تثير الرسائل المتطايرة من المؤتمر الـ 20 للحزب الشيوعي الصيني معلنةً التمسّك بالنموذج الصيني “الفريد” القائم على الجمع بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، أي “قبضة شيوعية من حديد” داخلياً و”طريق رأسمالية من حرير” خارجياً، جملة أسئلة بشأن تداعيات الحرب الباردة “المشتعلة” بين أميركا والصين على الاقتصاد العالمي والتحالفات الدولية، وكذلك تداعياتها على المنطقة العربية باعتبارها ميداناً رئيسياً لهذه الحرب بحكم دورها ومواردها وموقعها الجيوسياسي.
أسئلة
تتدحرج الأسئلة التي لا يمكن لأحد ادّعاء امتلاك إجابات كاملة عليها، وأهمّها:
– لماذا انتهت حالة “المساكنة الهائنة” بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي، وتحوّل الموقف الأميركي من دعمها إلى محاربتها، ومطالبة الصين بالاختيار: إمّا اعتماد النظام الرأسمالي فعلاً لا مواربة فتكون مكوّناً طبيعياً في النظام العالمي يمكن منافسته، وإمّا اعتماد النظام الشيوعي بالكامل والانكفاء إلى ما وراء “سورها العظيم” فتشكّل محوراً شيوعياً، كما الاتحاد السوفييتي، يجب محاربته.
– إذا كان النموذج الصيني “الفريد” قد أثبت قدرته على الحياة وفعّاليته في تحقيق معجزة تنموية في ظلّ علاقة الصداقة والدعم مع أميركا والدول الغربية، فهل يبقى كذلك في ظلّ الحرب الباردة “المشتعلة” على كلّ الجبهات، أم تنفجر الصراعات داخل الحزب الشيوعي، وبين الحزب والشعب، وبين الدولة والأقلّيات المطالبة بالانفصال؟
– هل يرسو النظام العالمي على نموذج ثنائي قطباه أميركا والصين، مع صراع وحرب باردة وأحياناً فاترة في بعض المجالات، وتنافس وتكامل في مجالات أخرى؟
قامت “المساكنة الهانئة” بين الصين والدول الرأسمالية ـ الليبرالية بقيادة أميركا على تهاون أميركا مع الصين في قضايا السياسة الداخلية والأيديولوجية، وقمع الحرّيات وظلم الأقلّيات
تقتضي الحصافة وسلامة التحليل التروّي في إطلاق الاستنتاجات والأحكام، نظراً إلى تشابك العوامل المتحكّمة بالتطوّرات، وسرعة تغيّرها وغموض العوامل المتعلّقة بالنظام الصيني، والاعتماد بدلاً من ذلك على رصد وتحليل الوقائع والمعطيات لاستقراء التطوّرات.
الإصلاحيّون والماويّون: “مساكنة قسريّة”
يُلاحَظ بداية أنّ النظام المعتمَد في الصين منذ نصف قرن تقريباً، يقوم على “نموذج فريد” يجمع نظامين متناقضين: الأول رأسمالي ـ ليبرالي في الاقتصاد والعلاقات الخارجية، مع دور مركزي في إدارته لفئة التكنوقراط من خرّيجي الجامعات الأميركية والغربية. والثاني شموليّ اشتراكي في السياسة والقضايا الداخلية يديره الحزب الشيوعي والجيش.
هذا النموذج أرسى دعائمه الزعيم التاريخي دينغ شياو بينغ في عام 1978، بعد صراع مرير وأحياناً دمويّ بين الإصلاحيين والمتشدّدين الماويّين داخل الحزب الشيوعي، تعرّض خلاله دينغ شياو نفسه للإقصاء والسجن وأُجبِر على العمل مع زوجته في مصنع جرّارات.
