فراغ وأسيران.. الحزب وجبران

مدة القراءة 5 د

الفراغ الرئاسي ليس هدفاً بحدّ ذاته لميليشيا حزب الله. لا يضيرهم وجود رئيس، يعرفون من الآن، أنّه بسبب كلّ موازين القوى المحلّية والدولية، لن يشكّل تحدّياً من أيّ نوع لثوابتهم وخطوطهم الحمراء، وإن طالت خياطة التسوية لإنتاجه.

ويعرفون أنّ ميشال عون، أو قبله إميل لحّود، نسخ فريدة، لا تتكرّر، لا بمواصفات الأشخاص ولا بالظروف التي جاءت بهما إلى قصر بعبدا. وأنّ لكلّ معركة رئاسية، خصوصيّاتها التي تتمحور حول طبيعة الخصم، شخصاً كان أم مشروعاً، ومدى حيويّته، ومستوى الخطورة التي يشكّلها على أساسيات الحزب داخلياً وإقليمياً ودولياً. ولطالما وجد الحزب سبلاً، في لحظات اختلال اللعبة الداخلية لغير صالحه، أو فشله في فرملة ديناميّات سياسية محدّدة، لتغيير المعادلة بشكل قسري، عبر الترهيب بالسلاح أو عبر استخدامه وصولاً إلى الاغتيال، الذي باتت تُثبت مسؤوليّة حزب الله عنه اليوم أحكام قضائية وليس تهم سياسية فقط.

يعرف باسيل أنّ الأوهام الانقلابية على حزب الله، والتي يوشوش بها البعض في أذنه، كمقدّمة لرفع العقوبات الأميركية عنه وإعادة تعويم فرصه الرئاسية، هي مجرّد أوهام

حاجة حزب الله إلى الفراغ

الحاجة إلى الفراغ اليوم هي وليدة الحاجة إلى فترة زمنية ضرورية لترويض جبران باسيل، وإعادة تحجيمه بعدما تولّى حزب الله نفخه سياسياً وتمثيليّاً ومعنوياً، إبّان الحاجة إليه، بأحجام مختلفة.

حين بالغ باسيل في ادّعاء الاستقلالية بقراره عن حزب الله ونسب لنفسه ندّيّة مزيّفة في وجه حليفه، في سياق التصعيد السياسي الشعبوي بشأن انعقاد الحكومة في ظلّ خلوّ مقام رئاسة الجمهورية، بعث له الحزب على طريقته رسائل بوجوب الاعتذار من زعيمه حسن نصرالله، وهكذا كان. وما الاتّفاق على عقد جلسة أخرى للحكومة في ظلّ استمرار الاحتجاج العوني إلّا أمارة على أنّ الترويض مستمرّ بكلّ أشكاله الممكنة.

يتعلّم باسيل من كيسه الآن أنّ البلاد كلّها في عهدة القرار السياسي لحزب الله. فلو افترضنا أنّ باسيل هو من يريد انعقاد الحكومة التي يمانع انعقادها حزب الله، فماذا ستكون نتيجة النزال؟ ربّما نسي جبران الغارق في دلال الحزب له أنّه مجرّد أداة في “صندوق العدّة” المستخدمة في تشغيل وصيانة جمهورية السلاح. وهذا ما سيبدّد الكثير من وقته ووقت البلاد قبل أن تُنعَش ذاكرته ويُعاد إلى أرض الواقع. وفي هذا السياق يُسجّل للرئيس فؤاد السنيورة أنّه الوحيد الذي امتلك شجاعة كسر قرار حزب الله بعد استقالة وزراء الثنائي الشيعي من حكومته الأولى مستمرّاً في الحكم بموجب منطوق الدستور والمصلحة الوطنية، وهذا ما أدّى إلى شيطنته فيما بعد عبر العنوان المزوّر الموسوم بملفّ “الـ 11 مليار دولار”.

إذاً الفراغ هو آليّة اضطراريّة لترويض باسيل، مع عدم خسارته كليّاً، وإدخاله تالياً في سياق التسوية المفضية إلى انتخاب رئيس للجمهورية، ولا سيّما أنّ التركيبة النيابية الحالية بحدّ ذاتها تشكّل تحدّياً حقيقياً للحزب.

أكثرية الـ 65 التي جاءت بإلياس بو صعب نائباً لرئيس مجلس النواب لا تكتمل من دون أصوات التيار الوطني الحرّ، المُمسك بها جبران باسيل حتى إشعار آخر. وأكثرية الـ 65 التي جاءت بنبيه برّي رئيساً لمجلس النواب لا تكتمل من دون أصوات تكتّل وليد جنبلاط، الذي لن يساهم في إيصال رئيس تعارض السعودية وصوله. فحسابات جنبلاط الدقيقة تقضي بأنّه لا يريد توريث نجله تيمور مشكلاً مع المملكة.

الحاجة إلى الفراغ اليوم هي وليدة الحاجة إلى فترة زمنية ضرورية لترويض جبران باسيل، وإعادة تحجيمه بعدما تولّى حزب الله نفخه سياسياً وتمثيليّاً ومعنوياً، إبّان الحاجة إليه، بأحجام مختلفة

بهذا المعنى يستفيد باسيل من كونه، في مكان ما، يشكّل مهبطاً اضطرارياً، للحزب، الذي بدوره، لا يرفض المبدأ، لكنّه يناقش في تسعيرة الهبوط واستخدام المدارج الباسيليّة.

في المقابل يعرف باسيل أنّ الأوهام الانقلابية على حزب الله، والتي يوشوش بها البعض في أذنه، كمقدّمة لرفع العقوبات الأميركية عنه وإعادة تعويم فرصه الرئاسية، هي مجرّد أوهام.

باسيل الوسيط والحريري المقتول

في أحد اللقاءات في عاصمة غربية بين باسيل ومسؤول خليجي قبل عدّة سنوات، وبعدما عرض باسيل نفسه “كوسيط موثوق” بين الحزب وعاصمة المسؤول، وأنّه يشكّل نقطة تقاطع تستأهل الاستثمار فيها، أجابه المسؤول بسؤال بسيط:

هل يمكنك أن تعطي حزب الله أكثر ممّا أعطاه رفيق الحريري؟ أجاب باسيل: الوضع مختلف اليوم. تابع المسؤول الخليجي: بكلّ احترام معالي الوزير، لا تستطيع أن تعطيهم أكثر ممّا أعطاهم الحريري، ومع ذلك قتلوه.

إقرأ أيضاً: عون رئيساً: بين الحزب وباسيل وشينكر.. وميقاتي

هذه آخر فكرة تخطر بذهن جبران باسيل كلّ ليلة قبل أن يذهب إلى النوم، مهما شكا لنفسه من “ظلم ذوي القربى!”

ببساطة شديدة، حزب الله أسير سلاحه والتحالفات التي يحتاج إليها لحماية هذا السلاح وحماية صفته الشرعية ولو انتحالاً. وجبران باسيل أسير حزب الله بعدما توهّم طويلاً أنّه حليف وندّ. ولكن حتى بين الأسرى، ثمّة ميزان للقوى يعرفه الجميع ويلعبون اللعبة وفق قواعده الصارمة.

لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…