الطائرات المسيَّرة تقلِب موازين القوى..

مدة القراءة 9 د

تخترق الطائرات المسيّرة الإيرانية الصنع سماء كييف كلّ يوم على نحو منتظم، فيما تساعد المسيّرات التركيّة والأميركية الصنع القوات الأوكرانية على استهداف القوات الروسية في أماكن أخرى من أوكرانيا. تبيّن حرب أوكرانيا الدور المتنامي للأسلحة التي يتمّ التحكّم بها عن بعد في ساحات القتال، لكنّها تُظهر أيضاً كيف أصبحت الطائرات من دون طيّار أداة دبلوماسية لا سلاحاً فحسب، وكيف استفادت الدول المصدّرة لهذه الطائرات منها لتعزيز نفوذها على الساحة العالمية.

إنّها بداية حقبة جديدة، حسب مقال في مجلّة “فورين أفيرز”: آليّات غير مأهولة تقلِب تجارة الأسلحة وموازين القوى، وتنافس دول مارقة مثل إيران مورّدي الأسلحة التقليديين، مستخدمةً صادراتها من الطائرات المسيّرة لتبسط نفوذها خارج حدودها وتعزّز تأثيرها وتهدّد نفوذ واشنطن وأمن شركائها، وصولاً إلى تهديد الأمن الدولي.

تفرض مواجهة هذه المخاطر على صانعي السياسة في الولايات المتحدة – وهذا رأي كاتب المقال الأستاذ في كليّة العلوم السياسية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إيريك لين غرينبيرغ – العمل على مساعدة حلفائهم في بناء برامج لإنتاج طائرات بدون طيار وتطوير مناهج لمواجهة تهديد الطائرات المسيّرة المعادية.

تساعد صادرات الطائرات بدون طيار الدول المورّدة على منافسة خصومها وتحدّي الأعداء الإقليميين

لعبة الطائرات المسيّرة

دبلوماسية الطائرات المسيّرة تزداد تأثيراً مع ارتفاع الطلب على امتلاكها. فهي غيّرت طبيعة النزاعات الحديثة: سمحت للدول بإظهار قوّتها وقللت المخاطر على طواقمها القتالية. فمن خلال إبقاء هذه الطواقم بعيدة عن الخطوط الأمامية، تسمح الطائرات بدون طيار للحكومات بشنّ هجمات محفوفة بالمخاطر أو تنفيذ مهامّ جمع معلومات استخبارية لم تكن لتتمكّن من تنفيذها بطريقة أخرى، وتمنح دعماً جويّاً ورؤية شاملة للقوات البرّية. وهذا غالباً ما يقلب الموازين في المعارك. إضافة إلى ذلك، تكون الطائرات بدون طيار عامّة أقلّ كلفةً وأسهل تشغيلاً وصيانةً من الصواريخ أو الطائرات المأهولة. وهذا يسهّل على الدول دمجها في العمليات العسكرية. وأثبتت النزاعات الأخيرة فاعليّتها كأداة إعلانية. ففي أوكرانيا وناغورني كاراباخ التي تتنازع عليها أرمينيا وأذربيجان، التقطت صور أظهرت طائراتٍ بدون طيار تصيب أهدافاً بتكلفة منخفضة. وهذا حمل جيوشاً على المسارعة إلى إضافة طائرات موجّهة عن بعد إلى ترسانتها، وشرعت بعض الدول ببناء برامج محلّية لإنتاج المسيّرات، بينما لجأت دول أخرى إلى مورّدين دوليين.

يوضح الكاتب أنّ “مصدّري الأسلحة التقليديين مثل الولايات المتحدة، كانوا يسيطرون في البداية على إنتاج الطائرات بدون طيار ذات أنظمة “إم كيو-9 ريبر” (MQ-9 Reaper). لكنّ قيود التصدير مثل “نظام مراقبة تكنولوجيا الصواريخMissile Technology Control Regime (MTCR)، وهي اتفاقية متعدّدة الأطراف تضمّ الولايات المتحدة، حدّت بشدّة من بيع الطائرات المسيّرة الأميركية الصنع حتى لأقرب حلفاء واشنطن. حينئذٍ سارعت شركات من دول غير موقّعة على هذه الاتفاقية، مثل الصين وإسرائيل، إلى ملء الفراغ وتمكّنت من الانخراط في تجارة غير منظّمة إلى حدّ كبير. في الوقت نفسه، كثّفت دول أخرى لم تكن تقليدياً من مصدّري الطائرات المسيّرة برامج إنتاج هذه الطائرات. فباعت إيران طائرات مسيّرة إلى دول أخرى وأتاحتها لاثنين من وكلائها: حزب الله والحوثيين.

