ثمّة نظرية في علم الاقتصاد، اسمها Wage-price spiral، تتحدّث عن العلاقة الوظيفية بين الأجور وارتفاع الأسعار والتضخّم. تقول النظرية إنّ رفع الرواتب يتسبّب حكماً بارتفاع الأسعار فيدخل الاقتصاد في “حلقة مقفلة” من التضخّم نتيجة أنّ رفع الأجور يتسبّب بزيادة الاستهلاك التي تؤدّي بدورها إلى ارتفاع أسعار السلع، فنعود إلى رفع الأجور ثانيةً… وهكذا دواليك.
هذا الأمر هو ما يحصل اليوم في لبنان، حيث تعمد الحكومة إلى رفع الرواتب تحت ضغوط المطالبات والإضرابات على الرغم من عدم امتلاكها للإيرادات اللازمة من أجل تغطية تلك الأجور، فتلجأ إلى مصرف لبنان الذي يدفعها من خلال طباعة الأموال التي تأكل القدرة الشرائية وتزيد نسبة التضخّم وترفع فاتورة الاستهلاك، وترفع سعر صرف الدولار.
لبنان نموذج استثنائيّ
في الدول الطبيعية، تلجأ الحكومات إلى مصارفها المركزية لتصوغ سياسات نقدية محدّدة مثل رفع سعر الفائدة عبر المصارف وتوجيه المواطنين إلى الادّخار فينخفض حجم الكتلة النقدية ويُكبح التضخّم. أمّا في لبنان فالأمر مختلف تماماً لأنّ القطاع المصرفي مشلول ومصرف لبنان عاجز ووحيد في تلك المعركة.
السلطة غير قادرة على ضبط الأجور نتيجة تآكل قدرتها الشرائية وأسباب سياسية – طائفية أخرى
للحدّ من هذه الآثار، يقوم مصرف لبنان بلعبة مزدوجة أشبه بـ”الفصام”: يدفع الرواتب بالدولار “الفريش” عبر “صيرفة” ظنّاً منه أنّه سيخفّف من ضخّ الليرات، ثمّ يمتصّ تلك الدولارات مقابل ليرات لبنانية نتيجة حاجته إليها، فتستمرّ تلك الحلقة وتترافق مع ارتفاع مستمرّ في سعر الصرف.
كان من المتوقّع كسر تلك الحلقة الجهنّمية بواحدة من طريقتين أو بالاثنتين معاً:
1- وقف زيادة الأجور في القطاع العام (ويبدو أنّه أمر صعب).
2- ضبط الاستيراد من خلال تقنين الكمّيّات أو الحدّ من استيراد بعضها من أجل خفض فاتورة الاستهلاك لدى القطاعين العامّ والخاصّ (وهذا ما لم تفعله الحكومة).
السلطة غير قادرة على ضبط الأجور نتيجة تآكل قدرتها الشرائية وأسباب سياسية – طائفية أخرى. وفي الوقت نفسه لم تتّخذ أيّ إجراء زجريّ من أجل ضبط الاستيراد أو تنظيمه أو الحدّ منه، بل على العكس تُركت أبواب الاستيراد مفتوحة على مصراعيها (خصوصاً حينما كشفت عن الدولار الجمركي قبل تطبيقه بأشهر)، وتُظهر أرقام العام الفائت أنّ الاستيراد ارتفع إلى ما يقترب من 20 مليار دولار (السلطة تتبجّح بالحديث عن نموّ يبلغ 2%، وهو نموّ مشوّه عنوانه المرض لا التعافي!).
مصرف لبنان يتصرّف
لمّا كانت الوسيلتان غير متوفّرتين، لجأ مصرف لبنان إلى ابتداع قيود جديدة للحصول على نتيجة معاكسة، منها تحويل الاقتصاد كلّه إلى “اقتصاد الكاش”، خانقاً بذلك قدرة الدورة الاقتصادية على النموّ بشكل طبيعي، مع إصراره غير المفهوم على عدم اعتماد وسائل الدفع المتاحة من خلال المؤسّسات المالية!
