“أساس” ينشر تباعاً مقالات ومقابلات عن ملفّ رئاسة الجمهورية، بدءًا من مرشّحين “دائمين” لم يحالفهم الحظّ، وصولاً إلى الأسماء المؤهّلة والمرشّحة هذه المرّة، مروراً بالرؤساء الذين حكموا لبنان منذ الاستقلال، وما الذي ميّز عهودهم.
في حلقة اليوم إطلالة على رئاسة سليمان فرنجية الجدّ، وملابساتها، وظروفها، ومقارنتها برئاسة حفيده، التي تأتي وتذهب، منذ دورات عديدة.
عام 2016 كادت الرئاسة أن تكون لسليمان فرنجيّة. اتّفق معه سعد الحريري. استحصل له على موافقة أميركيّة – سعوديّة – فرنسيّة. لكن عادت الاتصالات ودارت دورتها. قال السيّد حسن نصرالله عن فرنجيّة وميشال عون: “هذا عين وهذا عين”. لكنّه اختار عون.
يُقال إنّه وعد فرنجية بالرئاسة “في الدورة المقبلة”. وها قد أتت الساعة. لكن حتّى الساعة لم يتبنَّ الحزب ترشيحه علناً، رغم الوضوح الكافي بأنّ الحزب لا مرشّح له غيره، وسيخوض معركته حتى النهاية. وها هو المجلس النيابيّ لا يجتمع لانتخاب رئيس، بل لرفع العتب والقول إنّه يعقد جلسات انتخاب. فهذه الأيّام لم تعد كما كانت عند انتخاب سليمان فرنجية الجدّ. الشخصيّات والظروف السياسيّة الداخليّة والخارجيّة تبدّلت كثيراً.
في الماضي اختار نصرالله “عين عون”. وبعد ستّ سنوات أتى دور فرنجية “العين الثانية”. ولكن يبدو أنّ IQ جبران لا يسمح له بقبول تسوية تسهّل المهمّة على حزب الله
سليمان فاز بـ “صوت الشعب”
في عام 1970 فاز “سليمان الجدّ” بفارق صوت واحد على منافسه إلياس سركيس. سمّاه غسان التويني “صوت الشعب”، وكتب افتتاحيّته تحت هذا العنوان. اليوم لا صوت للشعب. وحتّى لا صوت للنوّاب ولا للكتل النيابيّة.
أعطى فوز فرنجيّة بفارق صوت واحد انطباعاً بأنّ الرئيس اللبنانيّ “صُنع في لبنان”. وبالفعل لم تكن التدخّلات الأجنبيّة “فاقعة” كما في الاستحقاقات التي سبقت انتخابات 1970. وبطبيعة الحال، ليس كما في تلك التي تبعتها، حتى وصلنا اليوم إلى الدخول في فراغات “عونية” طويلة بعد نهاية كلّ عهد، بانتظار تسمية المرشّح وتحديد موعد انتخابه في الخارج. هذا ما يحصل اليوم. و”سليمان الحفيد” ينتظر على قارعة طريق الفراغ الطويل، علّ الرياح الإقليميّة والدوليّة تهبّ باتّجاهه فتحمله إلى قصر بعبدا كما كادت أن تنقله إليه في عام 2016.
فماذا حصل حينذاك؟
هنّأه فرانسوا هولاند ولكن!
بعد فترة فراغ دامت سنتين تقريباً، راح سعد الحريري وفريقه يحرّك مياه الاستحقاق الراكدة في المستنقع الذي وضعته فيه مقاطعة حزب الله والتيار الوطني الحرّ لجلسات الانتخاب. أمام استحالة انتخاب سمير جعجع مرشّح 14 آذار، كان عليه الاختيار بين عون وفرنجية، فاختار الأخير لأنّه لا فيتو سعوديّاً عليه. تولّى نادر الحريري وغطّاس خوري طبخة تسويق ترشيح فرنجية في الخارج. أكّد ديفيد هيل أن لا فيتو أميركيّاً على فرنجيّة. وقال الملك السعوديّ سلمان بن عبد العزيز لسعد الحريري عندما استطلع رأيه في فرنجيّة: “هو صديقنا، وهو رجل وفيّ بدليل أنّه لم يتخلّ عن الأسد”. فرنسا المتحمّسة لإنهاء الفراغ، تحمّس رئيسها لترشيح فرنجيّة واتّصل به مهنّئاً.
لكنّ المشكلة كانت في الداخل. فضّل الحزب ميشال عون، وجعجع أيضاً على اعتبار أنّ عون “تايوانيّ” في “خطّ الممانعة”، في حين أنّ فرنجية “أصليّ”. وقد تبيّن فيما بعد أنّ ميشال عون “أصليّ” أكثر، إذ سلّم البلد لـ”عزرايل” جهنّم.
