يجزم أحد الذين عايشوا الطائف، ولادةً وسلطةً، أنّ هذا الاتفاق إنّما فُصّل على قياس اثنين: حافظ الأسد ورفيق الحريري. ويخلص إلى سؤال الحسم: رحل الرجلان. فكيف يبقى الطائف؟!
هل يمكن الركون إلى معادلة كهذه؟ أم أنّ المسألة أكثر تعقيداً وتركيباً؟
وحدها الوقائع قادرة على كشف الحقائق.
*****
في اللغة السياسية أصلاً، وبعد 33 سنة على الحدث، بات هناك أكثر من فهم ومفهوم لعبارة “اتفاق الطائف”، حتى كادت، في مدلولاتها، تكون اسم جنس لا اسم علم، أو كأنّه في الواقع يوجد فعلاً أكثر من “طائف”. ذلك أنّ هناك مثلاً اتفاق “الطائف الخارجي”، أي مشهد السياقات الإقليمية والدولية التي رافقت وضعه. والأهمّ، معادلة التوازنات الناتجة عن هذا المشهد، والتي رعت تنفيذه وحكمت أيّ نتائج له وأيّ مفاعيل. ففي تاريخ الاتفاقيات السياسية عبر العالم، ميزان قوى التطبيق، أقوى وأفعل من أيّ إرادة للمتّفقين، وأقدر على تحديد مآل الاتفاق ومؤدّياته ومخرجاته، أكثر من أيّ نصّ للاتفاق أو تفسير له.
سعى العرب إلى تجسيد نيّة ما لرعاية فاعلة، لكنّها سرعان ما بدت قصيرة النفس، بين بيان اللجنة الأولى وشبه الانقلاب عليه في بيان ثانٍ للجنة ثانية
بهذا المعنى، نعم هناك “طائف” خاصّ ما، منبثق من حسابات خارجية فوق الساحة اللبنانية. وهو في الوقائع، ما راح يظهر ويتظهّر علناً، مع اللعبة، التي بدأها النظام السوري قبل عقود، حتى بلغت لحظة نضج واضحة منذ عام 1987، يوم عاد بجيشه إلى بيروت في شباط، معلناً إمساكه بورقة الساحة اللبنانية مجدّداً، في استمرار لحلم عمره من عمر العقل السياسي لأيّ نظام في “البلد التوأم”.
بعد أشهر، اغتيل رشيد كرامي في 1 حزيران من العام نفسه، فبدت المأساة فرصة لتلاقٍ ممكن بين اللبنانيين. جاء عبد الحليم خدّام سريعاً من الشام. أسمع سليم الحص كلاماً قاسياً لتلقّفه لحظة إنقاذية من قلب الكارثة، وقبوله تكليف أمين الجميّل له برئاسة الحكومة وكالةً. فبدا أنّ دمشق لن تتساهل في لعبة رئاسة 1988، وأنّها مصمّمة بأيّ كلفة على القبض على مفاتيح الاستحقاق. ومن ثمّ الرهان على سياسة “الفاست فود” الأميركية، وسلوكيّات الجنون المارونية المعتادة… وهكذا كان.
سطحية “العمّ سام”.. والقوّة السورية
راح هذا البعد الخارجي من اتفاق الطائف يتبلور يوماً بعد يوم:
واشنطن حاولت إبداء الاهتمام، لكن بسطحية أميركية تاريخية حيال أزماتنا، وفي مقاربتها تعقيدات بلدنا ومنطقته، مع قدر ملحوظ من ازدراء، على لامبالاة، على قناعة بتخلّفنا الدفين. كلّ ذلك معطوف على براغماتية العمّ سام وتجاريّته، وواقعيّة أنّ الواقع في لغة السياسة الأميركية، ليس اسم فاعل من فعل وقع على الإطلاق…
سعى العرب إلى تجسيد نيّة ما لرعاية فاعلة، لكنّها سرعان ما بدت قصيرة النفس، بين بيان اللجنة الأولى وشبه الانقلاب عليه في بيان ثانٍ للجنة ثانية. قصر النفس هذا لم يلبث أن قصّرته أكثر الأولويّات الخاصة بكلّ عاصمة من عواصم لجنة الطائف الثلاثية العليا:
– الجزائر كانت تتهيّأ لعواصف ظلاميّيها.
– والمغرب اسمه مغرب، فأيّ قدرة له على التحوّل رافعة للمشرق.
– أمّا السعودية فلم تلبث أن تحوّلت أولويّتها إلى حدث 2 آب 1990، ومغامرة صدّام حسين الانتحارية في الكويت، المحشور بين الشقيقين اللدودين.
