رسمت أوروبا حدود دول الشرق الأوسط مرّتين. كانت المرّة الأولى على أيدي المبعوثَيْن الإنكليزي والفرنسي سايكس وبيكو. وكانت المرّة الثانية على أيدي مجموعة من المبعوثين في مؤتمر دولي عُقد في لوزان بسويسرا (تقاسم الإمبراطورية العثمانية). هذه المرّة تحاول الدول الأوروبية القيام بالعملية للمرّة الثالثة، لكن لأهداف مختلفة وبوسائل مختلفة. أمّا الأهداف فهي الحصول على مخزون الشرق الأوسط (وشمال إفريقيا) من النفط والغاز. وأمّا الوسائل فهي مدّ خطوط أنابيب في البرّ والبحر تتجاوز الحدود السياسية.
من ذلك مثلاً ما حصل بين لبنان وإسرائيل في 11 تشرين الأول الماضي. صحيح أنّ أوروبا لم تكن طرفاً مباشراً فيه، وأنّ الطرف الفعّال كان الولايات المتحدة، إلا أنّ الغاية من ورائه كانت تحقيق التفاهم اللبناني – الإسرائيلي لضمان سلامة إنتاج النفط والغاز من مياههما الإقليمية، ثمّ شحنه عبر أنابيب تعبر عمق المتوسط شمالاً، إمّا إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، أو إلى اليونان ومنها إلى إيطاليا وعبرها إلى بقيّة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
واقعيّاً سوريا هي جزء من خريطة النفط والغاز الجديدة. لذلك لا بدّ من أن تكون طرفاً في معادلة التفاهم الجديدة
توجد في العالم عشرون دولة منتجة للغاز بكميّات تجارية كبيرة، منها تسع دول شرق وسطيّة، وفي مقدَّمها قطر، الدولة الأولى في تصدير الغاز المسيّل في العالم، التي تنوي زيادة إنتاجها لتلبية الحاجات المتزايدة في العالم (خاصة بعد مقاطعة الغاز الروسي) بنسبة 43 في المئة في عام 2026.
أمّا لبنان وإسرائيل فإنّ كلّاً منهما يعلّق آمالاً كبيرة على الاكتشافات من النفط والغاز التي تأكّدَ وجودها في المياه الإقليمية التابعة لكلّ منهما. وكان الاتفاق الذي وُلد على يد الولايات المتحدة أساساً لرسم حدودهما السياسية في البحر بعدما كانت موضع نزاع طوال العقود الأخيرة.
يتداخل التفاهم على رسم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل مع التفاهم مع قبرص، الجزيرة المنقسمة على ذاتها (شمال موالٍ لتركيا وجنوب عضو في الاتحاد الأوروبي). ولمّا كان خطّ الأنابيب يمرّ حكماً في مياهها الإقليمية (لنقل الغاز والنفط من حقول لبنان وإسرائيل إلى أوروبا)، فإنّها تفرض نفسها طرفاً في المعادلة الجديدة لرسم الحدود السيادية في شرق المتوسط التي تشمل سوريا أيضاً. ولأنّ التفاهم مع قبرص يمرّ عبر اليونان وتركيا، فإنّ منطقة شرق المتوسط تجد نفسها أمام عملية جديدة لرسم حدودها البحرية (والبرّية أيضاً بسبب الاختلاف على جزر بحر إيجه بين تركيا واليونان). حتى الحدود البحرية بين لبنان وسوريا ما تزال حتى اليوم تحتاج إلى تفاهم مشترك من أجل تحديدها. وهي عمليّة لم يقُم بها لا سايكس – بيكو، ولا حتى الجنرال غورو عندما أعلن دولة لبنان الكبير من قصر الصنوبر في بيروت (الجدير ذكره أنّ قصر الصنوبر كان كازينو في العهد العثماني).
واقعيّاً سوريا هي جزء من خريطة النفط والغاز الجديدة. لذلك لا بدّ من أن تكون طرفاً في معادلة التفاهم الجديدة. لكنّ لسوريا علاقة تعاون استراتيجي مع روسيا التي ما كان للبحث عن النفظ والغاز في شرق المتوسط أن يأخذ مداه لولا الحاجة إلى التعويض عن النقص الكبير الذي تعانيه أوروبا بعد مقاطعة الغاز الروسي.
