في آخر زيارة قام بها رئيس التيّار الوطنيّ الحُرّ جبران باسيل لرئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، استهلّ اللقاء بالقول: “أريد طيّ صفحة الخلاف، ولعلّنا أخطأنا”. كان جوابُ المضيف الذي غالباً ما يعتمد أسلوبَ الاستيعاب والاحتواءِ ووضعِ النفس مكانَ الجالسِ أمامه لفهم مقاصدِه: “ونحن أيضاً أخطأنا فاعْتَبِر أنَّ الصفحةَ طُويت وأهلاً وسهلاً بك”. ثمّ دار حديثٌ طويلٌ تطرّق إلى موضوع رئاسة الجمهورية. قال باسيل: “أنا لا أريد سليمان فرنجيّة ولا قائد الجيش العماد جوزف عون”، فسأله برّي: “وماذا تقترح؟”، أجاب: “أنا لستُ مُرشّحاً، لكن يُمكن أن نطرح أنت والسيّد حسن نصر الله وأنا 4 أسماء ثمّ نختار واحداً بينها”. أدرك رئيس المجلس فحوى هذا الطرح ورسائله المُبطّنة، فقال: “طالما ذكرتَ السيّد حسن نصر الله، فاذهب للاتّفاق معه وبلِّغوني بالنتيجة”، ثمّ سافر باسيل إلى فرنسا، وأطلقَ تصريحاً أعقبه عتابٌ من برّي ثمّ محاولةٌ من باسيل لترطيب الأجواء.
عادَ باسيل إلى بيروت ورفع اللهجة إلى أقصاها ضدّ الرئيس نجيب ميقاتي و”مشغّليه”، وهدّد بفرض اللامركزيّة الموسّعة بالقوّة، وألمحَ إلى احتمال التوقّف عن استخدام الورقةِ البيضاء في مجلس النواب والبحث الجدّيّ عن مُرشّح للرئاسة، مُشيراً إلى عدم دستوريّة وميثاقيّة جلسات مجلس الوزراء، وأيضاً جلسات مساءلة وزراء الاتصالات وغيرها في مجلس النوّاب.
الواضح أنّ المساعي المحليّة والعربيّة والدوليّة الناشطة حاليّاً تتمحور حول سليمان فرنجيّة وجوزف عون. والواضح أكثر أنّه على الرغم من بعض الميول العربيّة والدوليّة لترجيح كفّة عون، إلّا أنَّ الأمر بحاجة إلى تعديلٍ دستوريّ من مجلس النوّاب
رُبّما توقّف برّي فقط عند التهديد باللامركزيّة التي غالباً ما يذكُر هو نفسُه أنّها ملحوظة أصلاً في اتفاق الطائف، وأمّا الباقي فهو يُدرجُه على الأرجح، وفق المقرّبين منه، في خانة رفض باسيل لسليمان فرنجيّة والجدل القائم حول رئاسة الجمهوريّة، وهو مُدركٌ تماماً أنّ رئيس التيّار الوطنيّ يعمل جاهداً في الوقت الراهن على رفع العقوبات الأميركيّة عنه، ولن يذهب بعيداً في تنافرِه العلنيّ مع حزب الله. لم يشعر نبيه برّي، وفق المقرّبين منه، بأنّه مقصودٌ بكلام باسيل.
كانت أمورٌ عديدةٌ قد جرت قبل المؤتمر الصحافي لجبران باسيل في سياق مساعي برّي لسحب فتائل التفجير، ومنها إلغاء جلسة مساءلة وزراء الاتصالات من دون تحديدِ موعدٍ لجلسة أخرى، وربّما جرى تواصلٌ بهذا المعنى بين عين التينة والتيّار، وقد لعبَ نائب رئيس مجلس النوّاب الياس بو صعب دوراً في هذا.
الواضح أنّ المساعي المحليّة والعربيّة والدوليّة الناشطة حاليّاً تتمحور حول سليمان فرنجيّة وجوزف عون. والواضح أكثر أنّه على الرغم من بعض الميول العربيّة والدوليّة لترجيح كفّة عون، إلّا أنَّ الأمر بحاجة إلى تعديلٍ دستوريّ من مجلس النوّاب، وهذا مُستحيل الحصول مع المجلس الحالي وفقَ العارفين، وقد لا يكون برّي نفسه متحمّساً لذلك، وهذا ما يعني أنّ ترشيح قائد الجيش مُستبعدٌ جدّيّاً في الوقت الراهن.