وبالمثل، اشتهر برنامج تركيا لتصنيع الطائرات بدون طيار من خلال طائرة “بيرقدار تي. بي 2″ (Bayraktar TB2) التي استخدمتها تركيا للمرّة الأولى ضدّ القوات الكردية في العراق وسوريا. وسرعان ما أصبحت مدرجة في قوائم التسوّق لِما يقرب من عشرين دولة في جميع أنحاء إفريقيا وآسيا الوسطى وأوروبا والشرق الأوسط”.

 

طلب أكثر.. نفوذ أقوى

يلفت غرينبيرغ إلى أنّه كلّما ارتفع الطلب على الطائرات المسيّرة ازدادت القوّة الدبلوماسية للدولة المورّدة لها، وذلك لأسباب ثلاثة متكاملة:

– السبب الأوّل: يعزّز تصدير الطائرات بدون طيار العلاقات مع الحكومات العميلة. وعادة ما يكون بيع المسيّرة مصحوباً ببرنامج تدريب طويل الأمد، ومساعدة لوجستية، واتفاقيات صيانة لها تأثيرات دائمة. فتصبح الدولة المستوردة معتمدة على الدولة المورّدة في أيّ تحديثات وقطع غيار لطائراتها المسيّرة. علاوة على ذلك، فإنّ تدريب الدولة المصدِّرة لأطقم الطائرات المسيَّرة في الدول المستورِدة ينسج لها علاقات تستمرّ مع استمرار ترقّي الأطقم المتدرّبة. وتُنتج هذه الروابط قنوات جديدة يمكن من خلالها للدولة المورّدة التأثير في صنع السياسات في الدولة المستوردة. وقد ادّعت وسيلة إعلامية إيرانية تابعة للحرس الثوري أنّ صادرات إيران من الطائرات بدون طيار “تعمّق نفوذها الاستراتيجي” على الصعيد الدولي.

يضيف غرينبيرغ أنّ الدول المورّدة تحرص على ترسيخ هذه العلاقات من خلال فتح مصانع طائرات بدون طيار خارج حدودها. فقد أنشأت إيران مثلاً خطوط إنتاج للطائرات المسيّرة في طاجيكستان وفنزويلا. وتخطّط تركيا لبناء مصنع TB2 في أوكرانيا. ووصف جنرال إيراني كبير افتتاح المصنع في طاجيكستان بأنّه نقطة تحوّل في العلاقات بين البلدين. ويمكن للطائرات المسيّرة أن تفتح بوّابة تصدير أسلحة أخرى على نطاق أوسع في المستقبل. فروسيا، على سبيل المثال، تدرس الآن شراء صواريخ باليستية من إيران.

– السبب الثاني: تساعد صادرات الطائرات بدون طيار الدول المورّدة على منافسة خصومها وتحدّي الأعداء الإقليميين. على سبيل المثال، ساهم نقل الطائرات التركية بدون طيار إلى أذربيجان في هزيمة أرمينيا في حرب ناغورني كاراباخ عام 2020، وأدّى إلى إذلال خصم تركيا القديم وإجباره على التنازل عن الأراضي. وبالمثل، قامت طهران بتسليح وكلائها بطائرات بدون طيّار لمهاجمة أهداف في دول الخليج العربية وإسرائيل واليمن.

يعزّز تصدير الطائرات بدون طيار العلاقات مع الحكومات العميلة

أكثر من نقل آلة

– السبب الثالث والأهمّ في رأي غرينبيرغ: يمكّن نقل الطائرات بدون طيار الدول المصدّرة من الانخراط في حروب بالوكالة في مناطق أبعد. عندما تبيع إيران المسيّرات لروسيا، على سبيل المثال، فإنّها تدعم الهجمات على أوكرانيا التي تدعمها الولايات المتحدة، وتُظهر في الوقت نفسه القدرات التي يمكن أن تستخدمها إيران ضدّ الولايات المتحدة في أيّ صراع مستقبلي. هناك بالتأكيد مخاطر سياسية وعسكرية، فقد تسبّبت صادرات طهران من المسيّرات في فرض عقوبات جديدة عليها، ويساعد استخدام هذه المسيّرات في أوكرانيا الولايات المتحدة وحلفاءها على تطوير إجراءات مضادّة. لكن بالنسبة إلى طهران، يبدو أنّ تعزيز العلاقات مع روسيا يفوق هذه المخاطر. ومع تنويع مورّدي المسيّرات إنتاجهم من خلال المصانع الخارجية، تصبح دبلوماسية الطائرات بدون طيار أكثر مرونة وأقلّ عرضة للتعطيل من قبل خصومهم. إسرائيل، على سبيل المثال، قصفت منشآت إنتاج الطائرات بدون طيار في إيران، لكنّها قد تجد مخاطرة كبيرة في مهاجمة المصانع الإيرانية في البلدان التي تربطها بها علاقات دبلوماسية ودّية مثل طاجيكستان. وتستخدم الدول المورّدة بيع المسيّرات لانتزاع الامتيازات من العملاء. وفقاً لموقع المونيتور الإخباري فإنّ بيع تركيا 20 مسيّرة إلى الإمارات العربية المتحدة مكّنها من تقييد وصول زعيم مافيا تركي بارز إلى وسائل التواصل الاجتماعي كان قد انتقل للعيش في دبي. وفي كانون الأول 2022، أعلن مسؤولون أميركيون أنّ روسيا تزوّد إيران الآن بـ “مستوى غير مسبوق” من المعدّات العسكرية المتطوّرة، ومن بينها الجيل الخامس من مقاتلات Su-35.

