقتْ؟

في أيّ جهة من الكون هي؟ فكّرت.

خفتُ أن أسألها.

قبل لحظات لم أتذكّر أحداً.

كنت وحدي ووحدي، ولا أحد.

كانت لحظات ما بعد الموت. أو تساءلت كيف لم أمُتْ، فيما أتخيّلُ الجدران من حولي تتفسّخ بلا صوت، وتظلّ على حالها واقفة؟

للمرّة الأولى أفكّر أنّ الجدران كائنات حيّة.

لم يعد ضروريّاً أن أغادر السرير. أنا ما بعد الموت.

في مثل تلك اللحظات يبلغ شعور الكائن البشري بوحدته حدَّه الأقصى، الكامل والشامل. وحده في الطبيعة. وحده مع الطبيعة. ولا أحد.

تذكّرت مناماً خاطفاً، فيه طيف لجدّي. وحدنا في ذلك الوادي السحيق قرب نهر على طرف العالم والطفولة. ومناماً آخر من منامات الطيران. ومناماً لامرأة تكنس الزجاج في الصالون.

تذكّرت أنّني في بيتي في بيروت. واستعدتُ لحظات انفجار المرفأ. صخبَ الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم.

الصمت الكونيّ ما يزال شاملاً.

ثمّ حاولت أن أنام.

جيلُ الثمانينيّات: المغضوب عليهم.. (محمد بركات)

نحن الثلاثينيّين والأربعينيّين لم يفُتنا شيء من كوارث العالم لم نشهده. فقد شاهدنا الحرب الأهليّة في الثمانينيّات. وُلدنا بين الاجتياح الإسرائيلي (1982) وانتفاضة 6 شباط (1984)، وتفتّح وعينا على حربَيْ التحرير (1989) والإلغاء (1990).

في التسعينيّات عشنا الاحتلال السوري، وحرب الأيّام السبعة (1993)، ثمّ حرب نيسان (1996)، وتحرير الجنوب (2000). ولاحقاً كنّا نتنقّل بين تفجيرات متنقّلة هي الأخرى، واغتيالات متقطّعة ومتواصلة منذ 2004 إلى يومنا هذا. وعرفنا كيف أنّ فريقاً يمكن أن يقتل قيادات الآخرين ويخوِّف كلّ اللبنانيين.

بين اغتيال وآخر عشنا “ثورة الأرز” أو “انتفاضة الاستقلال”. ثمّ جاءت حرب تموز (2006) لتحصد آلاف القتلى والجرحى وتدمّر مئات الجسور وآلاف الأبنية. حرب تشبه الإبادة الجزئية. وعشنا لنروي.

بعدئذٍ حضرنا حرباً أهليّة متقطّعة في 2006 و2007 انتهت بـ7 أيّار 2008. وكنّا بين تظاهرة واغتيال وتفجير، يحلم بعضنا بـ”الحرّية والسيادة”، ويحلم البعض الآخر بتحرير القدس. وكلّ حلم كلفته “أكبر من الثاني”.

جاء 2010 ليحرق البوعزيزي جسده في تونس، وتمتدّ ألسنة نيران “الربيع العربي” إلى مصر وليبيا وصولاً إلى سوريا (2011). فبدأت موجة عنف وتفجيرات كان لنا منها نصيب جديد (2013 و2014 و2015)، بين من قرّروا المشاركة في الحرب السوريّة، وبين سوريّين قرّروا أن يردّوا في لبنان.

هدأت سوريا في 2016 تقريباً، وبدأ الانهيار الاقتصادي وهندساته المالية في لبنان (2017)، ثمّ انفجر في ثورة 17 تشرين (2019). وفي 4 آب 2020 تمّ تفجير مرفأ بيروت، ثمّ كانت اغتيالات “على الخفيف” (2021)، تلتها انقسامات جديدة. وطارت ودائع اللبنانيين وسقطت المصارف (2020 – 2023)، ثمّ فقدنا قدراتنا الشرائية مع انهيار قيمة العملة والرواتب، و”اختفت” الكهرباء، ودخلنا نفق “صيرفة” وأسعار الصرف. وجاءتنا جائحة كورونا لتكتمل حكايات الرعب التي صنعتنا وصنعناها 

اليوم جاء زلزال هزّ أسرّتنا وأيقظنا. كما لو أنّنا يجب أن “نختم” الانهيارات والحروب. لم يبقَ “نوعٌ” من الكوارث لم نجرّبه ويجرّبنا.

