شكّل اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل منعطفاً على المستويات السياسية والاقتصادية، وإنجازاً مهمّاً تمّ تحقيقه بالتقاط اللحظة المناسبة لتقاطع معطيات ومتغيّرات إقليمية ودولية. وكان فرصة نادرة ومؤاتية ضمن محاولات الخروج من حالة الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي. وهو الأمر الذي استدعى نقل النقاش في الاتفاق من حيّز التشكُّك والاتّهامات بتقديم التنازلات أو ادّعاء الانتصارات بهدف التوظيف السياسي، إلى حيّز النقاش الموضوعي لتحصينه وضمان تنفيذه بتهيئة البيئة السياسية والتنظيمية اللازمة لتشجيع الشركات على الاستثمار في التنقيب والاستخراج.
فهل جاء الاتّفاق في سياق تسوية إقليمية دولية أم في لحظة تقاطع مصالح آنيّة في ضوء تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، والحاجة إلى غاز شرق المتوسط، معطوفة على حاجة إسرائيل إلى التهدئة والاستقرار لضمان استخراج الغاز من حقولها الشمالية؟
هل يشكّل الاتفاق مقدّمة لتسوية الأزمة السياسية المستعصية في لبنان؟ وما هي ملامح هذه التسوية؟
ماذا عن ترسيم الحدود البحرية مع سوريا؟ وهل يتطلّب ذلك نضوج ظروف شبيهة بظروف ترسيم الحدود الجنوبية؟
هل يتطلّب التنفيذ تطوير الإطار التشريعي والتنظيمي، خاصة لناحية تحقيق الإصلاحات السياسية والإدارية، وتفعيل دور هيئة قطاع البترول وجعلها هيئة ناظمة، وإنشاء شركة نفط وطنية إلخ..؟
في محاولة للإجابة على هذه التساؤلات ولإثراء النقاش المطلوب، وانطلاقاً من دوره السياسي والإعلامي، بادر موقع “أساس” إلى تنظيم ندوة حوارية شارك فيها كلّ من الوزير والنائب السابق ياسين جابر، والنائب جورج عقيص، والنائب فيصل الصايغ. وقام تلفزيون “الجديد” مشكوراً بنقل الندوة على الهواء مباشرة، وتولّى الزميل محمد زينب مهمّة الحوار التلفزيوني، في حين أدار النقاش الزميل ياسر هلال.
بعد مشاركة جابر أمس، ينشر “أساس” اليوم مشاركة عقيص، وغداً مشاركة الصايغ.
لا أحد يعرف كيف سيُنفَّذ هذا الاتفاق، وما هي النزاعات التي يمكن أن تنتج عنه، وكيف ستُعالَج تلك النزاعات، ومن سيعالجها. وربّما علينا التمهّل بالحكم على الاتفاق ومراقبة كيف سيتمّ تطبيقه مرحلة بعد أخرى
اتفاق الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل هو الأوّل من نوعه في العالم. فهو اتفاق بين دولتين لا علاقات دبلوماسية بينهما، وأُبرم تحت رعاية دولة ثالثة وعُهد بتنفيذ الجزء الأكبر منه المتعلّق بالبلوك رقم 9 إلى شركة خاصة.
لا أحد يعرف كيف سيُنفَّذ هذا الاتفاق، وما هي النزاعات التي يمكن أن تنتج عنه، وكيف ستُعالَج تلك النزاعات، ومن سيعالجها. وربّما علينا التمهّل بالحكم على الاتفاق ومراقبة كيف سيتمّ تطبيقه مرحلة بعد أخرى.
ما يؤكّد ضرورة التمهّل هو أنّه جاء نتيجة مناخ أمميّ مؤاتٍ وظروف وحاجات دولية، ونتيجة التقاء مصالح. فإسرائيل تحتاج إلى مناخ استقرار لاستكمال عمليات الاستخراج في كاريش والتنقيب في بلوكاتها الشمالية. ولبنان يحتاج إلى الاستقرار لبدء استغلال موارد النفط والغاز في مياهه البحرية، في مسعى إلى الخروج من أزمته الماليّة والاقتصادية.
لذلك جاء الاتفاق ليوفّر الحدّ الأدنى من المصالح وقد يُنهي النزاع لاحقاً. وعلى الرغم من أنّ فريقنا السياسي كانت لديه علامة استفهام عن التخلّي عن الخط 29، لكن ارتأينا أنّ من المؤاتي والمستحسَن وضع مسألة من قدّم تنازلات ومن لم يقدّمها جانباً، والانصراف إلى الاهتمام بكيفية تنفيذ الاتفاق وتحصينه، ومعالجة المشاكل الكامنة فيه مثل المنطقة المتنازَع عليها التي يمكن وصفها بأنّها “مزارع شبعا بحرية”.
من هنا جاءت المطالبة بعرض الاتفاق على مجلس النواب ليس لعرقلته أو إسقاطه كما قيل، بل استكمالاً للإجراءات الدستورية، ولأنّ إقراره من قبل البرلمان يشكّل تحصيناً له. وهذا يقودنا إلى لبّ الجواب على السؤال الذي طرحتموه، وهو أنّ تنفيذ الاتفاق يحتاج إلى توافق داخلي وتجاوز الصراعات القائمة. وقد يكون ملف النفط هو المساحة المشتركة الوحيدة المتاحة للتوافق بين اللبنانيين الذين اختلفوا على كلّ شيء.
