تنقل التقارير الصحافية والفيديوهات عن ما يحدث في إيران منذ نحو أشهر ثلاثة، أخبارًا وصورًا وشهادات عن تغيُّر أنظمة السلوك والعلاقات الاجتماعية في الحياة اليومية العامة الإيرانية، التي لن تعود، على الأرجح، إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الاحتجاجات على قتل شرطة الآداب أو الأخلاق الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني.
السياسة والحرية
فهذه الاحتجاجات تتميز عن سابقاتها الكثيرة في إيران الخمينية، بأنها كسرت مفهوم السياسة والممارسة السياسية، بوصفهما صراعًا على السلطة وميزان قوى بين المتصارعين عليها، لتقول إن السياسة في أصلها وفصلها مسألة حياة وحريات عامة، خاصة وفردية، سلوكية ورمزية، في نظام العلاقات وشبكاتها بين البشر، وليست فحسب نزاعًا على حيازة أو تقاسم السلطة والثروة ومقدّرات العيش.
تنقل التقارير الصحافية والفيديوهات عن ما يحدث في إيران منذ نحو أشهر ثلاثة، أخبارًا وصورًا وشهادات عن تغيُّر أنظمة السلوك والعلاقات الاجتماعية في الحياة اليومية العامة الإيرانية، التي لن تعود، على الأرجح
فمهسا أميني لم تُقتل لأنها كانت تطالب في شيء، بل لأنها امرأة، أي حرمة يحرسُ الرجال والنظام الذكوري حرمتها وشرفها المعلّقين بخصلةٍ من شعرها السافرة خارج حجابها، حسب معايير الإسلام الخميني. وسفور تلك الخصلة من شعرها لم يحدث عن سابقِ إرادة ولا تصميم منها، بل عن سهوٍ وقلةِ انتباه. لذا بدأت الاحتجاجات على قتلها بإرادة نساءٍ إيرانيّات وتصميمهنّ على نزع الحجاب عن رؤوسهنّ وقذفها عاليًا في الفضاء، وحرقها وقصّ خصل شعرهن السافر في العلانية العامة. ثم كرّت سبحة الاحتجاجات الرمزية على نحو فني مبتكر في الديار الإيرانية، تحت شعار موحد: “المرأة، الحياة، الحرية”، وبمشاركة أو مؤازرة فئات واسعة ومتنوّعة من الشعب الإيراني، العمرية والمهنية والطبقية والدينية والقومية والإثنية، رغم تركّز الاحتجاجات بقوّة وتصدّي النظام لها بعنف مفرط ودموي في ديار الكرد والبلوش الأذريّين، واتهامهم بنزعاتٍ انفصالية. وذلك كي يتمكّن نظام الملالي الخامنئي والحرسي من تحقيق مقولته الموهومة: جهات خارجية، إقليمية ودولية وعالمية، تتآمر كلها بإمرة الشيطان الأكبر الأميركي وقيادته لتقويض نظام الجمهورية الإسلامية العادل والسعيد والحر والمحسود وحده في مشارق الأرض ومغاربها. والدليل الأنصع على عدله وحريته وسعادته ما حقّقه في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
مقاومة رمزية لاهية
لم يوقف القتل الاحتجاجات، بل وسّعها. فإذا كانت حرية النساء بؤرتها ومثالها الأول والأقوى، فإن الحريات في إيران الخمينية مسألة وجودية عامة تشمل كل من يعيش ويقيم ويعمل على الأراضي الإيرانية، وفي البلاد المنكوبة التي استتبعها الحرس الثوري الإيراني، وحوّل ثوراتها في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية في سوريا والعراق واليمن ولبنان إلى مآسٍ وديار فقر وخراب، أي سعادة منقطعة النظير في القاموس السياسي الغرائبي لجنرالات الحرس الخامنئي السعيد، ومشايخه من الملالي السعداء.
ولأن هذا الحلف بين جنرالات الحرس ونخبة الملالي يخنق إيران، يُسلط عليها فساده ويفقرها ويعتقل أو يقتل كل من يعترض عليه، تكاثرت الفيديوهات التي تصوّر فتيانًا وفتيات يركضون ويركضْنَ خلف مشايخ عابرين في شوارع مدنٍ إيرانية ومفاجأتهم بملامسة عمائمهم، لاهين/ات بقذفها عن رؤوسهم وإسقاطها أرضًا، ثم يتابعون ركضهم هاربين، فيما يقف المشايخ سافري الرؤوس مذهولين حائرين ماذا يفعلون، محدّقين حولهم كأنما فضيحة أحاقت بهم بين الناس العابرين.
وفي فيديو آخر جرى تداوله على نطاقٍ واسع في إيران وخارجها، تظهر فتاة إيرانية ترتدي بدل اللباس “الشرعي” المفروض على الإيرانيات، زيًّا شعبيًا بلوشيًّا مزركشًا بلا حجاب ولا غطاءٍ على رأسها، فيما هي تسترسل منفردة في الرقص تحت برج أزادي (الحرية)، أحد أبرز معالم العاصمة طهران. وهذا ردًا فرديًا منها على قتل شاب بلوشي يدعى خدانور لعجي، شاع تداول صورته مكبّلًا إلى عمود يُرفع عليه علم إيراني في مركزٍ أمني. وقد كبّل شبّان إيرانيون كثيرون أجسامهم إلى أعمدة في الشوارع، لتسليط الضوء على مأساة الشاب القتيل لعجي. أما وكالة الحرس الثوري للأنباء فقالت إن لعجي اسم مستعار لمهاجر أفغاني يدعى صادق كيداني، كان اعتُقل في الصيف الماضي بتهمة سرقة مسلّحة، وأُطلق سراحه بكفالةٍ مالية. وكانت السلطات الإيرانية قد أعدمت سنة 2020 بطل المصارعة الرومانية نويد أفكاري (27 سنة) بتهمة قتله حارسٍ أمني أثناء احتجاجات 2018. أما عائلته فقالت إنه تعرّض للتعذيب حتى الموت، لحمله على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها. وفي احتجاجات مدينة شيراز الراهنة اعتُقلتْ شقيقة المصارع إلهام أفكاري بتهمة محاولتها الفرار من البلاد. ونفى نشطاء في المدينة قائلين إنها اعتُقلت في شيراز مسقط رأسها. وحتى أواسط الشهر الحالي (تشرين الثاني) ذكرت الإحصاءات أن عدد المعتقلين/ات في إيران بلغ 15 ألفًا في 137 مدينة و136 جامعة.
