الحرب على أوكرانيا أعلنها رجل واحد. فلاديمير بوتين. المقاومة الأوكرانية تصدّرها رجل واحد. فولوديمير زيلينسكي. اختصر الرجلان كلّ أحداث العالم عام 2022، منذ أن بدأت الحرب يوم 24 شباط 2022.
لم نسمع كثيراً عن قادة الجيوش المتحاربة أو وزراء الدفاع أو قيادات الميدان، كأنّها حرب بين رجلين يختلفان في كلّ شيء.
زيلينسكي بزيّه شبه العسكري المتواضع، يخاطب العالم والمحافل الدولية عبر الشاشات غالباً، في مقابل بوتين صاحب البزّات الغامقة وربطات العنق المعقودة بعناية تحت ياقات بيضاء مرفّهة. ظهر الرجلان في قاعات يزيد الفارقَ بين تفاصيلها، التناقضُ الطاغي على صورتَيْهما. مكتب متواضع يقود من داخله زيلينسكي المقاومة الأوكرانية، في مقابل القاعات الروسيّة الباذخة، كتلك التي أعلن بوتين من إحداها ضمّ الأقاليم الأوكرانية الأربعة.
فارق بين رجلَيْن وزمنَيْن
الأهمّ من ذلك أنّ بوتين واحد من نجوم السياسة الدولية منذ أن ورث عن بوريس يلتسين بقايا الاتحاد السوفيتي، قبل نحو ربع قرن، ساعياً منذ ذلك الحين حتى اليوم إلى تصحيح ما اعتبره “أكثر أحداث الجيوبوليتيك كارثيةً في القرن العشرين”. أمّا زيلينسكي فلم يعرفه أحد قبل قراره الترشّح للرئاسة في انتخابات أوكرانيا عام 2019. لا صلات سياسية تُذكَر بين الرجل الآتي من عالم الكوميديا التلفزيونية وبين الأحداث التي أسّست حتى لتاريخ بلاده المعاصر كالثورة البرتقالية عامَيْ 2004 و2005، ولا كان من بين نجوم ثورة الميدان الأوكرانية في شباط 2014 والتي انتهت بإسقاط نظام الرئيس الأوكراني الموالي للكرملين فيكتور يانوكوفيتش.
ما حصل أنّ زيلينسكي، بصموده، لا بوتين بأوهامه، غيّر أوروبا والعالم إلى الأبد
ربّما شجّعت كلّ هذه التناقضات بوتين على قراره غزو أوكرانيا، وإنهاء “المزحة السياسية” التي اسمها نظام كييف بزعامة زيلينسكي. رجل واحد قرّر الغزو، بلا مقدّمات جدّية كان ينبغي إشراك أركان حكمه فيها كوزيرَيْ الخارجية والدفاع. ورجل واحد قرّر المقاومة بلا استشارات جدّية مع دول العالم الحرّ الذي تعلن أوكرانيا أنّها جزء منه ومن مصالحه.
في بدايات الحرب أبلغت واشنطن زيلينسكي أنّها جاهزة لإجلائه مع أسرته، وكان ردّه أنّه يريد الدعم لبلاده، لا خدمة التوصيل إلى أيّ مكان آخر. لم يكن من السهل على العالم أن يصدّق أنّ الرئيس الشابّ الذي لم يؤدّ حتى خدمته العسكرية الإجبارية، يمتلك الحدّ الأدنى من متطلّبات قيادة عمل عسكري بحجم مواجهة آلة الحرب الروسية.
صمود يواجه الأوهام
لو عدنا إلى أسباب الحرب لعثرنا على فكرة تتكرّر في ثنايا مواقف ومحفّزات بوتين. أراد الرئيس الروسي تغيير العالم الذي تقود أميركا قواعد أمنه وعلاقاته الدولية. أراد تغيير أوروبا بعد أن يأخذ دفئها وأكلها وشربها وأنوارها رهينة لحنفيّات الغاز التي يتحكّم بها.
ما حصل أنّ زيلينسكي، بصموده، لا بوتين بأوهامه، غيّر أوروبا والعالم إلى الأبد.
انتبهت أوروبا إلى أنّ النوم على حرير انهيار الاتحاد السوفيتي، سطحيّ وحسّاس، تقلقه أوّل انتكاسة كإعلان بوتين الحرب على أوكرانيا. أعاد زيلينسكي إلى العقل السياسي الأوروبي فكرة الأمن المشترك. دفع صمودُه دولةً كألمانيا إلى أن تغادر كلّ إفرازات الحرب العالمية الثانية، وتبدأ بوضع موازنات للتسلّح. أنهى فكرة الحياد المطلق لدولة مثل سويسرا، وجعلها تعيد التفكير في ما هو ترف فكريّ وقيميّ مجرّد، وفي ما هو الواقع على الأرض. بسببه، عثر حلف الناتو على مبرّرات وجوده بعدما أُصلِي نقداً أوروبيّاً وأميركيّاً حول لا جدواه.
