الموت في طرابلس لا يحتاج إلى قاتل، المدينة بتاريخها وحاضرها تدفن أبناءها. سقف مدرسة يسحق رأس فتاة، وجدار شارع يخطف أباً من بين أولاده فيما البحر وقواربه يتكفّل بأرواح المئات. أمّا أحلام أبنائها في السياسة والاقتصاد تُعدم خلف صور زعمائها.
كيف تعيش مدينة طرابلس حال الانهيار العام الذي ألمّ بلبنان حتى المحق الاختناق والبؤس؟ تستهل هذه الحلقة حلقاتٍ أربع في محاولة للإجابة عن هذا السؤال.
كاتب هذه السطور كان قد وضع سنة 2008 كتابًا استقصائيًا وصفيًا عنوانه “طرابلس: ساحة الله وميناء الحداثة” (دار الساقي) ومادته شهادات سير طرابلسيين تروي أحوال المدينة الشمالية بين منتصف القرن العشرين والعشرية الأولى من الألفية الثالثة. أما أكثر ما أجمع عليه طرابلسيون اليوم، فهو أن مدينتهم تتعايش مع الأوضاع اللبنانية الراهنة المزرية على القاعدة التالية: ساوى الانهيار اللبناني الزاحف منذ أكثر من سنتين لبنان كله بطرابلس المهملة، أو أن لبنان ألحقه انهياره بطرابلس، بعدما كانت أُلحقت به عنوة، فأهملها وهمشها وأقصاها، منذ نشأة دولة لبنان الكبير.
وهنا الحلقة الأولى من هذا التحقيق.
هنالك لوثة أخرى تتميز بها طرابلس: كثرة صور زعمائها السياسيين ونوّابها، قدامى وجُدُدٍ، مزروعة بأحجام متنوعة
لوثة وأنصاب
يحارُ المشاهد “الغريب” عن طرابلس على أي وجهٍ ومعنىً ودلالة يحملُ اللافتات الكثيرة، الصغيرة الأحجام، المزروعة على جنبات شوارعها الرئيسة والفرعية مكرّرة عبارات: “غلطة العمر سَبُّ الله”، “أكبر الظلم سَبُّ الله”، “إلا الله”.
قد يظنُّ العابرُ في شوارع المدينة أن أهلها أصابتهم ربما لوثة صَبِّ شتائمهم على الخالق، وهناك من يتبرّع بنهيِهم عن ذلك ويدعوهم إلى العودة إلى الصراط المستقيم. لكن إذا صح أو صدق هذا الظن، يظل السؤال عن أسباب أو بواعث هذه اللوثة ملحًا، أو قد تكون الحال المزرية التي أصابت لبنان، ومنه طرابلس بالتأكيد، قد أخرجت الطرابلسيين عن طورهم، فذهبوا في غضبهم وسخطهم، بعد هذه الكارثة اللبنانية العامة، إلى حدّ الشك في الحكمة الإلهية وعدلها؟ ثم من هم أولئك الطرابلسيون الذين لم تصبهم اللوثة إياها، وخرجوا إلى الناس يدعونهم إلى الشفاء منها والعودة إلى جادة الصواب؟
هنالك لوثة أخرى تتميز بها طرابلس: كثرة صور زعمائها السياسيين ونوّابها، قدامى وجُدُدٍ، مزروعة بأحجام متنوعة، ومنها الجدارية المرسومة بألوانٍ زيتية كثيفة وطازجة، من النوع القديم الذي كانت تضعه الصالات السينمائية على واجهاتها لنجوم أفلام زمن ما قبل الحرب الأهلية في لبنان. والصور والجداريات الكثيرة هذه يبدو في أماكن من المدينة أنها موزّعة بالقسطاس على زعمائها وسياسييها، رغم كثرة صور النائب الجديد أشرف ريفي، من دون أن تقلّ صور وريث العائلة الكرامية، المبتسم والضاحك أحيانًا، فيصل كرامي.
وقد تعوّض عن عدم كثرة صور نجيب ميقاتي الجدارية الزيتية الضخمة، كثرة الأحاديث عن ميله إلى تملّك أبنية تراثية في مدينة الميناء: فبعد سنوات على تملّكه فندق “فيامينا” العريق، اشترى مبنى “بيت الفن” التراثي في الميناء، ووضع إلى جانب اسمه هذا على واجهة المبنى عبارة “مركز العزم الثقافي”. وهذه مبادرة تسجّل للميقاتي: عدم إزالته اسم البيت القديم. لكن غرام الثري والسياسي الطرابلسي بكلمة العزم وحقلها التعبيري والدلالي من أمثال الحزم والقوّة والشدّة، يشير إلى إقحام وغرابة وضعف في الخيال، تجعل الثقافة والفن ساحة حرب ومعارك. هذا إلا كانت كلمةُ العزم طوطمًا أو صنمًا لعبادة فولكلورية في كل زمان ومكان وسياق وعمل. ثم إن الميقاتي لم يُعرف عنه لا الحزم ولا الشدة، بل هو يحبُّ أن يشتهر باللين والوسيطة والوسطية والمداورة، وبالإكثار من النأي بالنفس، على ما يقول ويردّد في كل مناسبة.