ولفهم الواقع الحالي، تجدر الملاحظة أنّ الصراع لم ينتهِ حينذاك بانتصار حاسم لطرف على آخر، بل انتهى بتسوية أو “بمساكنة قسريّة” بين الإصلاحيين والمتشدّدين الشيوعيين تمّ بموجبها إبعاد “عصابة الأربعة” وإطلاق يد دينغ شياو لتنفيذ سياسات “الإصلاح والانفتاح” و”السلام والتنمية”، التي تقضي بإعطاء الأولوية للتنمية الاقتصادية والانخراط المدروس في النظام الرأسمالي العالمي، مع الإبقاء على سيطرة مطلقة للحزب الشيوعي في القضايا السياسية الداخلية والخارجية. وتجدر الملاحظة أيضاً أنّه لم يوضع أو الأصحّ لم يُعلَن “ترسيم حدود” تدخُّل وسيطرة الحزب على الاقتصاد، وحتى على الشركات الكبرى التي تعمل وتنافس في أسواق الدول الرأسمالية. وهذه الضبابية مستمرّة حتى اليوم، والاتّهامات الأميركية ـ الغربية لشركة هواوي بأنّها مملوكة للجيش الصيني، أحد الدلائل.
أميركا والصين: “مساكنة هانئة”
اعتمدت الصين توسيع وتعميق التوجّه الإصلاحي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بتبنّي ما أُطلق عليه سياسة “الفرصة الاستراتيجية”، وذلك بهدف الاستفادة من اندفاع أميركا إلى تكريس موقعها قطباً وحيداً في العالم من خلال تبنّي وفرض سياسات العولمة وتحرير التجارة والاستثمار وفتح الأسواق “تحت بنديرة” إجماع واشنطن الشهير. وقد دعمت أميركا بكلّ قوّتها النموذج الصيني “الفريد” وسياسة الانفتاح تحقيقاً لمصالحها، إذ جعل الصين المكان المناسب لنقل الصناعات الملوِّثة وذات الاستخدام الكثيف للطاقة والعمالة، وجعلها أيضاً موطناً لفرص استثمارية هائلة في شتّى القطاعات من الموضة والأزياء إلى صناعة الفضاء وتقنيّات الجيل الخامس. في المقابل وجدت الصين في العولمة والدعم الأميركي “الفرصة الاستراتيجية” لجذب الاستثمارات ونقل التكنولوجيا وتحقيق النموّ، بل تحقيق معجزة تنموية وإخراج “أكثر من 850 مليون صيني من دائرة الفقر”، كما يذكر تقرير للبنك الدولي.
اعتمدت الصين توسيع وتعميق التوجّه الإصلاحي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بتبنّي ما أُطلق عليه سياسة “الفرصة الاستراتيجية”
قامت “المساكنة الهانئة” بين الصين والدول الرأسمالية ـ الليبرالية بقيادة أميركا على تهاون أميركا مع الصين في قضايا السياسة الداخلية والأيديولوجية، وقمع الحرّيات وظلم الأقلّيات، مع غضّ الطرف عن غموض وضبابيّة الحرّية الاقتصادية فيها، وذلك مقابل تهاون بل تنازل الصين في مسائل السياسة الخارجية، وخاصة قضية تايوان، وتوظيف عائدات النموّ في الأسواق الأميركية والغربية عموماً، ووضع الجزء الأكبر من الاحتياطيات المالية الصينية في سندات الخزينة الأميركية والدولار، إضافة بالطبع إلى إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص والتكنوقراط في إدارة الاقتصاد الصيني، بما يسهّل عمل الشركات الغربية.
انكسر الدفّ وتفرّق العشّاق
فيما كانت الولايات المتحدة الأميركية مستكينة إلى “المساكنة” مع الصين و”تنام على حرير” تفرّدها بقيادة العالم في ظلّ العولمة، كانت الصين “تنسج حرير تفوّقها” وتعبّد “طرق حريرها” إلى أن تحوّلت في غضون سنوات إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والأوّل في بعض القطاعات، وأصبحت المنافس الخطر لأميركا في مختلف المجالات من الصناعة والتجارة وسلاسل الإمداد إلى تكنولوجيا المعلومات والذكاء الصناعي وصولاً إلى “المناطق الحرام” التي تُعتبر “عصب قوّة أميركا”، ومن أبرزها ما يلي:
– هزّ عرش الدولار بما هو عملة مهيمنة في الاحتياطيات والمبادلات الدولية.