رسمت أوروبا حدود دول الشرق الأوسط مرّتين. كانت المرّة الأولى على أيدي المبعوثَيْن الإنكليزي والفرنسي سايكس وبيكو. وكانت المرّة الثانية على أيدي مجموعة من المبعوثين في مؤتمر دولي عُقد في لوزان بسويسرا
ما تزال الحدود اللبنانية – السورية متداخلة إلى حدّ التشابك، من مزارع شبعا في الجنوب حتى النهر الكبير في الشمال، وامتداداً في مياه المتوسط، حيث يُعتقد بوجود كميّات تجارية من النفط والغاز في منطقة حدودهما المشتركة. وإذا كانت الولايات المتحدة قد توسّطت بين لبنان وإسرائيل، فمن ذا الذي سيقوم بالوساطة بين لبنان وسوريا؟ لا تستطيع أوروبا الانتظار طويلاً حتى لا تقع بين فكّيْ تصاعد الاحتجاجات الداخلية في العديد من دولها جرّاء التضخّم ونتائجه الاقتصادية والاجتماعية السلبية الخطيرة من جهة، وتصاعد الحرب الأوكرانية إلى حدّ التهديد باللجوء الى السلاح النووي التكتيكي من جهة أخرى.
يُعتبر العراق من الدول المنتجة للغاز. في العام الماضي أنتجَ العراق 18 مليون متر مكعّب من الغاز، لكنّ كلّ هذه الكميّة أُحرقت فور خروجها من الآبار، وذلك بسبب افتقار العراق إلى مصافٍ لتخزين الغاز الذي يتدفّق من الآبار. وهذه الكميّة من الغاز العراقي الضائع تشكّل نسبة خمسة في المئة من حاجة أوروبا كلّها إلى الغاز سنوياً. وليس العراق وحده الذي تضيع ثروته من الغاز هباءً منثوراً، فدول شمال إفريقيا المنتجة للنفط والغاز (الجزائر وليبيا) تهدر ما يعادل 15 في المئة من حاجة أوروبا إلى الغاز من دون أيّ استغلال أو استثمار. وتحلّ الجزائر في المرتبة الثالثة بين الدول المصدّرة للغاز إلى أوروبا. وكانت عائداتها السنوية من التصدير تبلغ 35 مليار دولار. أمّا الآن وبعد زيادة الإنتاج للاستجابة لزيادة الطلب الأوروبي، فإنّ دخلها سوف يرتفع إلى 50 مليار دولار سنوياً.
في الحسابات الأوروبية ستكون دول شمال إفريقيا وحدها مهيّأة لتوفير 15 في المئة ممّا كانت تستورده من روسيا. ولكن كما هو الأمر مع سوريا في شرق المتوسط، فإنّ للجزائر علاقات خاصة مع روسيا. تحول هذه العلاقات دون اقتناص الفرصة لزيادة الإنتاج ولزيادة العائدات من أجل رفع مستوى المعيشة اقتصادياً واجتماعياً.
إلى ذلك هناك مصر، الدولة العربية الكبرى ليس في إنتاج النفط والغاز، بل في زيادة عدد السكان، وهي الزيادة التي تستهلك نسبة عالية جدّاً من إنتاجها المحلّي من النفط والغاز. تقول الإحصاءات الرسمية إنّ عدد سكان مصر وصل حتى شهر أيلول الماضي، إلى 104 ملايين إنسان، وإنّ هذا العدد يرتفع مليوناً كلّ سبعة أشهر. ولذلك تخوض مصر سباقاً دائماً بين الإنتاج والاستهلاك. فهي منتجة للنفط والغاز، اللذين يمكن أن يوفّر لها بيعهما دخلاً يسدّ العجز في ميزانيّتها، لكن تحول دون ذلك الزيادة المطّردة في عدد السكان وتطوّر حياتهم الاجتماعية ونموّها. وقد ارتفعت نسبة استهلاك الغاز في مصر 35 في المئة منذ عام 2015.
إقرأ أيضاً: البابا في البحرين: غاب لبنان وحضرت أوكرانيا
من هنا تشكّل حاجة أوروبا إلى التعويض عن الغاز الروسي فرصةً ذهبيةً لاقتصادات دول شرق المتوسط وشمال إفريقيا. فالغاز الضائع (في العراق تحديداً) يشكّل ثروة مهدورة. والاختلافات البينيّة (سوريا، لبنان، قبرص، تركيا، اليونان وإسرائيل) تشكّل عقبات وعوائق تحتاج إلى أكثر من سايكس وبيكو.. وهوكستين لتسويتها.
تبقى الحاجة الأوروبية الضاغطة.. لكنّ الحاجة أمّ الاختراع.