شهد الجيل السابق شيئاً من “حلاوة” الستّينيّات والسبعينيّات. والجيل اللاحق، جيل التسعينيّات، “زمط” من آلام الثمانينيّات. وجيل الألفيّة الجديدة فاتته مرحلة حواجز قوات الردع السورية وحروب 93 و96 وانقسامات ما بعد تحرير 2000.

نحن جيل الثمانينيّات، جيل المغضوب عليهم، لم يكن ينقصنا سوى زلزال، ولا ينقصنا شيء بعد اليوم سوى النيزك الشهير، أو يوم القيامة.

والساعة آتيةٌ لا ريب.

الفودكا وعلم الزلازل (أيمن جزّيني)

صديقي الذي يعاقر الخمر مع إيمان فطريّ ورثه عن والدَيه، كما يقول، ويبرّر عجزه عن حسم موقفه من الإيمان أو عدمه، افتتح نقاشاً مديداً عن العلمانيّة والإلحاد.

كلّما قارب العقل المادّيّ في أسئلة الخير والشرّ وفي أسئلة التطوّر، كان يرتدّ إلى التمسّك بقناعة إيمانه الفطريّ، معتبراً أنّي من الشرور التي تنتجها الحيوات البشرية. لكن في الليلة التي اهتزّ فيها لبنان جيولوجيّاً ونحن في شارع بدارو، اعتبر أنّ الله يرسل إشارة لاختبار البشر.

في اللحظات الأربعين التي تراقص فيها لبنان كلّه، وتحديداً شطره الساحليّ، على وقع هزّة مركزها تركيا، كنّا عائدين من أمسية شعرية قبل ساعة من التراقص الجيولوجيّ. وللمصادفة السعيدة على ما يقول محمود درويش كان قرارنا أن نناقش الوجود على معانيه المتقلّبة. وما كان لذلك أن يكون من دون كأس من الكحول، فوقع اختيارنا على احتساء الفودكا. وذلك قبل زهاء ثلاثين دقيقة من الاهتزاز.

البدء كان في رصف الكؤوس التي تلألأت بأشعّة الضوء. كانت الفودكا تستنشق الهواء لتزوّدنا به قبل أن نرتشفها. حاورت أعيننا قبل أن تُدخلنا في سباتها. وقبل أن تدّخرنا في ثناياها.

بعد احتساء كؤوس قليلة تراقصت الكؤوس حتى ظننّا أنّ الثمالة أخذت مأخذها. وحده صديقي المؤمن اعتبر أنّ الله أرسل إشارة الاختبار. فالإيمان وُجد لتصديق ما لا يُصدّق. خرج عن طوره وطلب الخروج للتكبير. استجبت له لأفاجأ بأنّ محيط السفارة الفرنسية وعلى مساحة استدارة الأرض التي تشغلها قد غصّت باللاجئين إلى الفراغ المحيط بها خوفاً من تساقط البنايات.

المفاجىء أنّ الجميع كان يلجأ إلى الله على طريقته، مسيحيين ومسلمين، إضافة إلى آخرين يتابعون الرسائل النصّية التي تردهم عبر الهواتف الذكيّة. آخرون مثلهم تجمّعوا في محيط “سبينس” حيث الفراغات العمرانية. وفي جبيل والدكوانة دقّوا أجراس الكنائس توسّلاً إلى الرب لكي ينجّيهم.