لغة جديدة غريبة
أذهلت التغيّرات في سلوك الإيرانيين/ات في الحياة اليومية العامة سلطات الملالي والحرس الثوري. فهذا عزت الله ضرغامي، وزير السياحة في نظامٍ يحتقر السياحة والسيّاح إذا لم يعتقل بعضهم، يصرّح ناقمًا من أن المسؤولين يفقدون المقدرة على التفاهم مع مواليد ما بعد العام 2000 في إيران. ودليله إلى هذا استجواب المحققين مئاتٍ من معتقلي الاحتجاجات الفتيان والشبان. وبعض المعتقلين/ات ممن يقذفون عمامات المشايخ ويرمونها أرضًا في الشوارع ويهربون. وقال بعض المحققين إنهم منذ وقت طويل تمرّسوا في التحقيق مع معتقلين سياسيين من كبار السن، لكنهم يجدون مصاعب تفوق بأشواط أثناء استجوابهم معتقلي الاحتجاجات الراهنة من الشبان والفتيان. فهؤلاء لا يفهم المحققون ماذا يقولون، كأنهم يتحدّثون لغة غريبة تعادل تمامًا لغة المحققين الذين يتساءلون مستغربين: اليوم تتحدى النساء والطالبات والتلميذات قوانين الحجاب، وتسرن في الشوارع حاسراتٍ بلا حجاب. ماذا يحدث؟! والفتيات والفتيان معًا يتشاركون في الأقدام على نزع عمامات المشايخ عن رؤوسهم وإسقاطها أرضًا في الشوارع والأماكن العامة، فماذا نفعل بهذا الوباء الزاحف في إيران؟!
وظهر في فيديو صُوّر في مدرسة ثانوية للذكور أن جمعًا من الطلاب يحاصرون رجل الدين في المدرسة مطلقين حوله صيحات الاستهجان والسخرية. وفي فيديو آخر صُوّر في قاعة درس طالباتٍ سافرات أو نزعن حجاباتهن في حضور رجل دين يتحدث إليهن، فأُسقِط في يده كأنما أصابه خرس مفاجئ. وقال رجل دين آخر يدعى جواد نيك، وهو نائب في البرلمان، إنه تعرّض للضرب على يد مجموعة من المحتجين، بينما كان في طريقه إلى مقر بلدية طهران.
[VIDEO]
سقوط رقابة المطبوعات
قبل أيام أصدر 250 مترجمًا إيرانيًا في مجالات الأدب والفلسفة والعلوم الإنسانية بيانًا يدعم الاحتجاجات، ويتعهّد بمواجهة قيود الرقابة المفروضة على المترجمين. وقال البيان: “من اليوم فصاعدًا سننشر الكتب التي يمنعها هذا السد (الرقابة) منذ سنوات من الوصول إلى المواطنين. والاحتجاجات الحالية تعلمنا ألاّ نعود إلى الوراء، ونضاعف جهودنا من أجل الحرية”. ومن الموقّعين على البيان مترجمون بارزون، من أمثال عبدالله كوثري، سروش حبيبي، بابك أحمدي، وخشيايار ديهيمي. وقبل هذا بأيام أصدر أكثر من 600 أستاذ جامعي وباحث إيراني بيانًا يدعم الطلاب المحتجّين. وهدّد البيان بانضمام الأساتذة والباحثين إلى الطلاب، في حال عدم إلغاء الأحكام الصادرة ضد الحقوق المدنية للطلاب.
أما الباحث والصحافي الإيراني البارز أمير طاهري المقيم خارج إيران، فكتب في صحيفة “الشرق الأوسط” (18/11/2022) أن “مفهومًا جديدًا للحياة أبرزته الاحتجاجات الإيرانية الراهنة، باعتبارها المهمة الحقيقية للسياسة. وقد تحوّلت كلمة أزادي (الحرية) صيحة المحتجين ضد التمييز في الهند، وضد الإجراءات القمعية في أفغانستان طالبان”. أما الكاتبة الهندية أروندتي روي فنشرت كتابًا عنوانه “أزادي”.
إقرأ أيضاً: إيران… القمع هو الحلّ ولا مكان للحوار
وتطوف الحرية الإيرانية وشعارها “المرأة، الحرية، الحياة” في أرجاء العالم، حسب طاهري: على ملصقات عملاقة في شوارع طوكيو. في محطة السكة الحديد الرئيسية في أمستردام. في وسائل ضوئية في ريو دو جينيرو. وعلى الجدران في الشوارع من إندونيسيا إلى الأرجنتين. والشعار عينه مصدره الأول ندوة التأمت في جامعة أصفهان سنة 1977، لمناسبة الذكرى 25 لمنح المرأة حق التصويت في إيران. وذلك حينما كان لدى إيران قاضية في المحكمة العليا قبل الولايات المتحدة الأميركية، ووزيرات قبل بعض الديموقراطيات الغربية.