صداقة لا تبعيّة.. بايدن يدشّن 100 عام ثانية مع مصر

مدة القراءة 9 د

في ربيع العام الحالي فاجأ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ضيفه المصري سامح شكري، بإهدائه نسخة من خطاب الرئيس الأميركي الأسبق وارين هاردينغ إلى الملك أحمد فؤاد الأوّل، الذي يتضمّن الاعتراف الأميركي الرسمي باستقلال مصر.

إلى ذلك أهدى الوزير الأميركي مصر نسخة من خطاب وزير الخارجية الأميركي تشارلز هيوز إلى نظيره المصري عبد الخالق ثروت باشا بشأن اعتراف واشنطن بالاستقلال.

احتلّت بريطانيا مصر 7 سنوات كاملة، ما بين عامَيْ 1914 و1922. وفي عام 2022 احتفلت وزارة الخارجية المصرية بمرور 100 عام على الاستقلال، وتأسيس وزارة الخارجية المصرية. لكنّ الوزير بلينكن هو الذي نبّه المصريين إلى مرور 100 عام على العلاقات الرسمية بين البلدين، وقد أشار الرئيس جو بايدن إلى ذلك في لقائه مع الرئيس عبد الفتاح السيسي: “من الصعب أن نصدّق مرور 100 عام على العلاقات المشتركة بين أميركا ومصر، وأتمنّى مع نهاية هذه الزيارة أن تكون علاقتنا أقوى، وأن نكون أقرب بعضنا إلى بعض”.

في ربيع من العام الحالي فاجأ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ضيفه المصري سامح شكري، بإهدائه نسخة من خطاب الرئيس الأميركي الأسبق وارين هاردينغ إلى الملك أحمد فؤاد الأوّل، الذي يتضمّن الاعتراف الأميركي الرسمي باستقلال مصر

بايدن.. مصر أمّ الدنيا

زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن هذا الأسبوع لمصر، للمشاركة في قمّة المناخ بمدينة شرم الشيخ، هي الأولى لبايدن رئيساً للولايات المتحدة، لكنّه كان قد زار مصر عدّة مرات، وهو سيناتور في مجلس الشيوخ الأميركي، ثمّ وهو نائب للرئيس باراك أوباما.

لم يستقبل الرئيس السيسي الرئيس بايدن في مطار شرم الشيخ، ولم يقُم أيّ من رئيس الوزراء أو وزير الخارجية باستقبال الضيف الكبير، بل كانت وزيرة التخطيط هي من ذهبت للاستقبال الرسمي.

تحدّث البعض عن تطبيق البروتوكول، حيث لا يستقبل الرئيس الأميركي ضيوف بلاده في المطار، لكنّ تقاليد العلاقات المصرية الأميركية كانت تتضمّن استقبال الرئيس المصري للرئيس الأميركي عند سُلّم الطائرة. وهو ما حدث في عهد الرئيسَيْن أنور السادات وحسني مبارك. وقد تكون هذه هي المرّة الأولى التي لا يستقبل فيها الرئيس المصري نظيره الأميركي لدى وصوله.

على الرغم من ذلك كان الرئيس بايدن ودوداً للغاية مع الرئيس السيسي، وبدتْ المصافحة كأنّها مصالحة، وكانت كلمات بايدن في شأن الملفّات محلّ الاختلاف كالحرّيات وحقوق الإنسان هادئة للغاية. وأمّا خارج ذلك الملفّ فقد امتدح بايدن مصر قائلاً: “لقد تمّت تسمية مصر لوقت طويل باسم “أمّ الدنيا”، وهذا لقب مناسب الآن.. وهي تستضيف قمّة العالم للمناخ”.

ثمّن بايدن موقف مصر “الرائع” في أزمة أوكرانيا، وقدَّر دور الرئيس السيسي في الوساطة في ملفّ غزّة، وأعلن ضرورة تعزيز العلاقات مع القاهرة، وتقديم واشنطن منحة قدرها 500 مليون دولار لمساعدة مصر على التحوّل إلى الطاقة النظيفة.

صعود وهبوط ثمّ استقرار

في عام 1849 بدأ التمثيل الدبلوماسي الأميركي في مصر عبر منصب “القنصل العامّ”، وذلك قبل بدء العلاقات الرسمية على مستوى السفراء عام 1922. كان دانيال سميث هو أوّل قنصل عامّ أميركي في مصر. ويُعدّ سفير الولايات المتحدة الحالي ممثّل واشنطن الـ49 لدى القاهرة.

زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن هذا الأسبوع لمصر، للمشاركة في قمّة المناخ بمدينة شرم الشيخ، هي الأولى لبايدن رئيساً للولايات المتحدة، لكنّه كان قد زار مصر عدّة مرات، وهو سيناتور في مجلس الشيوخ الأميركي، ثمّ وهو نائب للرئيس باراك أوباما

عبر ذلك التاريخ الطويل، تقدّمت وتعثّرت العلاقات بين البلدين أكثر من مرّة، ولقد كانت الولايات المتحدة سبباً في أكبر تدهور للعلاقات بين الدولتين، حين وقفت ضدّ التوجّه المصري غرباً، ومنعت تمويل السدّ العالي ومشروعات التنمية المصرية. كانت مصر الثورية بعد 1952 قد اتّجهت صوب الولايات المتحدة والبنك الدولي، وكانت سياسات واشنطن هي التي دفعتها إلى الاتّجاه يساراً.

لم يمنع التوجّه اليساري الانتقامي المصري من وقوف الرئيس دوايت آيزنهاور مع مصر في حرب السويس 1956، ومطالبته بانسحاب دول العدوان الثلاثي من أرض الكنانة.

في حرب 1967 تدهورت العلاقات من جديد، لكنّها سرعان ما توثّقت في عهدَيْ السادات ومبارك. في نهاية عهد الأخير لاحت أزمة جديدة في ضوء اتّهامات مصرية لواشنطن بدعم جماعة الإخوان المسلمين، والدفع بجماعات الإسلام السياسي لحكم مصر. وتعدّ فترة السفيرة الأميركية في القاهرة آن باترسون من صيف 2011 إلى صيف 2013 ذروة ذلك التوتّر. وقد تحسّنت الأمور كثيراً بعد رحيلها.

جاءت إدارة الرئيس بايدن أقلّ دفئاً مع مصر، فقد حجب 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية عام 2021. لكنّه في عام 2022 تجاوز ذلك كلّه، وحاول استعادة العلاقات الاستراتيجية مع القاهرة. وقد كانت زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي وتأبّطها ذراع الرئيس السيسي رسالة واضحة بطيّ صفحة الضباب في العلاقات المصرية الأميركية.

كان الفشل الذريع لتظاهرات 11/11 وسط قمّة شرم الشيخ، وعدم استجابة الشعب لنداء جماعة الإخوان بالخروج، حيث لم يخرج مصري واحد تقريباً، بمنزلة ورقة مهمّة عزّزت من قوّة النظام المصري في التعامل مع القوى الدولية.

الرئيس الأميركي والخديوي إسماعيل

في عام 1878 كانت أوّل زيارة لرئيس أميركي لمصر، وفي خريف 2022 كانت أحدث زيارة، وبينهما زار مصر قادة كبار من وزن تيودور وفرانكلين روزفلت، وصولاً إلى جيمي كارتر وبيل كلينتون وباراك أوباما.

كان الرئيس الأميركي الثامن عشر “يوليسيس غرانت” أوّل رئيس أميركي يزور مصر، ويلتقي بزعيمها الخديوي إسماعيل عام 1878. وكان ذلك عقب انتهاء فترة رئاسته، حيث قضى إجازة مطوّلة في مصر، زار خلالها العديد من المدن والمواقع الأثرية.

قادَ غرانت قبل رئاسته الولايات المتحدة الجيش الأميركي، وكان دوره مع أبراهام لينكولن حاسماً في الانتصار في الحرب الأهلية الأميركية.

لم يمنع التوجّه اليساري الانتقامي المصري من وقوف الرئيس دوايت آيزنهاور مع مصر في حرب السويس 1956، ومطالبته بانسحاب دول العدوان الثلاثي من أرض الكنانة

تيودور روزفلت في جامعة القاهرة

بعد ثلث قرن من زيارة الرئيس غرانت، زار الرئيس تيودور روزفلت مصر، وأقام بعض الوقت في فندق ميناهاوس بجوار الأهرامات، وألقى خطاباً مهمّاً في جامعة القاهرة.

هناك وجه شبه بين خطاب تيودور روزفلت في الجامعة المصرية (جامعة القاهرة) عام 1910، وبين خطاب باراك أوباما بعد 100 عام، حيث كان المضمون الثقافي الفكري هو أساس الخطاب.

نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” أنباء القمّة المصرية الأميركية التي جمعت الخديوي عباس حلمي الثاني بالرئيس تيودور روزفلت، والتي انعقدت في قصر القبّة بالقاهرة. وحسب كتاب الدكتورة صباح البياع “زيارة تيودور روزفلت لمصر والسودان عام 1910″، فقد زار الرئيس روزفلت “الجمعية الجغرافية المصرية”، واحتسى القهوة في حديقة الحيوان بالجيزة، وقام بالصلاة في إحدى الكنائس القاهريّة، وأقيمت له حفلات استقبال في مناطق رائعة عديدة من العاصمة.

ألقى الرئيس تيودور روزفلت خطاباً أشاد فيه بالتعليم الصناعي والزراعي في مصر، وبجامعة القاهرة “الجامعة المصرية” ورئيسها الأمير أحمد فؤاد، الذي أصبح ملكاً لمصر فيما بعد.

وصل إعجاب تيودور روزفلت بالجامعة المصرية حدّ تخصيصه وقتاً طويلاً لتقديم النصائح للخرّيجين، الذين قال لهم إنّه يجب عليهم أن يدركوا أنّ شهادة التخرّج وحدها لا تكفي، بل اكتساب التدريب والمهارات والمعارف، وإنّ العلم وحده لا يكفي إذْ يجب أن تسبق الأخلاق العلم، حيث يحتاج رقيّ الأمم إلى أخلاق عالية أكثر ممّا يحتاج إلى العلم.

بعد عقود، وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، زار الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت مصر مرّتين، وبعد الحرب زارها للمرّة الثالثة. في أثناء الحرب شارك روزفلت في مؤتمر القاهرة الأوّل، ومؤتمر القاهرة الثاني في خريف عام 1943.

في مؤتمر القاهرة الأوّل التقى روزفلت مع الزعيم البريطاني ونستون تشرشل والرئيس الصيني شيانج كاي شيك. وفي الزيارتين التقى الرئيس فرانكلين روزفلت بالملك فاروق الأوّل. وجرى تأمين القمّة الأميركية البريطانية الصينية بشكل كبير، وقد روى لي وكيل جهاز أمن الدولة المصرية السابق اللواء فؤاد علام جوانب من مشاركته في قوّة تأمين تشرشل بفندق ميناهاوس، وكان ذلك في أوّل حياته البوليسية.

كارتر يأكل الفطير وكلينتون يلعب الغولف

زار الرئيس جيمي كارتر مصر عدّة مرّات، منها مرّتان وهو رئيس للولايات المتحدة، وفيهما التقى الرئيس السادات، وزار القاهرة والإسكندرية وأسوان. ومن طرائف زيارة كارتر لمنزل الرئيس السادات على نيل الجيزة طلبه تناول الإفطار نفسه الذي تناوله الرئيس نيكسون في مصر، ولا سيّما العيش البلدي والطعميّة الساخنة والفطير المشلتت مع الجبن والعسل.

في القاهرة ألقى كارتر خطاباً في البرلمان المصري، وفي أسوان التقى الزعيم الألماني هيلموت شميت الذي كان صديقاً مقرّباً من الرئيس السادات.

زار الرئيس بيل كلينتون مصر أربع مرّات، كانت أبرزها مشاركته في قمّة صانعي السلام في شرم الشيخ عام 1996، وكانت صورة الرئيس كلينتون وهو يمارس رياضة الغولف أفضل دعاية للمدينة المصرية الساحرة على ساحل البحر الأحمر، وكانت صورة تشابك الأيدي بين الزعماء الحضور، وتوسُّط الرئيس مبارك الرئيس الأميركي بيل كلينتون والرئيس الروسي بوريس يلتسين دعاية أخرى ساهمت في عولمة المدينة، التي باتت من أشهر المقاصد السياحية في العالم.

إقرأ أيضاً: نجيب محفوظ وقصّة نوبل

تدرك الإدارة المصرية أنّ العلاقات مع واشنطن لا يمكن الاستغناء عنها، لكنّها يجب أن لا تمنع تنويع مصادر القوّة، وتوثيق العلاقات مع موسكو وبكّين. وتدرك واشنطن بدورها أنّه لا يمكن الاستغناء عن مصر، وأنّه من دون الاحترام المتبادل وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية، فإنّ العلاقات ستعود إلى حالة الفتور والتدهور من جديد.

الاحترام المتبادل بين الدول ليس فقط إطاراً أخلاقياً، بل هو إطار موضوعي لتحقيق المصالح المشتركة، وتعزيز العلاقات الثنائية. في غياب الاحترام تغيب السياسة ثمّ يغيب كل شيء.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…