أعرب باسيل غير مرّة عن رفض عون، وهو كان قد انتقد في مقابلته في برنامج “الرئيس” على قناة “الجديد” الدورَ الذي لعبه قائد الجيش في خلال انتفاضة 17 تشرين من عام 2019، وحين سُئل في أحد مجالسِه عن مدى شكوكه في دور عون قال: “ربّما وصل الأمر آنذاك إلى حدّ الانقلاب”.
أمّا رئيس الحزب التقدّميّ الاشتراكي وليد جنبلاط فكان أيضاً قد أعربَ عن رفضه قائدَ الجيش، وذلك في رسائلَ نصّيّةٍ (قيل إنَّها كانت عبرَ الهاتف) إلى عددٍ من المسؤولين والسفارات، وبينها السعوديّة والأميركيّة والفرنسيّة، وربّما الكويتيّة. ثمّة من يردّ موقفَ جنبلاط هذا إلى استيائه السابق من قائد الجيش بسبب عدمِ رغبةِ الأخير بالتجديد لرئيس الأركان الدرزي المحسوب على المختارة على الرغم من حصول اتصالٍ مُباشر بين جُنبلاط وعون حينذاك بعد اتصال مماثل مع وزير الدفاع، غير أنّ الاستياء تلاشى لاحقاً إلى حدٍّ ما بعد دخول وسطاء على الخطّ، وليس مُستبعداً أن يكون الرئيس برّي قد لعبَ دوراً في هذا الأمر الذي تولّى جُزءاً منه النائب وائل أبو فاعور.
حين يُقال للمُقرّبين من الثُنائي إنّ اهتزاز الوضع الداخليّ في إيران رُبّما شجّع البعض على التأثير على باسيل الراغب برفع العقوبات الأميركيّة عنه والعودة إلى السباق الرئاسي، غالِباً ما يكون الجواب أنّ “الوضع الإيراني ما زال في حدود الضبط والسيطرة”
ماذا عن سليمان فرنجيّة؟
ما تزال حظوظه هي العليا. صحيح أنّ الولايات المتحدة الأميركيّة ترغبُ ضمنيّاً بترئيس جوزف عون، لكنّ السفيرة الأميركيّة في لُبنان قالت صراحةً في أحدِ مجالسِها: “لن نقف ضدّ سليمان فرنجيّة لأنّه قد يُنتخَب”، وهو ما يعني أنّ أميركا لا تُعارض انتخابَه، تماماً كما توافق فرنسا ضمنيّاً، إضافة إلى دولٍ عربيّة عديدة، حتّى لو أنَّ بعضَها ما يزال يربط زعيم تيّار المردة بحزب الله ويقول “إنّنا لا نُريد أن نكرّر معه تجربة الرئيس ميشال عون”.
الواقع أنّ عاملَ الوقتِ يبدو كبيرَ الأهميّة راهناً، ويُتوقّع أن يستمرَّ التصعيد في المرحلة المُقبلة ليس فقط من قبل جبران باسيل، وإنّما أيضاً من قِبَل الرئيس السابق ميشال عون. وهذا قد يشتدّ في أعقاب عودة البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى لُبنان من الأردن غداً الخميس.
تقولُ معلوماتٌ موثوقة إنّ الرئيس برّي وبعد أن يُعلن الجلسة الأخيرة لانتخاب رئيس للجمهورية في 15 الجاري، قبل التوقّف لمناسبة عيدَيْ الميلاد ورأس السنة، سيبدأ بالإعداد الجدّيّ لإعادة إطلاق مسار الحوار الذي من المُفترض أن يتناول رئاسة الجمهوريّة، إضافة إلى سلّة كاملة من الأمور، من بينها مثلاً الحكومة المُقبلة.
يبدو الثنائي الشيعيّ مُتريّثاً في الإقدام على إعلان مُرشّحه (الذي هو سليمان فرنجيّة فحسب)، وهو يُدرك أنّه حتّى لو ذهب باسيل إلى حدّ الطلبِ من بعض نوّاب التيّار التصويت لميشال معوّض في الجلسة المُقبلة غداً، فلن يجتازَ الخطوط الحُمر، ذلك أنّ أيّ مُغامرة في هذا الاتجاه والانفصال كُلّيّاً عن حزب الله يعنيان أنّه قد فتح البابَ على مصراعيه أمام رئيس حزب القوّات اللُبنانيّة للمباشرة بتطويقه، ويُضاف إلى ذلك أنَّ الرئيس ميشال عون يبقى صمام الأمان ضدَّ أيّ انزلاق نحو الانفصال عن الحزب.
