عندما ترى قيادة النظام الإيراني أنّ الحوار مع المعترضين أو المعارضين نقطة ضعف لصلاحيّاتها وسلطتها المطلقة، ويفتح الباب أو الطريق أمام مسار طويل من التنازلات لا يمكن التنبّؤ أو معرفة نهاياته، فإنّ هذه القيادة والدولة العميقة لا تريان سبيلاً للمعالجة غير اللجوء إلى التصعيد والتعامل من منطلق أمنيّ مع أيّ طرح فكري أو اجتماعي أو سياسي أو إعلامي أو اقتصادي.
خيار النظام الإيراني حتى الآن هو المواجهة في التعامل مع الحراك الشعبي والاحتجاجيّ الذي تفجّر أواسط شهر أيلول الماضي بعد مقتل الفتاة مهسا أميني على يد “شرطة الأخلاق”. وما سقوط نحو 350 ضحية من المتظاهرين إلا مؤشّر واضح إلى هذا الخيار المفتوح على مزيد من التصعيد. ليس هذا المسار الأمنيّ التصعيدي جديداً، فقد تمّ التأسيس له إثر حملة الإعدامات الواسعة التي حصلت عام 1988 بحقّ أكثر من 3,500 عنصر ومتّهم من جماعة “مجاهدي خلق”، بناء على فتوى من زعيم الثورة الإمام الخميني، وكان أحد الذين تولّوا مهمّة إصدار الأحكام رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي بحكم كونه مدّعياً عامّاً للثورة آنذاك.
القتل بفتاوى “تضمن الآخرة” للقتلة
أفضل توصيف لهذه الإعدامات، التي تكشف بدورها عن الذهنية التي تتحكّم بخلفيّة أيّ قرار أو آليّة قد يعتمدها النظام في التعامل مع الحراك الشعبي الحالي، هو ما ذهب إليه رجل الدين المتشدّد رئيس “مركز توثيق الثورة الإسلامية” روح الله حسينيان إذ قال إنّ “تلك الإعدامات لم تكن نتيجة قرار رئيسي، بل بناء على فتوى أصدرها الإمام الخميني وكلّفه مع آخرين مسؤولية تنفيذ هذه الإعدامات، وعلى الشعب أن يشكر السيّد رئيسي على ذلك. وأُعلن هنا أنّه إذا كنّا بحاجة مرّة أخرى إلى إعادة استخدام تلك الجدّية، فسنكون أكثر جدّية هذه المرّة آخذين بالاعتبار التجربة التي مررنا بها وما شاهدناه بأمّ أعيننا، وسنقوم بذلك بجدّية أكبر من السابق، فنحن لم نقُم بعمل يتعارض مع الأخلاق”.
في الموقف من رفسنجاني لم يتردّد وزير الأمن والاستخبارات الأسبق حيدر مصلحي في إقناع مجلس خبراء الدستور بإعلان عدم أهليّة رفسنجاني للمشاركة في الانتخابات الرئاسية
هذه الأدبيّات التي تعتبر القيام بهذه الأعمال عملاً أخلاقياً يضمن “الأجر والثواب في الآخرة” للّذي يقوم بها، لم تغب عن ممارسات النظام على مدى العقود الماضية، وتحوّلت إلى منهجية في التعامل مع أيّ تحرّك اعتراضي، سواء شكّل تهديداً حقيقياً أم لا. وقد برزت بشكل واضح عام 1998 في الهجوم على مهاجع الطلاب في جامعة طهران وقتل وجرح العديد منهم لمنع اتساع دائرة هذا الحراك ولكي لا يتحوّل إلى ورقة ضغط قد تجعل من الجامعات مصدر قلق دائم ومكاناً لحركات اعتراضية أخرى. لقد شكّلت محطة الاغتيال لعدد من المفكّرين والسياسيين والإعلاميين قبل رئاسة محمد خاتمي وفي بدايتها عام 1997، علامة بارزة على ما يمكن أن تمارسه أجهزة النظام الأمنيّة من أجل إبعاد أيّ نوع من الأخطار قد تهدّد سلطة المرشد أو تضعها في دائرة التساؤل، خاصة أنّ الذين قاموا بهذه الاغتيالات، وإن كانوا يشغلون مواقع متقدّمة في وزارة الأمن، فإنّهم استطاعوا الحصول على فتوى دينية تضمن لهم “الأجر والثواب” وتمنحهم “الغطاء الشرعي والأخلاقي” لأعمالهم.
على الرغم من الفضيحة التي شكّلها إصرار خاتمي على كشف الجهات التي تقف وراء هذه الاغتيالات، وتصدّي النظام لهذا التوجّه، فإنّ الاضطرابات بقيت حاضرة كالجمر تحت الرماد. حينذاك لجأ النظام إلى تعطيل غالبية وسائل الإعلام والصحف التي شكّلت الأداة الأبرز الحاملة للمشروع الإصلاحي، وتحوّلت السجون إلى محلّ لاستضافة العديد من الناشطين السياسيين والإعلاميين والمدنيين الذين اتّخذوا قرار البقاء داخل إيران وعدم مغادرتها. وهي استراتيجية انتهت إلى ما أراده النظام من استعادة السيطرة على السلطتين التنفيذية والتشريعية من يد الإصلاحيين.
