خارطة طريق 2023 من “البلطجيّ” إلى الأحفاد…

مدة القراءة 9 د

كانت البلاد تستعدّ لانطلاق كرنفال الانتخابات النيابية سنة 2018، حين وقف جبران باسيل في سهرة بترونيّة، وأطلق نفيره العام: “نبيه برّي بلطجي. وبدنا نكسرلو راسو”.

ردّ أنصار برّي فوراً. في الإعلام وعلى الأرض. صدّق بعض المساكين. استنفروا. حتى بدا المشهد على شفير ميني حرب أهليّة.

بعد أسابيع أُجريت الانتخابات. صفّقت جماهير الرجلين “الغفورة” طويلاً. استعاد كلّ منهما مقاعده “المستزرقة” أو المسترزقة. بعدها ذهب باسيل إلى عين التينة باسماً معلناً بفخر وضيع: “مكافحة الفساد همّ مشترك بيننا وبين برّي. نحن معاً دينامو تشريعي وتنفيذي. وخربطنا حسابات من راهن على خلافنا…”.

سنة 2022، كرّروا المسخرة ذاتها كلّهم. صارت نمطاً ميثاقيّاً بامتياز. مبدؤهم أن كلّنا سلطويّون وحسب. منّا من تسلّط باسم قرآن. ومنّا من تسلّط باسم إنجيل. وكلّنا تسلّطنا باسم شعارات خادعة كاذبة منافقة… ولا عدوّ لنا في أرضنا، إلا وعي 17 تشرين…

نجحوا في استحقاقين سنة 2022. وأجّلوا، مضطرّين، استحقاقين آخرين إلى سنة 2023. إذا تمكّنوا من تمريرهما، صاروا طغمة مؤبّدة. لكنّ المسألة أكثر تعقيداً عليهم وعلى البلد…

                                                         ************************* 

تروما 17 تشرين                    

لم تخرج منظومة السلطة القائمة في بيروت اليوم، من “تروما” 17 تشرين. والأمر مفهوم بمعاييرها ومفاهيمها. زلزال فعليّ كان ذاك اليوم. خطر وجودي غير مسبوق في تاريخ المنظومة، نتيجة اتّحاد عنصرين اثنين:

– أوّلاً أن يلتقي الناس في كلّ لبنان على شعارات واحدة. وهذا لم يحصل في تاريخ البلد قطّ، لا على محطة قيام لبنان أصلاً، ولا على استقلاله، ولا على أيّ محطة مفصليّة أخرى في تاريخه.

– ثانياً أن يُشتم كلّ زعيم طائفة، من قبل جمهور طائفته بالذات. وهنا يكمن الخطر الأكبر. ذلك أنّه منذ عقود بعيدة، قامت سلطة المنظومة تلك على عنصر تأسيسي، ألا وهو أن يُشتم كلّ زعيم طائفي من قبل جمهور طائفة أخرى، أو حتى من قبل جماهير الطوائف الأخرى كلّها مجتمعة. وهو الأفضل لِما فيه خير الزعيم المشتوم.

كانت البلاد تستعدّ لانطلاق كرنفال الانتخابات النيابية سنة 2018، حين وقف جبران باسيل في سهرة بترونيّة، وأطلق نفيره العام: “نبيه برّي بلطجي. وبدنا نكسرلو راسو”

هكذا تُبنى زعامات الطوائف-القبائل في ذاك اللبنان، على صناعة وهم الخوف من القبيلة الأخرى ومن جمهورها. الخوف الذي يولّد الحقد. والحقد المؤدّي إلى الرفض. وبالتالي إلى تكوين عصبيّة القبيلة حول زعيمها. شتم الآخرين هو الأساس الأوّل في جدليّة الخوف-التخويف. وعلى هذه الجدلية يقوم بناء “الحاجة”، أو نظام الزبائنيّة السياسية. (وهو موضوع لا بدّ من تفصيله في محاولة أخرى). المهمّ أنّه بين الخوف والحاجة قام نهج المنظومة وترسّخ وساد وماد إلى أن هبّ زلزال 17 تشرين المعاكس، لا بل المناقض. أن يشتم كلّ شارع زعيمه، إنّه الموت المحتوم لكلّ الزعماء. وهو ما لا يمكن قبولهم به. وهو ما وحّدهم أكثر بالمباشر، أو بالتقاطع الموضوعيّ بالحدّ الأدنى.

اللجوء إلى حزب الله

وهرع رؤوس عائلات المنظومة كلّهم إلى حزب الله، طالبين حمايته من الخطر الداهم. ولم يتأخّر “بعض” أهل الحزب عن تقديم التنظيرات لِمن كان متردّداً: “هذه مؤامرة لن تقف عند حدٍّ. إذا قدّمت لهم رأس وزيرك، طالبوا بسقوط الحكومة. وإذا أعطيناهم الحكومة، ذهبوا للمطالبة برحيلك أنت. وإذا رحلت أنت، سقط النظام برمّته…”.