حين يُقال للمُقرّبين من الثُنائي إنّ اهتزاز الوضع الداخليّ في إيران رُبّما شجّع البعض على التأثير على باسيل الراغب برفع العقوبات الأميركيّة عنه والعودة إلى السباق الرئاسي، غالِباً ما يكون الجواب أنّ “الوضع الإيراني ما زال في حدود الضبط والسيطرة”، وأنّ “الدولة المُحاصَرة منذ 43 عاماً لم تتراجع، فيما رأينا كيف تزعزعت روسيا في فترة قصيرة من التطويق الغربيّ”، مع الإشارة إلى تحريك بعض المشاعر القوميّة من قبل الخارج الذي يجد في النقمة الداخلية وسيلةً للضغط. قد يكون الاطمئنان صحيحاً أو يكون بمنزلة رغبات يُراد لها أن تكون واقعاً، لكنّ الأكيد أنّ رأي برّي في ضرورة توسيع هامش التسامح في مسائل الحرّيات والحجاب مُستنِداً إلى آياتٍ قُرآنية بهذا المعنى، يختلف عن رأي حزب الله الذي يرى في كلّ ما يحصل في إيران مؤامرة خارجيّة.
لا يبدو أنّ لدى الثنائي الشيعيّ، على الأقلّ حتّى الساعة، استعداداً للتنازل عن سليمان فرنجيّة، وينقل البعض عن رئيس مجلس النوّاب تذكيرَه الدائم بأنّه حتى حين جاءه الجنرال ميشال عون طالِباً دعمه للرئاسة قبل سنوات، كان جوابُه: “ليس عندي شيءٌ ضدّك، وأنا أحملُ الودّ لك، لكنّني لن أنتخبك، وإنّني مُلتزمٌ بسليمان فرنجيّة”.
هذا الالتزام هو اليوم أشدّ من أيّ وقتٍ مضى، والمراهنة هي على الوقت، والسعي هو إلى إعادة إطلاق قطار الحوار والتسويات، وغالباً ما ينقل زوّار الرئيس برّي عنه قوله: “المُشكلة في الواقع ليست عند المُسلمين، ذلك أنّك لن تجد مُسلماً لا يُريدُ انتخابَ رئيسٍ اليومَ قبلَ الغد، وكم نتمنّى أن يتّفق إخوتنا الموارنة على شخصيّة رئيس كي نتساعد وننتخب رئيساً في أقرب وقت، وذلك أنّ الوطنَ ما عاد يتحمّل”.
هذا بالضبط ما يُذكِّر بمرحلة البطريرك الماروني السابق مار نصرالله بطرس صفير، رحمه الله، حين زارَه برّي في أوج الضغوط لانتخاب رئيسٍ بالنصف زائداً واحداً، وسأله: “هل تُريد يا غبطة البطريرك أن ينتخبَ المسلمون الرئيسَ المسيحيّ”، وطبعاً كان جواب البطريرك أنّه لا يُريد ذلك، فلبّى تمنّي برّي بإصدار تصريح علنيّ بذلك.
إقرأ أيضاً: لبنان بين فعلِ الحزبِ وقولِ البطريرك
إذاً هي لعبة وقتٍ حتّى يحين انتخاب سليمان فرنجيّة رئيساً إن لم تحصل مفاجأة أخرى، لكن غالباً ما تحملُ مثلُ هذه الفترات من الانتظار أخطاراً جمّة، وهو ما ينبّه منه أصحابُ الحلّ والربط والمعرفة الدقيقة. من هذه الأخطار مثلاً تدهورٌ مفاجئٌ للوضع الأمنيّ، أو عودةٌ عنيفة إلى الشارع من قبل هذا الطرف أو ذاك، أو اغتيالٌ، أو جنوحٌ أكبر وأخطر نحو فكرة التقسيم…..
حين سُئل نبيه برّي مرّة عن رأيه في فكرة التقسيم قال: “يعني حين يخرج النفط قرب المناطق الشيعيّة سنقول لإخوتنا المسيحيين، هذا لنا وليس لكم، والله هذا مَعيب، واتفاق الطائف لحظ بوضوح مسألة اللامركزيّة الموسّعة، لكنّها لا تعني التقسيم، ولا أعتقد أنّ لُبنانيّاً واحداً حريصاً على وطنه عند المسيحيّين أو الدروز أو السُّنّة أو عندنا يُفكّر في هذا”.
*نقلاً عن موقع “لعبة الأمم”