إسقاط رفسنجاني وتاريخه أمام سطوة النظام
اتّخذت هذه السياسة والاستراتيجية طابعاً آخر في التعامل مع مصدر خطر وقلق مختلف مَثَّلَهُ الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، الذي كان يُعتبر إلى وقت قريب أحد أركان النظام والثورة ومنظومة السلطة. فعندما قرّر العودة إلى لعب دور على رأس السلطة التنفيذية فُرِضَت عليه أوّلاً الخسارة أمام محمود أحمدي نجاد عام 2005. ولاحقاً وفي عام 2009 لم يشفع تاريخ رفسنجاني له في مواجهة قرار النظام التخلّص منه وإخراجه من دائرة التأثير والشراكة ومحاسبته على موقفه المتعاطف مع القيادي الإصلاحي والمرشّح الرئاسي في ذاك العام مير حسين موسوي و”الحركة الخضراء”، فوقعت بقرار من النظام عمليات انتقام من المطالبين بتصحيح النتائج الانتخابية الرئاسية أدّت إلى سقوط أكثر من مئة قتيل ومئات المعتقلين.
في الموقف من رفسنجاني لم يتردّد وزير الأمن والاستخبارات الأسبق حيدر مصلحي في إقناع مجلس خبراء الدستور بإعلان عدم أهليّة رفسنجاني للمشاركة في الانتخابات الرئاسية بذريعة ما يتسبّب به من آثار سلبية على وحدة القرار وحصريّته داخل السلطة الحاكمة. وقد وصل الموقف السلبي منه إلى حدٍّ دفع المرشد إلى عدم ذكر جملة “اللهم لا نعلم منه إلا خيراً” خلال أدائه لصلاة الميت عليه، بعد وفاته المشكوك فيها.
أسقط موقف المرشد هذا كلّ محاولات التسوية والحوار، ويعني أنّ أيّ تغيير في استراتيجية النظام للتعامل مع أزماته الداخلية لن يحصل، وأنّ خيار القمع ما زال المتقدّم والمعتمَد
القمع بلا هوادة
لا تختلف آليّات تعامل النظام مع رئاسة حسن روحاني عمّا كانت الحال عليه مع رئاسة خاتمي ورفسنجاني. ولم يداخل قيادة النظام أيّ تردّد في تطبيق سياسة إفشال جهود روحاني لإنقاذ الوضع الاقتصادي والسير بالاتفاق النووي والمفاوضات إلى نتائجها المطلوبة، وفي الوقت نفسه ممارسة أقسى أنواع القمع في مواجهة أيّ تحرّك مطلبي في الشارع، وهذا ما حدث في عامَيْ 2016 و2019 وأدّى إلى سقوط مئات القتلى والجرحى من المتظاهرين.
انعكست سياسة إفشال جهود روحاني التفاوضية مع الغرب ومنعه من استثمار نتائج الاتفاق النووي في إعادة عجلة التنمية، فشلاً لدى الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي في استثمار إنجاز روحاني وتحقيق تغيير في الوضع الاقتصادي، الذي ازداد تفاقماً مع عودة الحصار والعقوبات الأميركية. كان لا بدّ لهذا الفشل المتراكم في إدارة الدولة والسياسات الداخلية والخارجية أن ينفجر في مكانٍ ما وبلحظةٍ ما ولحجّةٍ ما.
إقرأ أيضاً: “حراك مهسا”: طهران قلقة والمرشد يُنذر بالصدام
إنّ الإنكار ورفض الاعتراف بالحراك الحالي الذي تشهده إيران، وعدم وجود أيّ بادرة من قيادة النظام والسلطة لفتح باب الحوار والتعامل مع المطالب التي يرفعها المتظاهرون والمعترضون، كانت واضحة في خطاب المرشد الأخير في 19 تشرين الثاني الحالي، الذي جاء تحت وقع الحديث عن أكثر من 350 قتيلاً في الشارع وأكثر من 14 ألف معتقل، والذي تمسّك فيه المرشد بوصف المعترضين بـ”مثيري أعمال الشغب”، وأكّد أنّ “الأيام المقبلة ستشهد إنهاء هذه الأعمال ومحاسبة ومعاقبة من قام بها بشدّة وحسم”، طالباً من قوات “الباسيج” التصدّي للمتظاهرين “والمؤامرة الأميركية التي يتعرّض لها النظام”.
أسقط موقف المرشد هذا كلّ محاولات التسوية والحوار، ويعني أنّ أيّ تغيير في استراتيجية النظام للتعامل مع أزماته الداخلية لن يحصل، وأنّ خيار القمع ما زال المتقدّم والمعتمَد.