– فرض اليوان عملةً منافسة. ومن أخطر المبادرات في هذا المجال:
أولاً، تثبيت اليوان عملةً ثالثةً بعد الدولار واليورو في سلّة عملات حقوق السحب الخاصّة لدى صندوق النقد الدولي.
ثانياً، إطلاق بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) نظاماً لتسديد قيمة الصفقات الآجلة لواردات الصين من النفط، باليوان المقوّم بالذهب، أي أنّ المصدّر له حرّية تقاضي قيمة الصفقة بالذهب أو باليوان. وهي الآليّة ذاتها التي اعتمدتها أميركا بموجب اتفاقية “بريتون وودز” من خلال تثبيت سعر أونصة الذهب بـ 35 دولاراً، قبل أن يقدم الرئيس ريتشارد نيكسون في عام 1971 على تحرير سعر الدولار، وتبدأ المرحلة التي أطلق عليها الاقتصاديون “الدولار اللصّ” تعبيراً عن حقيقة أنّ أميركا تطبع العملة الخضراء بتكلفة 2 سنت وتبيعها للعالم بـ100 دولار.
يُضاف إلى ذلك سعي الصين بدون نجاح يذكَر حتى الآن إلى استخدام اليوان والعملات المحلّية في المبادلات التجارية مع دول منظّمة شنغهاي و”آسيان +3″ وغيرها، وتطويرها نظام بديل لـ “السويفت” إلخ…
نجحت الصين في تشجيع وتسهيل دمج جهود البحث والتطوير المدنية والعسكرية وتعزيز الاستخدام المزدوج للابتكارات، وخاصة في مجالات تقنيّات الجيل الخامس والذكاء الصناعي
نهاية معادلة: “أميركا تبتكر والصين تصنع”
أهمّ التحدّيات التي تواجهها أميركا هو مقارعتها في ميدان التكنولوجيا وتقنية المعلومات، وهما العصب الثاني لقوّة أميركا بعد الدولار. ومن أطرف الدلائل، وإن لم يكن أهمّها في هذا المجال، تمكُّن الصين في عام 2019 من إزاحة أميركا عن عرش براءات الاختراع الذي تربّعت عليه طوال أربعة عقود منذ إنشاء المنظمة العالمية للملكية الفكرية، بعدما تمكّنت خلال عقدين فقط من زيادة طلبات تسجيل البراءات بحوالي 200 ضعف. وهو الأمر الذي أغضب أميركا، ليس بسبب خسارة المركز الأوّل فقط، بل لأنّ الجزء الأكبر من البراءات المسجّلة تتعلّق بقطاع التكنولوجيا المتقدّمة، وليس بتصنيع إطارات السيارات وألعاب الأطفال. وكانت هواوي الشركة المسجّلة لأكبر عدد من البراءات للعام الثالث على التوالي. وهو ما يعني انتهاء معادلة “أميركا تفكّر وتبتكر، والصين تنفّذ وتصنع”.
أمّا “الشرارة” التي أشعلت نيران الغضب الأميركي، فكانت إعلان الصين في شهر تموز 2020 الخطوط العريضة لاستراتيجية معايير الصين 2035 المتعلّقة بالثورة الصناعية الرابعة وتشمل مختلف المجالات، مثل شبكات الجيل الخامس، الطاقة المتجدّدة، معدّات تكنولوجيا المعلومات، الذكاء الصناعي والمدن الذكيّة، إنترنت الأشياء، الأمن السيبراني، إضافة إلى برامج وتطبيقات الرعاية الصحية الذكية والضمان الاجتماعي إلخ…
ولتبيان أهمّية وخطورة المعايير والمقاييس التقنية، نشير إلى أنّها قواعد ونظم صناعة المنتجات: من قابس شحن الهاتف الذكيّ، إلى الأقمار الصناعية المدنية والعسكرية. والدولة أو الشركة، التي تنجح في فرض معاييرها، تضمن سلفاً السيطرة على الأسواق، ولا تزال العبارة الشهيرة لمؤسّس شركة “سيمنز” قبيل الثورة الصناعية الأولى صالحة لاختصار الشرح، وهي: “من يضع المعايير، يمتلك السوق”.