على الرغم من أهميّة ما حصل، لا يمكن لمس استفادة جدّية منه إلا إذا طوّرنا منظومة الحكم بشكل يطمئن الشركات والمستثمرين إلى أنّ بيئة العمل والاستثمار تُدار بشكل صحيح
لا جدوى.. بلا رئيس
نحن الآن أمام واقع جديد في تاريخنا وجغرافيّتنا ونظامنا. ندعو كلّ الفرقاء إلى تحييد هذا الملف عن النزاعات والصراعات السياسية لمصلحة جميع اللبنانيين. وحتّى الآن لا يعطي المسؤولون الاهتمام اللازم لهذا الموضوع، ولا يضعونه في قائمة أولويّاتهم وتوجّهاتهم السياسية. فبعد التهليل للاتفاق لمدّة أسبوع، رجعنا إلى الخلافات والنكد السياسي وتصوير الاتفاق وكأنّه انتصار لطرف سياسي والسعي إلى توظيفه لصالح هذا الطرف. في حين أنّ تحصين هذا الاتفاق يستوجب الانصراف إلى بناء دولة فعليّة، وأولى الخطوات انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة والبدء بالإصلاحات المطلوبة وإقرار التشريعات اللازمة لحماية النفط وتطبيق القوانين، وفي مقدَّمها القانون 132/2010، الذي يحقّ لنا التساؤل: ماذا بقي منه؟
لذلك لا يستقيم بحث الترسيم مع سوريا أو تنفيذ الاتفاق مع إسرائيل، قبل انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وانتظام عمل المؤسّسات. فالبحث يدور الآن حول دستورية انتقال صلاحيّة رئيس الجمهورية إلى حكومة تصريف أعمال، وما المسموح والمحظور. لا بدّ من تلزيم البلوكات التي ليست موضع نزاع مع الدول المجاورة.
أمّا بالنسبة إلى ترسيم الحدود البحرية مع سوريا، فصحيح أنّنا لسنا في حالة عداء معها كما هو الحال مع إسرائيل، لكنّ المفاوضات مع سوريا ستكون مريرة، استناداً إلى التجارب السابقة. ونعرف النظرة السورية إلى لبنان، ونعرف السلوك الثابت طوال عقود من الزمن. وطبعاً نؤيّد بدء مفاوضات مباشرة لحلّ مشكلة الحدود. لكن في حال تعثّرت المفاوضات، ما الذي يمنع اللجوء إلى التحكيم أو القضاء الدولي؟ فهناك العديد من الحالات التي لجأت فيها دول صديقة وشقيقة إلى القضاء الدولي، كما في حالة الترسيم بين تونس وليبيا. وعلينا أن نحافظ على كلّ الخيارات، فإذا لم نتوصّل إلى اتفاق مع سوريا لا يجوز أن نبقى مكتوفي الأيدي، فخياراتنا مفتوحة وفق كلّ ما يقرّه القانون الدولي.
مجدّداً، على الرغم من أهميّة ما حصل، لا يمكن لمس استفادة جدّية منه إلا إذا طوّرنا منظومة الحكم بشكل يطمئن الشركات والمستثمرين إلى أنّ بيئة العمل والاستثمار تُدار بشكل صحيح، والمسؤولين عن إدارتها أناس ذوو كفاية وبعيدون كلّ البعد عن شُبهات الفساد. وذلك وضع لا يزال بعيد المنال حالياً. لذلك المسؤولية كبيرة جداً. وعلى المجلس النيابي بعد انتخاب رئيس للجمهورية أن ينكبّ على دراسة كلّ التشريعات التي تتعلّق بالنفط. فلدينا القانون رقم 132 وقانون تعزيز الشفافية في قطاع النفط ومراسيم عديدة، وهناك اقتراحات قوانين مهمّة جداً، مثل الصندوق السيادي وشركة النفط الوطنية. وهذه المنظومة التشريعية يجب أن تكون موضع عناية كبيرة بهدف استكمالها وضمان تنفيذ القوانين الموجودة. والنائب السابق ياسين جابر كان قد رأس لجنة تُعنى بالقوانين غير المُنفّذة ، وكنت أحد أعضائها، فهناك العديد من القوانين غير المُنفّذة وقوانين أخرى لم تصدر مراسيم تطبيقها. وتوجد بعض القوانين التي تحتاج إلى مراجعة وتعديل مثل قانون هيئة إدارة قطاع البترول، وهي هيئة مشلولة وصلاحياتها منتهَكة، واعتذار عضو الهيئة وسام الذهبي عن عدم المشاركة في الندوة دليل على قصور القانون وعدم فهم مُطلق للدور المفترض للهيئات الناظمة واستقلاليّتها. وأدعو إلى استكمال منظومة الإصلاح في لبنان بدءاً من قانون استقلالية السلطة القضائية وتعزيز وتفعيل وتطبيق كلّ القوانين التي لم تُنفّذ.
إقرأ أيضاً: ياسين جابر لـ”أساس”: “اصطفاف الكواكب” أهدانا “الترسيم”
ختاماً أنوّه بالدور الذي لعبه رئيس المجلس النيابي في إنشاء علاقة مع النرويج تمّ بموجبها تقديم مساعدة قيّمة في وضع وتطوير الإطار التشريعي والتنظيمي، وأنا وزميلي فيصل الصايغ قمنا في عام 2019 بزيارة للنرويج للاطّلاع على تجربتها التي تُعتبر من أنجح التجارب، إن لم تكن الأنجح، وخاصة في مجالات إدارة العائدات المالية والصندوق السيادي وشركة النفط الوطنية. وآمل أن يُستكمَل هذا الجهد وتلك العلاقة.