في عام 1970 حصل “سليمان الجدّ” على دعم “الحلف الثلاثيّ” (بيار الجميّل، كميل شمعون وريمون إدّه) لترشيحه، إضافة إلى دعم كتلته النيابيّة “كتلة الوسط” التي كانت تضمّ شخصيّات إسلاميّة، أبرزها صائب سلام وكامل الأسعد
حظوظه ليست معدومة اليوم
تبدو المشكلة اليوم هِي هِي. لو اتّفق الخارج على انتخاب رئيس للبنان، ربّما يقع خياره على سليمان فرنجية. فهو لا يزال مقبولاً أميركياً. ويمكن أن تتحمّس له فرنسا التي تراعي مصالح حزب الله وإيران في لبنان والمنطقة. والسعودية يبدو أنّ لا مشكلة لديها مع الرجل. وهذا ما أكّدته دعوة فرنجية إلى الذكرى الـ 33 لاتفاق الطائف وتلبيته لها والحفاوة التي استُقبل بها والمكان الذي خُصّص له.
بيد أنّ المشكلة تبقى في الداخل. “الخطّ” لم يتبنَّ ترشيح سليمان فرنجية بشكل كامل بعد. لديه مشكلة في التوفيق بين مرشّحَيْ خطّه: جبران باسيل وسليمان فرنجية. رغم أنّ جبران لم يعلن ترشيحه، وقد لا يعلنه.
في الماضي اختار نصرالله “عين عون”. وبعد ستّ سنوات أتى دور فرنجية “العين الثانية”. ولكن يبدو أنّ IQ جبران لا يسمح له بقبول تسوية تسهّل المهمّة على حزب الله. والـEgo عنده لا يسمح له برؤية شخص غيره في كرسي الرئاسة.
فهل في الأمر ما هو أبعد من مشكلة جبران؟
هل يتريّث الحزب في تبنّي ترشيح “سليمان الحفيد” لأنّه قرأ في تاريخ “سليمان الجدّ” فعاد إلى وقوفه بوجه السلاح الفلسطيني مع بيار الجميّل وكميل شمعون، وإلى دعمه تأسيس الجبهة اللبنانيّة حين كان رئيساً للجمهوريّة، ثمّ جلوسه إلى طاولتها عضواً فيها بعد انتهاء ولايته حتى أيار 1978؟
هل عاد إلى لقائه مع أمين الجميّل في المدينة الكشفيّة في البترون حين نصحه بعدم التخلّي عن اتّفاق 17 أيار من دون الحصول على مكاسب من السوريين؟
وهل عاد إلى “مواقفه المارونيّة” في جنيف ولوزان (1984) بوجه السوريّ عبد الحليم خدّام؟
يدرس الحزب الأشخاص جيّداً. من هنا اختياره لميشال عون قبل ستّ سنوات.
“فيتو” جعجع حاسم؟
من جهته، يرفض سمير جعجع رفضاً قاطعاً ترشيح فرنجيّة. وهو رفضٌ يختلط فيه الخيار السياسيّ بالصراع على الزعامة المارونيّة في الشمال، على الرغم من أنّ الطرفين تحاورا منذ سنوات، وتوصّلا إلى مصالحة رعتها بكركي. لكنّها مصالحة بين سياسيَّين وليست مصالحة سياسيّة. بمعنى آخر، تصالح الزعيمان من دون أن يتّفقا على أيّ خيار سياسيّ، والسبب أنّ للطرفين مصلحة في تلك المصالحة. سمير جعجع أراد إسقاط التهمة بارتكاب مجزرة إهدن نهائيّاً، مع أنّ فرنجيّة نفسه كان قد أسقطها منذ أن رفض اتّهامه بها عندما كان في السجن، وفيما بعد طلب تعيين محقّق عدليّ لختم الملفّ. وفرنجية لا يريد توريث الدم والأحقاد لا لنجله طوني ولا لمنطقته. هذا ما يؤكّده مقرّبون منه.
إقرأ أيضاً: “مخايل الضاهر أو الفوضى”.. الأصحّ: “عون أو الفوضى”
في عام 1970 حصل “سليمان الجدّ” على دعم “الحلف الثلاثيّ” (بيار الجميّل، كميل شمعون وريمون إدّه) لترشيحه، إضافة إلى دعم كتلته النيابيّة “كتلة الوسط” التي كانت تضمّ شخصيّات إسلاميّة، أبرزها صائب سلام وكامل الأسعد.
مشكلة “سليمان الحفيد” في ترشّحه للرئاسة هي افتقاره إلى الدعم المسيحيّ. ولكنّها ليست مشكلته وحده. إنّها مشكلة كلّ زعيم مارونيّ اليوم، فأيّ واحد منهم يعلن ترشّحه للرئاسة لن يلقى دعماً من الآخرين، لا بل سيواجهونه.
إنّهم الموارنة!
* أستاذ في الجامعة اللبنانية
لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@