وبسبب زيلينسكي أيضاً بدأت تلوح في أفق الرأي العامّ الأميركي تحوّلات تشي بأنّ أميركا تغادر مشاعر الانعزالية التي تنتابها بين الحين والآخر. بسبب صمود الرئيس الأوكراني، عادت أميركا، ولو بتعثّر إلى العالم، تقود حيث تجب القيادة وتبادر حيث تلزم المبادرة، وتُلهم حيث تُلحّ الحاجة إلى الإلهام.
أوكرانيا باتت في المخيّلة الأميركية، حدثاً موازياً للحرب العالمية الثانية، وقصف اليابانيين لمرفأ بيرل هاربور، أو تفجيرات 11 أيلول عام 2001، أو قبل الاثنين الحرب العالمية الأولى وبدايات تسيُّد ألمانيا على خطوط الملاحة الدولية. كلّها أحداث أنهت حقباً من الانعزالية الأميركية، وافتتحت حقباً من التدخّل الأميركي الحاسم في شؤون العالم، تماماً كما أميركا اليوم، بعدما كانت تراهن على توغّل روسيّ صغير وينتهي الأمر!
التاريخ لا يُقرأ على الفرضيّات
لنفترض أنّ زيلينسكي غادر كييف قبل أو في خلال الأيام الأولى للحرب. هل كان كلّ ما تغيّر سيتغيّر؟ تصعب قراءة التاريخ على قاعدة ماذا لو. فالأحداث الكبرى والقرارات الكبرى، كالهزّات الأرضية، لها من الهزّات الارتدادية ما يليها وما لا يمكن توقّعه.
الأكيد أنّ زيلينسكي سيكون اليوم نسياً منسيّاً في بولندا أو أيّ منفى آخر. يصعب أن لا يقارن المرء بين الألق الدولي الذي يلفّ زيلينسكي وبين قسوة النسيان الذي يغلّف مصير الرئيس الأفغاني المخلوع أشرف غني، الذي غادر بلاده مع انسحاب القوات الأميركية منها.
وضع زيلينسكي خطّاً فاصلاً بين أوهام القيادات الفردية كفلاديمير بوتين وبين أحلام الأمم حين تتسنّى لها فرصة توفّر قائد تاريخي يقود روح شعب ويصنع هويّته خلافاً لما يتوقّع هذا الشعب من نفسه.
بين المقدّمات الأيديولوجية للغزو الروسي لأوكرانيا، فكرة تراود بوتين وهي توحيد الكنيسة الأرثوذكسية المنقسمة بين كنيسة كييف وكنيسة موسكو. لقد بنى بوتين الهويّة الوطنية الروسية على مدماكين. البعد السياسي القيصري لروسيا، والبعد الروحي الأرثوذكسي لها. في المقابل نجح زيلينسكي اليهودي، صاحب اللغة الروسية لا الأوكرانية، في أن يكون قائداً موحِّداً لشعبه تحت العلم الأزرق والأصفر، عابراً به نحو هويّة أوكرانية حديثة تتجاوز الأديان واللغات والمناطق.
اختار الرجل نمطاً من القيادة يعيد تعريف القائد السياسي، بعد نحو عقدين من الشعبوية التي أفرزت طغيان صورة القائد الفرد والرجل القويّ حول العالم، التي تضمّ في ناديها الرئيس بوتين. وهذا الخيار ستكون له تبعات سياسية عميقة على صعيد قيم ومثالات القيادة السياسية في العالم. فعلى عكس بوتين، اختار زيلينسكي صورة تنطوي على أربع قيم أساسية، هي:
1 ـ معرفة الذات بكامل مسؤوليّاتها ونواقصها، خلافاً للأنا المنتفخة بالأوهام.
2 ـ التوازن في تقويم المخاطر وفي رسم حدود المغامرة بما تتطلّبه معنويات شعبه، كمثل زيارته لإقليم خيرسون بعد انسحاب القوات الروسية منه.
إقرأ أيضاً: استطلاع “أساس”: بن سلمان الأوّل عربيّاً.. وزيلينسكي الأوّل دوليّاً
3- الثقة بالنفس، من دون السقوط في فخّ الاستعراض والنرجسيّة التي تنضح من صورة بوتين في كلّ تفصيل من تفاصيل مشهديّته العامّة.
4 ـ وأخيراً التواضع غير المزيّف وهو يحدّد حاجات بلاده الأمنيّة والحياتية والعسكرية من دون أيّ مبالغات بطوليّة وتمجيد أخرق للمعاناة والموت والدمار.
لا يوجد بين أيدينا الآن ما يفيد بالمقدّمات والأسباب التي دفعت بزيلينسكي إلى أن يختار ما اختاره. فما لا نعرفه عن الرجل الأشهر في عام 2022، أكثر بكثير ممّا نعرفه عنه. ما نحن أكيدون منه أنّ الرجل، تغيّر، وغيّر بلاده، وغيّر أوروبا والعالم.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@