وبعد أيّام من البحث، حسم الحزب خياره، بعدما تغلّب بُعده الأمنيّ وحسّه المخابراتي على أيّ حساب آخر. وقرّر صون رؤوس عائلات القبائل وحماية منظومتهم. ولأنّ الوسيلة الوحيدة التي يمتلكها الحزب للعمل والتحرّك، هي القوّة، كان لا بدّ من تبرير إعلامي وربّما “شرعيّ” لاستخدامها. هنا وُلدت رواية أنّ 17 تشرين هو نتاج السفارات ومن حياكة العمالات للشيطانَيْن ووسطائهما، فكان ما كان من خطأ استراتيجي بحقّ المقاومة لا غير.

ومرّت السنوات حتى أطلّ عام 2022، عام الاستحقاقات كلّها، وعام تخطيط المنظومة لإعادة تعويم نفسها وإنتاج ذاتها واكتساب شرعيّتَيْها الساقطتين في الداخل والخارج. وكان التحضير والاستعداد لتحقيق ذلك، عبر أربع محطّات-استحقاقات: الانتخابات النيابية، الاتفاق مع إسرائيل، إنهاء ملفّ التعثّر المصرفي، وتنصيب رئيس جديد في سياق هذه الرؤية بالذات.

الاستحقاق الأوّل في أيار الماضي، عبره زعماء المنظومة بنجاح مقبول. كانوا يتوقّعون انهيارات. لكنّهم عملوا ليل نهار على تجنّبها ومواجهتها. وأفلحوا جزئيّاً. راهنوا على عدّة عناصر: اللعبة التقليدية من خطاب الغرائز القبلية المذهبية. وتبيّن أنّه لا يزال صالحاً بنسب كافية: برّي وباسيل على لوائح موحّدة في معظم دوائرهما، مع خطاب عدائي مصطنع بين الاثنين. حزب الله اختار عشيّة الانتخابات الهجوم على سمير جعجع بكلّ الأسلحة الخطابية حتى كرّسه زعيماً لأكثرية المسيحيين كأنّه يفكّر أن لا خوف من شارع قوّاتيّ يشتم الحزب، لا بل هذا مفيد. الخوف كلّ الخوف من زمرة من شابّات وشبّان شيعة غير منضبطين يخرجون عن مرجعية الطائفة في بعبدا أو أيّ دائرة أخرى. هنا المقتل. فليأخذ جعجع مقعدين أو ثلاثة إضافية. الأولويّة المطلقة للمئة في المئة الشيعية.

لم تخرج منظومة السلطة القائمة في بيروت اليوم، من “تروما” 17 تشرين. والأمر مفهوم بمعاييرها ومفاهيمها. زلزال فعليّ كان ذاك اليوم. خطر وجودي غير مسبوق في تاريخ المنظومة

المنظومة تستعيد شرعيتها

بعد خطاب الغرائز، أداروا كلّهم رحى الخوف والحاجة. بعدها كان الرهان على النقص في خبرة حركة الاحتجاج، ثمّ ضيق الوقت أمام مكوّنات 17 تشرين لتصير جسماً منسجماً واحداً. فضلاً عن مراهقة البعض من “الثوّار”. كلّ ذلك أُضيف إلى جهد مخابراتي محترف، من تحريض البعض على الترشّح لتفتيت الكتلة الاعتراضية، حتى “دعم” بعض آخر منهم للغرض نفسه. في النهاية وصلوا إلى ختام اليوم الاقتراعي الطويل بإعادة تجديد أكثر من ثلثَيْ المنظومة على حساب أكبر كتلة اقتراعية اعتراضية في تاريخ لبنان. هذا فضلاً عن فظائع ارتُكبت وانتهاكات مذهلة جعلت تقارير دولية توصي بإلغاء نتائج دوائر سلطوية كاملة. لكنّ المهمّ أنّ الاستحقاق مرّ والمنظومة استعادت شرعيّتها الداخلية.

بعدها فوراً بدأ الاستعداد لاستعادة الشرعية الخارجية. وما أفضل لذلك من الاتفاق مع إسرائيل، وبوساطة “أمريكا” نفسها؟! فكان الترسيم.

محطة سيكتب التاريخ عنها بأسوأ ممّا كتب عن اتفاق القاهرة بأضعاف. وأشنع ما فيها أنّ هناك من فكّر كالتالي: بأيّ ثمن كان أُريد استرضاء واشنطن. ما المطلوب؟ تنازل عن 1,400 كيلومتر مربّع لإسرائيل؟ جاهز. وللمصادفة، بعد أيام على تنازل لبنان، أعلنت إسرائيل عن اكتشافات نفطية جديدة هائلة في محيط تلك المنطقة، فيما اكتفى الدجل اللبناني بالإعلان عن اكتشاف حفّارة صالحة للإيجار في بلد إفريقي قد تصلنا نهاية العام المنصرم لبدء مشوار عشرة أعوام لم يبدأ بعد!!