ومع أنّ الصين تريّثت في وضع هذه الاستراتيجية موضع التطبيق، بسبب ردود الفعل الأميركية العنيفة، إلا أنّه يمكن القول إنّ المعايير الصينية مطبّقة فعلاً بحكم الأمر الواقع، إذ رُبطت مثلاً مشاريع مبادرة الحزام والطريق المتعلّقة بشبكات الجيل الخامس والمدن الذكيّة والآمنة باعتماد المعايير التقنية الصينية. وتمّ إبرام أكثر من 116 اتفاقية لإنشاء هذه المدن، من بينها 25 مشروعاً في مدن أوروبية.
الاندماج المدنيّ ـ العسكريّ
نجحت الصين في تشجيع وتسهيل دمج جهود البحث والتطوير المدنية والعسكرية وتعزيز الاستخدام المزدوج للابتكارات، وخاصة في مجالات تقنيّات الجيل الخامس والذكاء الصناعي. ومع أنّ المبادرات في هذا المجال تُحاط بسرّية كاملة بإشراف مباشر من الرئيس الصيني، إلا أنّ الإدارات الأميركية المتعاقبة كانت تتّهم الصين باستخدام الشركات غطاءً لتقوية القدرات التكنولوجية للجيش الصيني، وذلك ما يفسّر إعلان إدارة دونالد ترامب الحرب على شركة هواوي متّهمة إيّاها بأنّ “أنشطتها وشبكاتها ذات استخدام مزدوج مدني وعسكري ـ أمنيّ”.
أوباما يعلن الحرب
أمام هذه التطوّرات، انتهت صلاحيّة نموذج الحكم الصيني “الملتبس” بالنسبة إلى أميركا لأنّه بات يشكّل خطراً وجودياً عليها: فلا هو شيوعيّاً يجب محاربته ولا رأسمالياً يمكن منافسته. وهكذا تحوّلت “المساكنة الهانئة” إلى حرب باردة بدأت بوادرها في 2010 بعد الأزمة الماليّة العالمية التي هزّت بعنف أسس النظام الرأسمالي، مكبِّدة الدول الغربية وغالبية الدول النامية خسائر فادحة وركوداً وتضخّماً، ولم تؤثّر إلا بشكل محدود على الصين. وتوسّعت هذه الحرب مع الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما في 2012، وازدادت سخونتها في عهد ترامب، وبلغت درجة الغليان في عهد جو بايدن، فتحوّلت إلى حرب شاملة على جبهات التجارة والمال والسياسة والمناخ والرقائق وصولاً إلى “المناطق الحرام” مثل تايوان والأقليّات العرقية في الصين، مع السعي الحثيث إلى فكّ التشابك بين الاقتصادين الصيني والأميركي بأقلّ الأضرار الممكنة.
إقرأ أيضاً: الودّ المفقود بين الصين وأميركا
قواعد الاشتباك الجديدة
في المقابل يُلاحظ أنّ الصين حذت حذو أميركا وفي التوقيت نفسه تقريباً، فدخلت حالة “المساكنة القسرية” مع الإصلاحيين في الداخل مرحلة التراجع مع تولّي شي جين بينغ السلطة في عام 2012. وظهرت عليها علامات المرض في المؤتمر الـ 19 للحزب الشيوعي في 2017، عندما أعلن الرئيس شي جين بينغ بدء حقبة جديدة لإعادة ترسيخ النظام الاشتراكي وتقوية الحزب الشيوعي “لتصحيح الاختلالات الأيديولوجيّة والسياسية والمؤسّساتية”، كما قال. ثمّ شهد المؤتمر الـ 20 دخول حقبة الإصلاح حالة الموت السريري بركائزها السياسية والأيديولوجية ورموزها.
الخلاصة: الحرب الباردة بدأت فعلاً. وقمّة جو بايدن ـ شي جين بينغ التاريخية في بالي لم تُعقد لتجنّبها، بل للاتفاق على قواعد الاشتباك.
الجزء الثاني: هل تنجح أميركا في وضع الصين أمام أحد خيارين: إمّا تغيير نظامها وتبنّي النظام الرأسمالي فعلاً لا مواربة والاندماج في النظام الرأسمالي العالمي، وإمّا تبنّي النظام الشيوعي فعلاً لا مواربة، والتقوقع “وراء سورها العظيم”.