 

أكثر من سلاح

مع تزايد استخدام الدول للطائرات المسيّرة أداة للمنافسة فيما بينها، سيجهد صانعو السياسات لمعرفة كيفية الاستجابة. قد تتنافس الدول المورّدة على العملاء أنفسهم، وأيّاً كان الفائز بالعقد يضمن حصوله أيضاً على صفة الشريك الأمني، وهو ما يجعل من الصعب على الدول الأخرى ممارسة نفوذها. في حالات أخرى، قد تحتاج الدول إلى مساعدة حلفائها في الدفاع عن نفسها ضدّ الطائرات المسيّرة المعادية. في حرب أوكرانيا، زاد أعضاء الناتو من شحنات معدّات الدفاع الجوّي إلى كييف بعدما حصلت موسكو على مسيّرات إيرانية. لكنّ أغلب هذه الأنظمة يتضمّن إطلاق صواريخ باهظة الثمن لإسقاط مسيّرات أرخص بكثير. لذا قد يتطلّب البقاء في صدارة المنافسين في دبلوماسية المسيّرات ردّ فعل ينطوي على توفير أنظمة مضادّة لهذه الطائرات منخفضة التكلفة للدول التي تتعرّض لتهديد الطائرات المسيّرة من الخصم. ولقد سلّطت الحرب في أوكرانيا الضوء على الأهميّة المتزايدة للطائرات بدون طيار في مجال الأمن الدولي. ويجب على الولايات المتحدة وحلفائها الحدّ من تصدير الدول المارقة مثل إيران لهذه الطائرات من خلال فرض المزيد من العقوبات وضوابط التصدير، وأن تعمل في الوقت نفسه على تصدير المزيد من هذه الطائرات والأنظمة المضادّة إلى الحلفاء ومساعدتهم على بناء برامج إنتاج خاصة بهم تحدّ من احتمال لجوئهم إلى مورّدين آخرين.

يرى غرينبيرغ أنّ الطائرات المسيّرة لم تعد سلاحاً في ساحة المعركة وحسب، بل أصبحت أداة دبلوماسية أيضاً.

إقرأ أيضاً: إيران: أميركا تدعم الثورة.. أوروبا تريد “صفقة”

*إيريك لين غرينبيرغ هو أستاذ مساعد في قسم ليو ماركس للتطوير المهني في كلية العلوم السياسية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

*إم كيو 9 ريبر (MQ-9 Reaper) هي أكبر طائرة مسيّرة أميركية مسلّحة، وتمثّل أوّل جيل من الطائرات المسيّرة القاتلة، وتضمّ نظام طائرات كاملاً موجّهاً عن بُعد، ومهمّتها تدمير الأهداف العسكرية إلى جانب الاستكشاف وجمع المعلومات والمراقبة والاستطلاع باستخدام أجهزة استشعار لتوفير بيانات في وقت آنيّ للقادة والمتخصّصين في الاستخبارات على جميع المستويات.

*بيرقدار تي. بي 2 (Bayraktar TB2) هي أوّل مسيّرة طوّرتها شركة بايكار التركية في منتصف عام 2010، وتتمّ مراقبتها والتحكّم بها وبالأسلحة التي تحملها من محطة التحكّم الأرضية. وتركيا هي سادس دولة في العالم تصنع وتطوّر وتصدّر الطائرات العسكرية المسيّرة بعد الولايات المتحدة وإسرائيل والصين وباكستان وإيران. وهي أبرمت أخيراً اتفاقات لتزويد كلّ من أوكرانيا وقطر بطائرات من هذا النوع.

 

لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

فريدريك هوف: خطوات ترسم مستقبل سوريا

حّدد الدبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق إلى سوريا السفير فريدريك هوف عدّة خطوات تستطيع تركيا، بمساعدة واشنطن، إقناع رئيس هيئة تحرير الشام، أبي محمد الجولاني، باتّخاذها…

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…