الانقلاب الألمانيّ خطر “روسي” على أوروبا والعالم؟

مدة القراءة 7 د

فوجئ العالم بمحاولة الانقلاب أو التمرّد في ألمانيا، التي أثارت الاستهجان والتعجب: أيحصل هذا في بلد أوروبي من صنّاع الديمقراطية ومصدّريها، أم في إحدى دول العالم الثالث وإفريقيا غير المستقرّة؟! ففي هذه الأخيرة التمرّد والانقلابات هما أسلوب الحياة السياسية في ظلّ غياب تداول سلس للسلطة عن طريق الانتخابات والالتزام بنتائجها.

فجأة استيقظت ألمانيا على مخطّط أمنيّ استباقي يستهدف شلّ المؤسّسات الدستورية فيها. كانت الخطة تقضي بإحكام السيطرة على البوندستاغ (البرلمان الألماني) ومركز السلطة التنفيذية الاتحادية (الحكومة) والمؤسسة القضائية، ثمّ الشروع في إعلان ألمانيا الجديدة بحدودها التاريخية السابقة (1871 – 1945) التي تؤمن بها “حركة مواطني الرايخ” التي تُعتبر البيئة الجماهيرية لحزب “البديل”.

تعاني الليبرالية الألمانية أزمةً بنيوية. وقد سرّعت الحرب الأوكرانية – الروسية وجائحة كورونا من ظهورها وبروزها

تعتبر هذه البيئة ألمانيا هيكلاً إدارياً تحتلّه القوى الغربية التسلّطية غير الألمانية. وليست ظاهرة غير مقلقة أن تتنامى حركة عنصرية قوامها 15 إلى 25 ألف ملتزم وحوالي مئة ألف متعاطف معها. هؤلاء لا يعترفون بالجمهورية الألمانية الاتحادية، ولا باليورو عملةً للبلاد، ولا حتى بالاتحاد الأوروبي متّحداً سياسيّاً. وهم لا يدفعون الضرائب، ولا يعترفون بالدستور والقانون الألمانيَّين، ولديهم قانونهم الخاص المعروف بـ”قانون ساكسونيا”، ولا يعترفون إلا بألمانيا الرايخ وحدودها القديمة، ويتّخذون من ألمانيا الشرقية مكاناً لاستثماراتهم العقارية تمهيداً لإرساء دولتهم. وهم يريدون العودة إلى إمبراطورية الرايخ رافضين الدولة وديمقراطيّتها مبدأً وصيغةً للحكم.

لمسات روسيّة بعيدة

تتوافر معلومات جدّية عن تورّط حزب “البديل” أو بعض عناصره، وهو أقوى الأحزاب اليمينية المتطرّفة والمعارضة. وهو حزب حديث العهد أُسّس في عام 2013، ووضعه تحت الرقابة جهاز المخابرات الألمانية المحلية المعروف بمكتب حماية الدستور. ويجنّد الحزب عملاء يقدّمون معلومات لجهازه. وهناك شكوك في علاقاته بروسيا فلاديمير بوتين. فبعض قياداته يواظبون على زيارة موسكو. انطلاقاً من هذا يتأكّد وجود ضلوع خفيّ للاستخبارات الروسية في هذه الأحداث الأخيرة، وذلك من خلال التبدّل النوعي في الحراك السياسي الألماني واختلاف أولويّاته، وظهور تنافسية بين ألمانيا الشرقية والغربية، وعودة استخدام مصطلحات المنطق السياسي القديم.

حسب التقارير المخابراتية ساعد حزب “البديل” في إشاعة نظريّات المؤامرة التي حفّزت المتمرّدين في أنحاء البلاد على التخطيط لإسقاط الحكومة. وتقوم مبادئ الحزب على النقمة على تعويم اليورو، وعلى الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.

يُشتبه في أنّ لدى هذا الحزب كتلة في البرلمان من 79 عضواً. وهو حاضر في الولايات الألمانية الشرقية أكثر بكثير من الغربية. وهذا يزكّي أنّه مدعوم، ولو من بعيد، من روسيا. فشعاراته الأيديولوجية الداعية إلى الانفصال عن الاتحاد، والشكّ والارتياب بأوروبا، والمحافظة الوطنية الشوفينية، والشعبوية اليمينية والقومية العرقية الألمانية، كلّها تتناغم مع ما تسعى إليه روسيا، على الرغم من عدم توافر قواعد الإثبات والقرائن. في هذا السياق يثير جدلاً اعتقالُ امرأة روسية من ضمن المعتقلين الآخرين من أعضاء وقياديين سابقين وحاليين وملتزمين في حزب “البديل”. وهناك إشارات غير مؤكّدة إلى تواصل قائد المجموعة العسكرية مع السفارة الروسية، لكن بلا قرائن ولا دلائل.

تمرّد على ألمانيا الأوروبيّة

يعود ما حصل في ألمانيا بالتاريخ إلى بداية القرن المنصرم، وحقبة ما قبل الحربين العالميّتين الأولى والثانية، ثمّ الحرب الباردة، قبل سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين الذي وحّد ألمانيا، ويبدو اليوم أنّها تواجه متغيّرات غريبة، وهي جدّية، لكنّها لا ترتقي حاليّاً إلى مستوى الخطر على وحدتها.