ومن مقتنيات الشقيقان الميقاتي طه ونجيب أيضًا منزلان تراثيان صرحيّان على مدخل مدينة الميناء الشمالي البحري. بعض الطرابلسيين يقول إنهما كانا مهملين ومن أملاك الوقف الإسلامي، فجعلهما الرجل من أملاكه، ثم قام بترميمهما وتحسينهما، ونَصَبَ حولهما أسلاكًا شائكة، ووضع على مدخليهما حراسة أمنية رسمية، ويستقبل فيهما زوّاره حين يأتي إلى طرابلس في أوقات متباعدة. لكن سيدة من سكان الميناء أكدت أن المنزلين الصرحيَّين كانا من أملاك أحد الوجهاء واشتراهما الميقاتي بأمواله الخاصة.
نضوب الإعالة
أما السيد محمد الصفدي، وهو من كوكبة الأثرياء والسياسيين الطرابلسيين، فيروي كثرة من أهل المدينة أنه عزف عن إقحام نفسه في السياسة منذ طُرح اسمه لرئاسة الحكومة بعد استقالة سعد الحريري في غمرة انتفاضة 17 تشرين 2019. وقد تسجّل للصفدي هذه المبادرة، لولا أن طرابلسيين كثيرين يدرجونها في سياق عزوف الزعماء الطرابلسيين الأثرياء عن التنافس في ما بينهم على تقديم الإعالة والمساعدات للناس، والتي يعتبرها كثيرون من الضرورات في المدينة لتحريك حياتها الاقتصادية والمالية في هذه الأزمة الخانقة التي أفقرت جماعات لجبة في طرابلس، لا سيما طبقتها الوسطى، الضيقة والضعيفة أصلًا في المدينة الشمالية. ومن هذه الطبقة الموظّفون في القطاعين الخاص والعام المتهاوية قيمة مرتّباتهم إلى حضيض الحضيض. ومنهم الأساتذة الجامعيون الذين صاروا في حاجةٍ ماسة إلى إعالة، بعدما هوت مرتّباتهم من ما معدّله 4 آلاف دولار للمتفرّغين، إلى مئة وخمسين دولارًا.
هناك في طرابلس من يقولُ إن ما حدث وجرى في السنوات الثلاث الأخيرة، ألحق لبنان بطرابلس، أو أن لبنان كله صار مثل طرابلس يحتاج إلى إعالة
يعلّل بعض الطرابلسيين عزوف سياسيي طرابلس عن التنافس على الإعالة، بعزوف سعد الحريري عن السياسة والحياة السياسية، والذي نزل بردًا وسلامًا على صدور زعماء طرابلس السياسيين، فأراحهم من بذل ما ملكت أيمانهم في شراء ولاء الناس في بلاد لا تقوم السياسة فيها إلا على الولاء والعصبية والإتجار بالمناصب وتبديل عبادة الأنصاب والتزلُّم، ورفع الصور والشعارات وعبادتها تزلُّفًا كأوثان في الشوارع العامة. وهذا ما كان يبعث في طرابلس نوعًا من حركة اقتصادية ومالية، توقفت مع انهيار الدولة والبلاد على رؤوس أهلها.
وهناك في طرابلس من يقولُ إن ما حدث وجرى في السنوات الثلاث الأخيرة، ألحق لبنان بطرابلس، أو أن لبنان كله صار مثل طرابلس يحتاج إلى إعالة. وفي هذا السياق يتحدث البعض عن محمد الصفدي، مثلًا: أوقف نشاطات مؤسسته الثقافية وصرف كثرة من موظّفيها، بعدما كانت ناشطة وفاعلة في المدينة. وتحدّث ناشط في تيار المستقبل بإسهاب عن إغلاق كثرة من مؤسسات الرعاية والإعالة الحريرية في طرابلس، وتأثير ذلك المدمّر على بعض الفئات من أهلها، فيما أخذ سياسيون طرابلسيون يفركون أيديهم فرحًا وطربًا، لزوال عقبة كأداء من طريقهم، ووفّر عليهم زوالُها بذلَ عطاءاتهم في لمنافسة الحريري. لذا يغلب الحنينُ طرابلسيين كثيرين إلى زمن تنافس الزعماء، الذي خلّف انطفاؤه ركودًا في المدينة.