ما المطلوب أكثر؟ تمرير الاتفاق بلا حكومة، وبلا مجلس نواب؟ حاضر. ماذا بعد؟ تهريب رسائل – وثائق الاتفاق إلى الأمم المتحدة من دون نشرها حتى على موقع المنظمة الدولية، تجنّباً لفضيحة التفاصيل؟ في الخدمة. كلّ ما لم تتصوّره حتى “أمريكا” وإسرائيل قدّمناه. المهمّ هو المقابل الشخصيّ. أمّا ثروات الوطن والناس ومستقبلهما فيمكنها أن تنتظر.

الترسيم: خدمات شخصية

يروي أحد متابعي الصفقة أنّهم لم يفكّروا حتى في طلب أيّ ضمانات، ولا حتى خطوة مسبقة. كانت إدارة بايدن محشورة بحرب أوكرانيا وضرورة إنجاز الاتفاق قبل انتخابات الأسبوع الأول من تشرين الثاني. وكان غانتس في الوضع نفسه قبل انتخاباته في الأول من الشهر نفسه. كانوا مستعجلين. ولذلك كانوا مستعدّين لبعض الأثمان. ومع ذلك لم يفكّر أيّ من مسؤولينا، مثلاً، بطلب ضمان وصول الغاز المصري أو الكهرباء الأردنية، كدفعة على الحساب، وبشكل مسبق وكعربون حسن نيّة أميركي – إسرائيلي.

يجزم المتابع نفسه أنّ الوسيط ذُهل من اللاشيء الذي طلبه لبنان. اقتصر المطلوب على بعض خدمات شخصية وضيعة: حساب مصرفي لمكتب محاماة في دولة خليجية لأحدهم، وتوقُّف مسلسل العقوبات عند معاون واحد لا أكثر، بالنسبة لآخر، وتأكيدٌ متجدّد أنّ صاحب رأس المال جبان، بالنسبة لمسؤول ثالث. ذهبوا كلّهم إلى الحزب وقالوا له: مشينا بالاتفاق. فتجرّع “حزب المقاومة” كأس الترسيم وشربها… ومرّرت المنظومة قطوعها الثاني.

رئيس لمالية المنظومة

بقي استحقاقان للنجاة النهائية:

الثالث إقفال ملفّ التعثّر المالي والمصرفي نهائياً، وذلك عبر تنصيبة الكابيتال كونترول، وهي عملية احتيال تشريعية قانونية مكتملة أوصاف الجريمة، اختصارها ما يلي:

– ضمان براءة ذمّة قانونية عن كلّ ما ارتُكب حيال أيّ مساءلة قضائية جزائية.

– تغطية قانونية كاملة ونهائية لواقع تبدُّد مدّخرات اللبنانيين.

– تشريع البدء من جديد بكلّ المنظومة المالية السابقة والمتجدّدة واستئناف أنشطتها بشكل طبيعي، وكأنّ شيئاً لم يحصل.

– وأخيراً والأهمّ، وضع اليد على ما بقي من أموال فعليّة، عبر لجنة سلطوية بامتياز، تملك سلطة استنسابية مطلقة، تحت إدارة ورعاية ووصاية المنظومة مباشرة.

بقي الاستحقاق الرابع الضروري لتكريس كلّ ما سبق وتتويجه، ألا وهو تنصيب رئيس جديد للجمهورية، يغطّي مسار الأعوام الماضية كاملاً، رئيس يكون وليد هذا المسار بالذات، رئيس يجسّد مفهوم ابن المنظومة أو خادمها أو لقيطها.

إقرأ أيضاً: نريد رئيساً لا يطعن أولادنا في ظهورهم

هنا حصل الإشكال. فالخارج معنيّ بدفع بعض المال لاستمرار هذه التركيبة على قيد الحياة. والمال المعطى يقتضي ضمانة الإيفاء، فيما لم تعد تلك المنظومة تملك فلساً واحداً في رصيد صدقية السداد الدولي. تعرقل المخطّط العظيم، وتوقّف عند استحالة التوفيق بين استدامة بقاء المنظومة من جهة، وضمان دفع مستحقّاتها المالية للخارج من جهة أخرى. وهو ما ربط استحقاق الرئاسة بملفّات التشريع المالي المتعثّرة، فتعرقل الاستحقاقان معاً. فالرئيس الذي تريده المنظومة من قماشتها وبطانتها، لا يضمن استدرار المال الخارجي الضروري لبقائها حيّة. أو على الأقلّ لا يثق الخارج بقدرة دولته على دفع ديونها له، فدخلنا نفق الانتظار في زمن الانحطاط. هكذا بات الرهان الوحيد للّبنانيين على ضمير الخارج الدولي، أو على ضيق ذمّته المالية. وإلّا لكانوا انتخبوا رئيساً مثل نوّابهم، ورسّموا “كونترولهم” الماليّ مثل ترسيمهم البحري، ولكانوا ارتاحوا من “الأوغاد إلى الأحفاد”، كما قال أحد شعراء المآسي والنكبات.

لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…