شاع بين اللبنانيّين في الأشهر الأخيرة مصطلح “الأمن الذاتي” حتّى ألِفَته الآذان، ولا سيّما مع عجز الدولة والأجهزة الأمنيّة عن لجم الظواهر الإجرامية المتزايدة في المناطق اللبنانية.
بيد أنّ اللافت هو بقاء هذا المصطلح محلّ نقاش كلاميّ فقط عند السُّنّة، فيما انتقل عند بعض المسيحيّين إلى مرحلة التنفيذ، مع بروز تنظيم “جنود الربّ” في الأشرفيّة، وسواه من إجراءات الحماية الذاتيّة المتّبعة في غير منطقة مسيحيّة، حتى إنّها وصلت إلى بعض القرى. وكان سبقهم في ذلك الدروز في الجبل. في حين أنّ حزب الله تجاوز أمنه الذاتي حدود المناطق الشيعية وبلغ صنعاء في اليمن.
في العهود الإسلاميّة، كان الخليفة هو “ظلّ الله على الأرض”. أمّا في زمن دولة الطوائف، التي نعيش في كنفها، فقد بات لدينا “حزب الله” و”جنود الربّ”. أفلا يوجد نظير سنّيّ لهما، خاصّة في طرابلس التي يعتبرها البعض “قلعة المسلمين”؟ هل هناك قلعة بلا حرّاس؟
شاع بين اللبنانيّين في الأشهر الأخيرة مصطلح “الأمن الذاتي” حتّى ألِفَته الآذان، ولا سيّما مع عجز الدولة والأجهزة الأمنيّة عن لجم الظواهر الإجرامية المتزايدة في المناطق اللبنانية
ذاكرة “جند الله”
مع الإرهاصات الأولى للحرب الأهلية عام 1975، برز على الساحة الطرابلسية تنظيم “جند الله”، ومارس الأمن الذاتي في بعض مناطق انتشاره بحكم الأحداث.
هبّت رياح ثورة الخميني التي عصفت بالعرب والمسلمين، فظهرت “حركة التوحيد الإسلامية” عام 1982 في طرابلس، كأوّل منتج فعليّ لنظام الملالي في لبنان، وانضمّ إليها “جند الله”.
حكمت هذه الحركة طرابلس، فحوّلتها إمارة إسلامية لبضع سنوات بتسهيل ضمني من نظام حافظ الأسد، الذي استغلّها لتنظيف الساحة الطرابلسية من اليساريّين والقوميّين، والبعث العراقي خاصّة.
مذّاك أُلبست طرابلس عباءة الإرهاب ولمّا تزل. وبعد إخراج ياسر عرفات منها، انقضّ الجيش السوري على المدينة، فأعمل فيها قتلاً وتدميراً وتهجيراً. حيّدت إيران مَن تريد من “التوحيد”، أمّا الباقون فقُتلوا أو اعتُقلوا أو أُجبروا على ترك المدينة. ومنهم زعيم “جند الله” الشيخ كنعان ناجي، بعدما ذاع صيته في مقاومة السوريين. تقلّصت “التوحيد” وأصبحت هامشية، وانسحب “جند الله” منها.
يؤكّد الشيخ كنعان ناجي أنّه “لا يوجد تنظيم اسمه جند الله. هذا الكلام انتهى منذ سنوات الحرب الأهلية”، وإنْ كان يوافق على أنّ إرثه ضدّ السوريّين حاضر في الذاكرة الطرابلسية.
على الرغم من كلّ ما يُحكى ويُكتب عن الفيحاء، وعن حظر التجوال المفروض عليها قسراً في ساعات الليل، بسبب ارتفاع حدّة الأعمال الإجراميّة، لكن لا وجود لأيّ شكل من أشكال الأمن الذاتيّ فيها. ويشير كنعان ناجي في حديثه لـ”أساس” إلى مبالغات وتضخيم للأحداث في وسائل التواصل الاجتماعي: “هناك إشكالات فردية تحصل في طرابلس، كما في غيرها من المدن، أمّا الأمن ذاتي فلا وجود له مطلقاً. الجيش والقوى الأمنية يقومان بالواجب”. ويختم حديثه بالتشديد على أنّ “الأمن الذاتي جريمة موصوفة، ودعوة إلى العودة إلى الحرب الأهلية”.
من يتيسّر له المرور في شوارع طرابلس ليلاً، يرى بالعين المجرّدة عدم وجود أيّ نوع من الحراسة، سواء في الأحياء الداخلية الضيّقة والمكتظّة، أو في تلك التي تُصنّف متوسّطة أو بورجوازية. هذا على الرغم من وجود “مليارديرات” في عاصمة الشمال أكثر بكثير من أثرياء الأشرفية الذين خصّصوا رواتب شهرية لـ”جنود الرب”. فسيف الإرهاب المسلّط على رقاب أهل المدينة يجعل من الأمن الذاتي فكرة جنونية أو انتحارية. وما هو مقبول في الضاحية والأشرفية يصبح قليله في طرابلس “خطراً” وشرّاً مستطيراً على السلم الأهلي، ومدعاة لزجّ العشرات من أبنائها في السجون كي يمكثوا فيها سنوات بلا محاكمة.