لهذا بات “المركزي” يواجه كلّ استحقاق يفرض عليه ضخّ ليرات لبنانية إضافية من خلال اتّخاذ إجراءات مقابلة للجم الزيادة في حجم الكتلة النقدية على حساب الدورة الاقتصادية.
بات “المركزي” يواجه كلّ استحقاق يفرض عليه ضخّ ليرات لبنانية إضافية من خلال اتّخاذ إجراءات مقابلة للجم الزيادة في حجم الكتلة النقدية على حساب الدورة الاقتصادية
من الأمثلة على ذلك إعلان مصرف لبنان رفع تسعيرة “اللولار” في المصارف من 8,000 ليرة إلى 15 ألفاً في مطلع شهر شباط من السنة الجارية. هذا الفرق بين التسعيرتين، وقدره قرابة 7 آلاف ليرة، سيحتّم على مصرف لبنان والمصارف ضخّ المزيد من الليرات، لكنّ المركزي لجأ إلى أكثر من إجراء لن تزيد الأمر إلّا سوءاً:
1- فرض دفع الرسوم الجمركية بالليرات “الكاش”: أصدر وزير المالية يوسف الخليل قبل أيام (16 من الجاري) مذكّرة موجّهة إلى مديرية الجمارك يطلب فيها استيفاء الضرائب والرسوم الجمركية بالليرات اللبنانية “الكاش” وبنسبة 50% في أقلّ تقدير.
بلا أدنى شكّ، سيعني الدفع بالليرات الكاش اعتماداً أقلّ على الشيكات المصرفية، ويعني أيضاً المزيد من “الخنق” للسيولة، ومنع الدورة الاقتصادية من التحرّك. وكلّ ذلك من أجل جمع أكبر قدر ممكن من الليرات من السوق والسيطرة على سعر الصرف (بلا جدوى).
2- رفع سعر “صيرفة”: تشير توقّعات المراقبين مع بعض المعلومات المستقاة من مصرف لبنان إلى أنّ المجلس المركزي يتدارس مسألة رفع سعر منصّة “صيرفة”، وربّما يلجأ في الأيام المقبلة إلى رفع سعرها إلى ما فوق 40 ألف ليرة (المعلومات متضاربة: البعض يقول 42 ألفاً، والبعض الآخر يؤكّد أنّ الزيادة ستصل إلى 41 ألفاً).
ستساعد زيادة 3 أو 4 آلاف ليرة مصرف لبنان على الحدّ من صرف دولارات أكثر، وستجلب إليه فائضاً إضافياً من الليرات.
المركزيّ مضارب لا مراقب
تشكّل هذه الإجراءات “وصفة” مصرف لبنان الوحيدة لاستمرار سيطرته على سعر الصرف، لكنّ هذه السيطرة تبدو محدودة أيضاً، إذ تكفي الإشارة إلى أنّ “صيرفة” بدأت مسيرتها بنحو 12 ألفاً للدولار الواحد قبل سنتين تقريباً، وها هي اليوم بـ38 ألفاً، وربّما فوق 40 ألفاً في غضون أيّام.
إقرأ أيضاً: اليمين واليسار متّفقان على تطيير الودائع
بمعنى آخر، تصعد “صيرفة” إلى سعر “السوق الموازي” بدل أن تسحبه نزولاً إلى جانبها. وهذا يؤكّد أنّ استمرار “المركزي” بتلك السياسة ما عاد يجدي نفعاً، خصوصاً أنّه يعطي إشارات واضحة تفيد بأنّه ما عاد قادراً على التوقّف عن التدخّل في السوق شراءً للدولارات، بغية تلبية ما ذكرنا أعلاه، لكن جلّ ما يفعله أنّه يضخّ قليلاً من الدولارات من جهة، ثمّ يلمّها من الجهة الأخرى لكن بـ”فجع” أكبر، رافضاً في الوقت عينه التحوّل إلى الدفع الإلكتروني. تروق له لعبة “الكاش” التي جعلت منه “مضارباً” لا “مراقباً”، وأمّا السلطة فتصرّ على فشلها وشللها وتمعن في التسويف و”التخبيص” أكثر وأكثر.
لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@