الحدث الألماني خطير، مع أنّ الضالعين فيه خياليون وغير واقعيين. لكن يجب أن يُقرأ الحدث بتمعّن وجدّية للكشف عن تفاصيل مرامي الضالعين فيه

يظهر أنّ التمرّد الذي خطّطت له “حركة مواطني الرايخ” في ألمانيا، هو تمرّد على ألمانيا الأوروبية. وهو على صلة مباشرة بالحرب الأوكرانية – الروسية، وبتغيّر المزاج السياسي الألماني محليّاً وقارّياً ودوليّاً، وبتغيّر المزاج الدولي العامّ أيضاً، ويمكن قراءته في ضوء الخريطة السياسية الألمانية والدولية، وكأنّما الحوادث الكبرى لم تحصل:

– جدار برلين يبدو كأنّه ما يزال قائماً بعد سقوطه.

– التناغم الديمغرافي في المجتمع الألماني بين شرق ألمانيا وغربها يبدو كما لو أنّه لم يحصل.

يبدو كأنّما هناك صراع ألماني – ألماني بين السياستين الأوروبية والشرقية، وظهور طيفي لخلخلة الدولة الألمانية الموحّدة، القوية اقتصادياً والهشّة في وطنيّتها ومبادئها الديمقراطية. هناك أيضاً إشارة إلى إعادة التفاوض في شأن تسوية ما بعد الحرب العالمية الثانية.

هل هو انقلاب حقيقيّ؟

إن كانت الحادثة الألمانية الأخيرة مسرحية هزلية، أو غير مطابقة لصفة “الانقلاب”، فإنّ هناك مخاوف حقيقية من اتساع دائرة المؤمنين بالأفكار اليمينية بنسختها الجديدة والأكثر جموحاً.

لا يقتصر التطرّف على السياسة والعمل الحزبي والانتخابي، ولا عدم الاكتفاء بالاحتجاجات القانونية التي كفلها الدستور، بل يتعدّى الأمر إلى الأخطر: تحدّي الديمقراطية والاستعاضة عن التظاهرات والاحتجاجات الشرعية والذباب الإلكتروني بتنظيمات حركيّة متمرّدة تخرج على الاجتماع الديمقراطي الوطني، وتخطّط للانقلاب عليه باستخدام العنف وبمخالفة الدستور والقوانين لإسقاطهما. وهذا ما تنطوي عليه الحادثة الألمانية.

معاناة الليبراليّة الألمانيّة

تعاني الليبرالية الألمانية أزمةً بنيوية. وقد سرّعت الحرب الأوكرانية – الروسية وجائحة كورونا من ظهورها وبروزها. فألمانيا التي تقف إلى جانب أوكرانيا ضدّ روسيا، تكريساً لمبادئ الديمقراطية والتزاماً بالنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة بعد الحرب العالمية الثانية، أضحت تواجه في داخلها أخطار تعصّب عقائدي عفا عليه الزمن في أوروبا، لكنّه بات يُستعاد اليوم في أشكال وألوان كثيرة جديدة. وقد يكون ذلك بسبب الأزمات المستجدّة المتفاقمة التي لم تعد تنفع الطرق التقليدية السابقة في علاجها في عالم يولد فيه نظام جديد ويوصف بأنّه  متعدّد الأقطاب.

بات اليمين المتطرّف يمثّل خطراً حقيقياً على ألمانيا منذ سنوات، لكنّه لم يحظَ بالاهتمام اللازم من الدولة التي لم تدرجه ضمن أولى المشكلات التي عليها علاجها، وذلك ربّما بسبب خطأ مقصود. فالحركة التي كانت تخطّط للانقلاب واعتقلت السلطات الألمانية أعضاءها، قديمة نسبياً، لكنّها برزت أخيراً من خلال التململ الاجتماعي ورفض انخراط ألمانيا خاصة، وأوروبا عامة، في معركة لا تعتبرها معركتها: المساعدات الكبيرة جدّاً لأوكرانيا التي أرهقت الاقتصاد الألماني، والأوروبي أيضاً. وانعكس ذلك في ارتفاع نسبة البطالة وتكاليف المعيشة، إضافة إلى مستويات التضخّم غير المسبوقة وانخفاض قيمة العملة أمام الدولار.

عرض عالميّ

شكّلت الحادثة الألمانية

الحادثة  صدمة، ليس فقط في ألمانيا، بل في أوروبا والعالم أجمع أيضاً. وتزايد القلق من أن تحدث متغيّرات في ألمانيا والمجتمعات الأوروبية الغربية، تعكس انعكاساً حقيقياً الحرب الروسية – الأوكرانية.

إقرأ أيضاً: أوكرانيا: بدء العدّ العكسيّ لوقف الحرب

الحدث الألماني خطير، مع أنّ الضالعين فيه خياليون وغير واقعيين. لكن يجب أن يُقرأ الحدث بتمعّن وجدّية للكشف عن تفاصيل مرامي الضالعين فيه. فهو يشكّل انعكاساً لأحد العناوين الرئيسية الألمانية في الحاضر والمستقبل، ومبنيّ على أجزاء من ركام التاريخ والماضي الألمانيَّين.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…