في هذا السياق، كيف يمكن فهم الحديث عن الركود والانطفاء هذين في طرابلس، فيما مهرجان الصور النصبية لزعمائها وسياسييها وشعاراتهم، لا يزال على أشدّه في شوارعها؟ وكيف يمكن أيضًا فهم موجة أو لوثة شعارات “إلا الله” والدعوة إلى الكفّ عن شتيمة الخالق، والعودة إلى الصراط المستقيم، بينما لا يعترض مطلقوا هاتين الموجة والدعوة على غابة الصور النصبية شبه الوثنية في شوارع مدينتهم؟ هذا علمًا أنني في زيارتي طرابلس ومكوثي فيها يومين اثنين، لم أسمع كلمة واحدة تتعرض إلى العزة الإلهية. لذا لم أجد تفسيرًا لتلك اللوثة إلا في عادة “جمعية المشاريع الإسلامية”، أو جماعة “الأحباش” التي سمّاها أحدهم “الأشباح”: إدمانهم على نصب لافتاتهم الصفراء في الشوارع، بمناسبة وبدون مناسبة، مدونين عليها كلمات في حبهم الله ونبيّه. وقد تكون تلك اللافتات المنصوبة في شوارع طرابلس من أعراض فرح الأحباش بفوزهم بنائبين في الانتخابات الأخيرة، واحدٌ في بيروت وآخر في طرابلس.
صورة نصبيّة لغائب
قلتُ فلأبحث عن عبدالله الطويشي الذي التقيته قبل أكثر من سنة في مقهى بمحلة القبّة، وسجلتُ شهادته عن مشاركته المحومة في انتفاضة 17 تشرين في ساحة النور، كي أسأله عن أحواله وما يعلمه من مستجداتٍ في حياته الطرابلسية.
والطويشي قد يكون في الأربعين أو تجاوزها قليلًا. وهو من فتوّات القبّة ومحظيٌّ بين زمر فتيانها وشبانها وأولادها الفقراء بلا عمل. وكان ممن يسمّون “القبضايات” في طرابلس، وأحد المسؤولين عن إدارة منصة ساحة النور في انتفاضة تشرين، وتأمين حمايتها. والشائع في طرابلس أن “القبضايات” وزمرهم على صلة وثيقة بالأجهزة الأمنية المختلفة. وكنتُ قد اتصلتُ برقم هاتف الطويشي مرات كثيرة قبل وصولي إلى طرابلس، فإذا هاتفه مقفل على الدوام. لذا ذهبتُ في الحادية عشرة صباحًا إلى المقهى الصغير الذي جالسته على رصيفه، في زاوية من ساحة عامة مائلة في القبة.
على جدار بناية عتيقة مهترئة أبصرتُ صورة نصبيّة للطويشي بارتفاع طبقتين في البناية. في أعلى الصورة مدوّنة عبارة “يا جبل ما يهزّك ريح”، وفي أسفلها عبارة “تقدمة شباب الحارة”. لوهلة ظننتُ أن الطويشي قُتل، ربما لأنني رأيت في ناحية أخرى من الساحة صورة لشاب يحمل هاتفًا خليويًا، ومدوّنة عليها عبارة “الله يرحمك يا حبيب قلبي”. كان فتىً يفتح باب المقهى المسمى “هوم بار”، فسألته عن الشاب “المرحوم” في الصورة، فقال إنه لا يعرفه. ولما سألته عن عبدالله الطويشي، أجاب: “في الحبس من شهرين أو ثلاثة”. أمام المقهى مقعد لصق الجدار، ومطل على الساحة المائلة، فجلستُ على المقعد، وطلبتُ من الفتى فنجان قهوة، ورحتُ أتفرّس في وجوه العابرين في الساحة، بعدما قال لي فتى المقهى إنه لا يعلم لماذا أقدم رجال جهاز أمني على دهم الطويشي في جنازة أحدهم إلى مقبرة القبّة، واعتقلوه. ولما جلب الفتى فنجان القهوة، أشار بيده إلى جهة في الساحة يمر فيها رجل كهل شبه مهدم يتوكّأ على عصًا، وقال: هذا هو والد الطويشي.
