ترافق محنة الموارنة البطريرك المارونيّ أينما حلّ. تُثقل عليه. تزيد حمل المسؤولية التاريخيّة على كتفيه، فبدا متعبًا ومنهكًا، قال لنا من التقاه هناك في الحاضرة الفاتيكانيّة، حيث يظل متسلّحًا بالرجاء في حضرتها.
حزن فاتيكاني
السبب الأساسي لزيارة البطريرك الراعي الفاتيكان هذا الأسبوع هو المشاركة في التحضيرات للسينودس الذي سيعقد في 2023 بعنوان “من أجل كنيسة سينودسيّة: شركة ومشاركة ورسالة”. ومن المؤكّد أن الأزمة اللبنانيّة ستكون حاضرة في لقاءاته مع المسؤولين الفاتيكانيين. ومن المؤكّد أيضًا أن الفاتيكان لا يملك العصا السحريّة للحلّ. فالفاتيكان، كما كل الدول المعنيّة بالشأن اللبنانيّ، ينتظر من اللبنانيين تحمّل مسؤولياتهم في الاستحقاقات الدستوريّة والحياة السياسيّة وفي إصلاح الدولة ومؤسّساتها.
والفاتيكان ربما من أكثر الدول حزنًا على ما وصل إليه لبنان، وقلق على الواقع المسيحي فيه. ولكن “إن لم يبنِ ربّ البيت، فعبثًا يعمل البنّاؤون الآخرون”. فالفاتيكان يصلّي، يُعلي الصوت، يحرّك قضيّة لبنان في المحافل الدوليّة وفي الأروقة الدبلوماسيّة. ولكنه يجد نفسه عاجزًا أمام إصرار الطبقة السياسيّة اللبنانيّة على “تدمير” البلاد، كما تقول لـ”أساس” مصادر فاتيكانيّة. وأكثر ما يحزنه أن المسيحيين عامّة والموارنة خاصّة يعيشون محنة غير مسبوقة في تاريخهم.
عند كل استحقاق انتخابي تتظهّر محنة الموارنة: انقسامات، عداوات، خلافات. وصراعات. تحاول مرجعيتهم الروحيّة، بكركي، التخفيف منها
نهاية مأساوية
عند كل استحقاق انتخابي تتظهّر محنة الموارنة: انقسامات، عداوات، خلافات. وصراعات. تحاول مرجعيتهم الروحيّة، بكركي، التخفيف منها. تجمعهم. تُجلسهم إلى طاولة واحدة. تطرح عليهم مناقشة مواضيع مشتركة. يتّفقون على موضوع، ويختلفون على مواضيع. وفي الحالين لا يتغيّر شيء في حالهم البائدة. لا الاتّفاق يؤدّي المرجو منه. ولا نتائج خلافاتهم الكارثية تردعهم، رغم أنهم شعب مهدّد بوجوده:
1- نزف ديموغرافي لا يتوقّف منذ حرب سنة 1975، ويقوى من حين إلى آخر، بسبب الصراعات المارونيّة – المارونيّة أو بسبب سياساتهم الخرقاء. الأرقام التي نشرتها “الدوليّة للمعلومات” بعد انتخابات 2022، تُظهر الواقع الديمغرافي الخطير للمسيحيين بحسب الهرم الديموغرافي، وربّما هذا أكثر ما يُقلق بكركي والفاتيكان.
2- تراجع في الحضور السياسيّ. فبعد أن كان الموارنة أصحاب مبادرة في تأسيس لبنان الكبير، أصبحوا اليوم أتباعًا في محاور إقليميّة. غير قادرين حتى على اختيار مرشّح منهم لرئاسة الجمهوريّة.
3- تعرّض الدور التاريخيّ للموارنة إلى الدمار والزوال. وهو أخطر تهديد لهم في تاريخهم منذ عقود، لا بل منذ قرون. لعب الموارنة عبر التاريخ دور المعلّم والطبيب والصناعيّ والتاجر. اليوم يخسرون كل هذه الأدوار:
– الدور التربويّ الذي لعبه الموارنة منذ تأسيس المدرسة المارونيّة (1584) مهدّد بالزوال. فالعديد من المدارس والجامعات مهدّدة بالإقفال. ومن يستطيع الاستمرار يتراجع مستواه التعليميّ. فالمال عامل أساسي في مواكبة التطوّر العلميّ، خاصّة في عصر الثورة التكنولوجيّة. وهذه المؤسّسات خسرت أموالها في المصارف، كسائر اللبنانيين. وفقد أهل الطالب القدرة على دفع الأقساط كما ذي قبل. والدولة المفلسة عاجزة عن دعم المؤسّسات التربويّة. والأخطر في هذا المجال خسارة الأستاذ الكفوء. فالعديد من الأساتذة هاجروا بسبب الانهيار. ولن يعودوا. وهؤلاء من نخبة الاساتذة. استبدلتهم المؤسّسات التربويّة، ولكن بمن هم أقل كفاءة وخبرة.
– لبنان، مستشفى الشرق، تحوّل إلى مقبرة للمرضى. في ما مضى، بُنيت شهرة لبنان في المجال الاستشفائي على الطبيب الكفوء والمستشفى العريق. ولعب المسيحيون، بخاصة الموارنة، دورًا أساسيًا في هذا المضمار. الانهيار دمّر القطاع الاستشفائي. خسرت المستشفيات أموالها. وهاجر الطبيب الذي صنع شهرتها. والأخطر هجرة الأطباء الكفوئين لتخريج أطباء جُدد.
– انهار النظام الاقتصادي الليبرالي الحرّ الذي قام على التجارة والسياحة والصناعة والقطاع المصرفي، وكان للموارنة دور كبير في تأسيسه وتطويره. بدأوه منذ عهد الإمارة المعنيّة، بالشراكة مع الدروز. تاجروا مع أهل البندقيّة وتوسكانا. كانوا روّادًا في صناعة الحرير. وهي كانت الأساس في القطاع الصناعي اللبنانيّ. وهم رواد في القطاع السياحيّ. يملكون الخبرة والانفتاح. وكان لهم الدور المركزيّ في القطاع المصرفيّ واعطوا حاكميّة المصرف المركزيّ. اليوم دُمرّ هذا القطاع كلّيًا. وكل كلام خلاف ذلك هو من باب المُكابرة ورفض الواقع، أو من باب ذرّ الرماد في العيون، لإخفاء الحقيقة.
نواطير المفاتيح
أمام هذا المشهد السوداويّ ماذا يفعل الموارنة وزعماؤهم؟ يغرقون في انقساماتهم وخلافاتهم وصراعاتهم. لا يتّفقون على رأي ولا على مرشّح للرئاسة. يتقاتلون على رئاسة جمهوريّة في بلاد غدت أشلاء. يتصارعون على تمثيل موارنة هاجروا وسلّموا مفاتيحهم لـ “ناطورة المفاتيح”.
إقرأ أيضاً: “لعنة” ميشال عون على الموارنة
محنة الموارنة أن قَلّت بينهم الرجال القادة. فالقائد يتخطّى مصلحته في نيابة أو وزارة أو رئاسة من أجل خير الجماعة. وهنا لا أعني جماعة المسيحيين فقط، إنما جماعات اللبنانيين كافة. فما يحدث للموارنة وبينهم ينعكس سلبًا على كل لبنان. ولو اعتقد البعض أنّه مستفيد من الانقسام المسيحي – المسيحيّ. فمحنة الموارنة، هي محنة لبنان.