كلّ الباقي بات معروفاً ومكتوباً بإسهاب. خلاصته أنّ اتفاق الطائف اللبناني – العربي – الدولي انتقل من معادلة التوازنات الأصيلة التأسيسية تلك، إلى “طائف سوري” حصراً، مع تلزيم أميركي للبنان إلى النصف غير الشقيق من بعث صدّام في عاصمة أميّة العلويّة.
تماماً كما حصل بين 1975 و1976، يوم أرسل وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر موفده دين براون إلى بيروت مع توصية وحيدة: “أنا مشغول في تأمين خروج مشرّف من فيتنام. إرفع عنّي وجع رأس تلك القبيلة المقيمة على ضفّة المتوسّط، وفي قلب القرون الوسطى”. قبل أن يهاتفه بعد أيّام صارخاً فرحاً: “انتهت مهمّتك. وجدتها! سأسلّم تلك البؤرة إلى حافظ الأسد!
سقوط “الطائف” الخارجي
في هذا البعد من “الطائف الخارجي” ثمّة الكثير الكثير ممّا كان وممّا لم يعد يذكره أحد، خصوصاً من أهل 13 تشرين 1990.
لكنّ المهمّ الآن أنّ هذا “الطائف الخارجي” برمّته قد سقط اليوم، وكأنّ التاريخ يثأر لنفسه بنفسه ومن نفسه، فتكرّر المشهد “الطائفي” ذاته، لكن معكوساً مقلوباً.
بعد 13 سنة على تلك الصفقة، ظهرت لحظة عناية “إلهية” أخرى. لكن هذه المرّة بين جورج بوش الابن المستنير بالسماويّات، وبين صدّام حسين المستفيق على راية “الله أكبر”، فأعيد وضع اتفاق واشنطن – دمشق على طاولة الامتحان.
قرّر الرئيس الأميركي الفعليّ يومها، ديك تشيني، اجتياح بغداد هذه المرّة. رفض الأسد الابن، تكرار فذلكة الوالد لحسابات وخلفيّات وتصوّرات، فانتهى في عام ونيّف عقد تلزيم بيروت في 26 نيسان 2005.
وعند خرق العقود، ثمّة بنود جزائية، وثمّة غرامات وأثمان. وحين تكون العقود بين دول، يصير الثمن أشبه بفدية، أو ضحيّة كبرى، أو دم غزير لغسل الكثير، فسقط رفيق الحريري، وانتهى الطائف السوري كليّاً. لا بل الأهمّ أكثر الآن أنّ هذا المفهوم من الطائف المشوّه انتهى إلى مدى زمنيّ طويل جدّاً، زمن كافٍ للّبنانيين ليبنوا وطناً، وذلك لأسباب بنيوية جليّة، ففجوات الخلل الثلاث، التي دخلت منها دبّابات الأسد إلى قصر بعبدا، قد رُدمت:
– ما عاد لبنان، منذ 2005 حتى اللحظة على الرغم من كلّ جهنّميّتها، مكسور التوازن الداخلي، كما كان لبنان 1990 مشطوراً على صدع نهر الكلب المجنون، على الرغم من بعض الهزّات الارتدادية المهلوسة راهناً لبعض مَن لم ينسَ شيئاً ولم يتعلّم شيئاً، من مقاطعجيّة ضفّتَيْ النهر.
– وما عاد محيطنا العربي محكوماً بخلل سقوط بغداد وتسيّد دمشق، كما حصل بعد اجتياح الكويت في 1990. صارت العاصمتان اليوم منكوبتين سواء بسواء، ومحكومتين بوصايات غير عربية تثير الأسى بقدر ما تقدّم لبيروت فرصة سيادة نسبية.
إقرأ أيضاً: إحياء الطائف يحتاج إلى لحظة إقليميّة
– الأكيد أنّ العالم قد خرج من كوما خاتَم الرفاق ميخائيل غورباتشيف، كما من نشوة جورج بوش الأب الانتصارية، وهو يبيع آخر أنفاس فلاديمير لينين في عبوات كوكاكولا حمراء فوق ركام جدار برلين…
تلك هي الثلاثية الزلزالية التي جعلت لبنان قبل 32 عاماً ضحيّة، والتي جعلت الانقلاب على الطائف مذبحاً سورياليّاً لتلك التضحية.
نعم، سقط الطائف السوري الخارجي، لكنّ ثمّة طائف لبناني ميثاقي أبقى. وهو يجب أن يبقى. وفيه وعنه نبحث اليوم… ونتابع.
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@