كانت الحياة في الساحة شبه خامدة، على خلاف ما كانت عليه قبل سنة، صاخبة وفوضوية ولا تتوقف عن التجدُّد، فيما كنت أحادث الطويشي حديثًا تقطعه تحيات الشبان والرجال العابرين بكثافة، معلنين محبتهم وتقديرهم لمحدّثي، بصفته شيخ شباب الحارة. كأن ذلك البؤس الفوضوي الصاخب قد أصابه ركود وخمود، ربما ليس لأن الطويشي اعتُقل، بل لأن السنة التي انقضت كانت كافية ببؤسها المضاعف لأن تبعث هذا الخمول في الحي وساحته. وقد تكون كثرة من أولئك الفتيان والشبان والرجال الذين كانوا يعبرون بحيوية فائضة قد انطفأوا وانكفأوا مستكنين خاملين في بيوتهم الخربة، فلم تعد لديهم من قوة على الخروج واللقاء والتبطّل في الساحة. وربما غادر بعضهم إلى جهة مجهولة قانطين، فلم يسأل أحد في ديار الخراب عن غيابهم
3 فتيان في القبة
على المقعد أمام المقهى وجدتني بين فتيان ثلاثة شبه واجمين، فرحتُ أنتزع منهم بعض كلمات محطمة. والكلمات على ألسنة فتيان باب التبّانة والقبّة وشبّانها محطّمة منذ جيلين وربما ثلاثة. كلمات عن عدد كبير من الإخوة والأخوات، بلا مدارس، بلا عمل، وزواج أختٍ أو اثنتين زواجًا مبكرًا، وموت الآباء أو الأمهات المبكر أيضًا.
– فتى المقهى يتقاضى 150 ألف ليرة في الأسبوع لقاء عمله، في حال كان “الشغل منيح”، قال. عمره 16 سنة. انقطع عن المدرسة في السنة الابتدائية الثالثة. اشتغل في سوق الخضر وتوقف. والده عمره 44 سنة. كان شوفير تكسي. خربت سيارته، فلم يستطع إصلاحها. مكث في بيته بلا عمل. الفتى بعد سوق الخضر عمل في ورش تمديدات كهربائية تعطّل العمل فيها. أفكر في جمع بعض المال للهرب في البحر، قال.
– بلال، الفتى الآخر الذي طلبت له فنجان قهوة، جلس ساهمًا. على رأسه قبعة تركها تغطي عينيه. هو أصغر إخوته وأخواته التسعة. والده كان يعمل لحّامًا وتوفي في السبعين. أكبر إخوته عمره 55 سنة، لا يعلم عنه شيئًا منذ أكثر من سنة. أخطأ في ذكر عدد أخواته المتزوّجات. قال إن أيًا من إخوته وأخواته لم يتعلّم قط. بعضهم عمل أعمالًا متقطّعة في ورش. هو وحده وصل إلى السنة الثانية المتوسطة، وترك المدرسة.
– أنور عمره 17 سنة، لديه إخوة ستة، واحد منهم رجله مشلولة جراء إصابته بطلق ناري في “مشكل” وعمره 30 سنة، قال. هو، أنور، يعمل في ورشة تصليح سيارات، وقد تقفل قريبًا. من يستطيع إصلاح سيارته من أمثالنا هنا في القبة؟ تساءل. اثنان من صغار إخوته في البيت، لماذا يذهبان إلى المدرسة؟ قال.
أمضيتُ ساعة في المقهى. فكّرتُ أن مئات، بل ألوفًا من أمثال محدّثيَّ الفتيان في القبة، قد يكرّرون القصة إياها والكلمات عينها. وفكرتُ أيضًا أن مصيرهم البحر، أو السجن، أو الاختفاء، أو البقاء هكذا في خواء هذه الساحة.
إقرأ أيضاً: طرابلس أوّلاً وطرابلس آخِراً!
مساءً، في مقهى مطعم حديث “فخم” في منطقة الضم الفرز (يا للتسمية العجيبة لمنطقة يسكنها أهل اليُسر في طرابلس)، حدّثني سامر عن إطلاق نار في كثير من ليالي القبّة المظلمة، عن سرقة درّاجات نارية صدئة ومضخات ماءٍ معطّلة في مداخل بنايات معتمة. وقال إن خواء الشوارع في ليالي طرابلس صار يبدأ في العاشرة، وإن الخواء الليلي يتزايد يومًا بعد يوم، وأن حلول وقت الخواء يتراجع، وقد يصير يبدأ قريبًا في التاسعة مساءً. أما بعد الثانية عشرة ليلًا وتوقّف المولّدات عن العمل، فهيهات أن تجد أحدًا في الشوارع، سوى التائهين من شبان العتم الجانحين. فتذكّرتُ ختام قصيدة قديمة للشاعر الراحل حسن عبدالله عن الخيام الحدودية في سبعينات القرن العشرين، حينما كانت الاعتداءات الإسرائيلية تتكرر على القرى الحدودية اللبنانية بعد عمليات الفدائيين: “… رصاص بعيد في القرى، ولم ينم الناسُ خوفًا”.
غدًا في الحلقة الثانية: بشر الخراب والصدأ في باب التبانة