ثمّة من يهمس بأنّ الخشية من نجاح “حرّاس المدينة” في تنفيذ خطّته للأمن التكاملي كانت السبب الأساسي في منع تنفيذها، وذلك لعدم إحراج الأجهزة الأمنية
الأمن التكامليّ
قبل أسبوعين تقريباً، كانت هناك محاولة يتيمة لتطبيق فكرة أخرى هي “الأمن التكاملي”، وذلك من قِبل “حرّاس المدينة”. وهو تنظيم ظهر على الساحة الطرابلسية عام 2015، وضمّ مجموعة من المتطوّعين لحماية مدينتهم من نفايات المدن الأخرى التي كانت تُرسل تحت جنح الظلام.
نال هذا العمل التطوّعي لـ”حرّاس المدينة” ثناء واستحسان الطرابلسيّين والأجهزة الأمنيّة، ومنحهم ثقة إجماعية من كلّ المجموعات الثورية لتنظيم وحماية ساحة الثورة (النور) أيّام انتفاضة 17 تشرين 2019.
مع تصاعد حدّة الاعتراضات في الشارع الطرابلسي من تفلّت الأمن، أعدّ “حرّاس المدينة” بالتنسيق مع الأجهزة الأمنيّة والبلدية وفاعليّات طرابلسيّة “خطّة أمن تكاملي تعتمد على انتشار الشباب في المناطق، وتبادل المعلومات مع الأجهزة الأمنيّة المختصّة”: “ليست مهمّتنا نصب حواجز أو حتى القبض على السارقين والمعتدين على أملاك الناس. الأمر هو تقاطع معلومات فقط نظراً إلى قلّة عديد الأجهزة الأمنيّة المختصّة المولجة حماية المدينة”، يقول متحدّث باسم “الحرّاس” طلب عدم نشر اسمه.
لكنّ الخطة أُجهضت عشيّة البدء بتنفيذها، بعد اتّصال رئيس فرع المعلومات في الشمال برئيس “حرّاس المدينة” محمود شوك، وتمنّيه صرف النظر عنها، وذلك “لدرء خطر العصابات المسلّحة عن الشباب المتطوّعين”، و”لأنّ القوى الأمنيّة والجيش قاما بتكثيف حضورهما وإجراءاتهما ضمن إطار الخطّة الأمنية”، على ما تكشف مصادر “الحرّاس” لـ”أساس”.
الترسيم الداخليّ
ثمّة من يهمس بأنّ الخشية من نجاح “حرّاس المدينة” في تنفيذ خطّته للأمن التكاملي كانت السبب الأساسي في منع تنفيذها، وذلك لعدم إحراج الأجهزة الأمنية.
لكنّ آخرين يعتبرون أنّ السبب هو التخوّف من دخول بعض قنّاصي الفرص على الخطّ لإعادة إنتاج أسطورة “الإرهاب” الطرابلسي، ولا سيّما مع التركيز الإعلامي على انتشار السلاح في عاصمة الشمال، وخاصّة “التركي” منه الزهيد الثمن، الذي يدخل عبر “بوّابات” حزب الله الحدودية وتجّار الأسلحة العاملين تحت رعايته، وفق تأكيد مصادر أمنيّة لـ”أساس”.
من جانب آخر، قد تدفع أيّ محاولة لفرض ما يشبه الأمن الذاتي في طرابلس نحو ترسيم حدود داخلية بين أحيائها، ولا سيّما أنّ ظاهرة أمراء الأحياء حاضرة فيها منذ سنوات. فتظهر عندئذٍ الهويّات الفرعية المدفونة، وتنشأ صراعات تتغذّى من الأحقاد المتوارثة، فيمُسي أبناء المدينة بحاجة إلى جواز سفر للعبور من حيّ إلى آخر.
إقرأ أيضاً: عصابات طرابلس تُخرج لسانها للدولة والأجهزة والخطّة الأمنيّة
يقول مختار محلّة الحدّادين منذ سنوات عدّة هيثم يكن لـ”أساس”: “لا يوجد أيّ أرضيّة للأمن الذاتي في طرابلس، فلا إمكانات لوجستية، ولا مناخ سياسيّاً يتيح ذلك. أيّ مشروع للأمن الذاتي بحاجة إلى تمويل كي يستمرّ، ولا يوجد أيّ جهة مستعدّة لذلك”. وبحكم تعاملاته اليومية مع الناس في مكتبَيْه في باب الرمل وأبي سمرا، ينفي يكن تماماً وجود أيّ شكل للأمن الذاتي في أيّ منهما “ولا في طرابلس كلّها”. ويضيف: “صحيح أنّ الوضع العامّ في لبنان كلّه، وليس في طرابلس والشمال فقط، يبدو مخيفاً، لكنّه ما يزال تحت السيطرة، ولولا الجيش لكانت الأمور أسوأ بكثير”.
في الخلاصة، فإنّ طرابلس الأكثر حاجة إلى الأمن الاجتماعي بسبب ارتفاع نسبة الجريمة، وحدها تخشى على صورتها وعلى نفسها من هذا الأمن، لأنّ السنّة إذا “حموا” أنفسهم.. يتحوّلون فوراً إلى “إرهابيين”. وطرابلس لا تطلب غير الدولة أولاً وأخيراً. رهان الأرجح أنّه فقد جاذبيته، لكنّه طلبها الوحيد والمتكرّر…