كلّما ارتفعت العواطف الإيمانية، كان صديقي يطلب إلى الله أن يعفيه من “شرور الدنيا” التي انخرط فيها “بسببي” على ما يتّهمني ويردّد دائماً. حاولت ما استطعت إقناعه بأنّ الهزّات الأرضيّة تحدث نتيجة انزياح في صخور طبقات الأرض العميقة بشكلٍ مفاجىء، وذلك بسبب حركة الصفائح الدائمة، ويؤدّي هذا الانكسار إلى إطلاق طاقة كبيرة تُسبّب موجات من الهزّات الأرضيّة التي تسبّب احتكاكاً بين الصخور عنيفاً. وتستمرّ الصخور في التحرّك والاحتكاك حتّى تنهار بسبب الضغط المتراكم عليها، فتؤدّي إلى حدوث الهزّة الأرضيّة، ويُطلق على المنطقة الموجودة تحت الأرض والتي تتكسّر فيها الصخور اسم مركز الزلزال. أمّا المنطقة الموجودة فوق مركز الزلزال على سطح الأرض فتُدعى بؤرة الزلزال.

شهادة نائم (زياد عيتاني)

هل كنت محظوظاً بسبب أنّ غرقي في النوم تغلّب على ارتجاجات الزلزال، أم فاتتني معايشة حدث كبير كما حصل مع معظم الناس؟

أيّهما أفضل، معايشة الحدث أم تجنّبه؟ تساؤل ما زال يداهمني، كلّما سألني صديق أو قريب أو جار. ماذا فعلت أثناء الزلزال؟

تحوّل نومي إلى ما يشبه العار بالنسبة إليّ، كمن خان أهله وقبيلته ممرِّغاً كرامتها بالتراب، أو كفارس مغوار غاب عن المعركة لحظة القتال، وعندما عاد رَمقه كلّ من التقى به بنظرة احتقار.

قصّتي مع الزلزال بدأت الساعة الرابعة فجراً، أي بعد نصف ساعة من وقوعه، حين تلقّيت أوّل اتّصال من صديقة طرابلسية كانت تصرخ: “أنا خائفة، خرجت من المنزل برفقة أولادي إلى المعرض، حيث لا وجود للأبنية والعمارات”، ثمّ سألتني فجأة: “أين أنت؟”، ارتبكت بماذا أجيبها وأنا المختبئ في فراشي تحت اللحاف.

ثمّ كان اتصال من شقيقتي: “طمّنّي عنك يا خيّي”، لم أجرؤ إلا على القول “الحمد لله”. بدأت تروي لحظات خوفها مع زوجها وبناتها قائلة: “اهتزّ بنا المنزل بعنف. الزلزال أقوى من انفجار المرفأ في 4 آب. اعتقدت في اللحظة الأولى أنّ الجنّ يحرّك المنزل، ثمّ أدركنا سريعاً أنّه زلزال، فبدأنا بالتكبير والصلاة والاستغفار، ماذا يحصل معنا يا أخي؟ ما كان ينقصنا بعد كلّ هذا القهر والعذاب إلا هذا الزلزال..”.

إقرأ أيضاً: سوريا… من الزلزال السياسيّ إلى الزلزال الطبيعيّ

هربت من الاتصالات الهاتفية إلى هاتفي أتابع تعليقات الناس على صفحات الفيسبوك ومجموعات الواتساب. غريب هو الخوف. يمتلك القدرة على توحيدنا واعتقالنا وإعادتنا إلى فطرتنا الأولى عندما كنّا صغاراً نخاف أن يخنقنا الله بحبل من السماء إن كذبنا، أو أن يحرقنا بالنار إن عصينا إرشادات الأهل.

عند السادسة صباحاً، هدأت تداعيات الزلزال في وسائل التواصل. قرّرت العودة إلى ما كنت قد ارتكبته من عار. عدت إلى النوم أنا العاجز عن فعل شيء غير الكتابة، فلعلّها تكون كفّارة عن ذنب ارتكبته حين لم أكن من الخائفين في ثواني الزلزال الغدّار.

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…