لم يغِب لبنان عن مقرّرات القمّة العربية الواحدة والثلاثين على الرغم من ضحالة حضوره في المحافل العربية لسنوات خلت، وتفرُّد رئيس جمهوريّته السابق ميشال عون بمواقف معادية للدول العربية خلافاً لمقدّمة الدستور ورغماً عن إرادة غالبيّة اللبنانيين. لم تكن مواقف رئاسة الجمهورية اللبنانية خلال السنوات المنصرمة تعبيراً عن رؤية مختلفة في كيفيّة تحقيق المصلحة العربية المشتركة أو في الوصول إلى تعاون عربي أمثل لمواجهة التّحدّيات الأمنيّة والاقتصادية التي تعيشها المنطقة، وذلك حصل مراراً عبر محطات مصيرية مع دول عربية عديدة، وأدّى إلى الإعلان عن تحفّظات ومواقف خارج الإجماع العربي، بل إنّ ما سجّلته الرئاسة اللبنانية ووزارة خارجيّتها كان تنكّراً وتمرّداً غير مبرّر على كمّ كبير من الثوابت والبديهيّات التي تراكمت مع العالم العربي منذ ما قبل الاستقلال، وواكبت نشوء الدولة ونهوضها الاقتصادي وأزماتها على امتداد عقود.
أزمات لبنان وقضاياه كانت ماثلة في متن كلّ البنود التي تناولت الأمن القومي العربي المشترك بمفهومه الشامل وبأبعاده السياسية والاقتصادية والغذائية والمائية والطاقوية، وفي الدعوة إلى وحدة الدول الأعضاء وسلامة أراضيها وسيادتها على مواردها بما يلبّي تطلّعات شعوبها
السعودية تنصح
لقد حضرت مسألة التّدخّلات الخارجية في الشؤون العربية وإشكاليّات انتشار الميليشيات الإرهابية والجماعات المسلّحة خارج إطار الدولة، وضعف مؤسّسات الدولة الوطنية خلال قمّة الجزائر، واستعرضت كلمات الملوك والرؤساء العرب تـأثيرات ذلك على الاستقرار والأمن ووتيرة تعافي اقتصادات تلك الدول. لكنّ ما أشار إليه الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي كان الربط بين هذه التدخّلات وبين الأزمات العالمية وتفاقم حدّة التنافس والصراع الجيوسياسي، الأمر الذي أدّى إلى تقويض قدرة المجتمع الدولي على مواجهة تحدّياته المشتركة بفاعليّة، وهذا ما يستدعي وفقاً لبِن فرحان تكثيف التنسيق والتشاور داخل البيت العربي، ونبذ الخلافات البينيّة، وتغليب المصالح المشتركة لمواجهة الأزمات الحالية والمستقبلية وتجاوزها.
إنّ النظر إلى بنود “إعلان الجزائر” يؤكّد بما لا يقبل الشكّ أنّ حضور لبنان لم يقتصر على ما يتعلّق بــ”تجديد التضامن مع الجمهورية اللبنانية للحفاظ على أمنها واستقرارها ودعم الخطوات التي اتّخذتها لبسط سيادتها على أقاليمها البرّية والبحريّة والإعراب عن التطلّع إلى أن يقوم لبنان بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة وأن يقوم مجلس النواب بانتخاب رئيس جديد للبلاد”، فأزمات لبنان وقضاياه كانت ماثلة في متن كلّ البنود التي تناولت الأمن القومي العربي المشترك بمفهومه الشامل وبأبعاده السياسية والاقتصادية والغذائية والمائية والطاقوية، وفي الدعوة إلى وحدة الدول الأعضاء وسلامة أراضيها وسيادتها على مواردها بما يلبّي تطلّعات شعوبها.
لم يغِب لبنان عن مقرّرات القمّة العربية الواحدة والثلاثين على الرغم من ضحالة حضوره في المحافل العربية لسنوات خلت، وتفرُّد رئيس جمهوريّته السابق ميشال عون بمواقف معادية للدول العربية خلافاً لمقدّمة الدستور ورغماً عن إرادة غالبيّة اللبنانيين
لبنان إلى أين؟
أليس لبنان معنيّاً بل أشدّ المعانين من وطأة التدخّلات الخارجية بجميع أشكالها في شؤونه الداخلية ومن غياب الحلول العربية؟ ألا يتطلّع لبنان إلى مشروع تكامل الاقتصادات العربية الذي ورد في الإعلان والذي يجعل منه شريكاً حقيقياً فيه ويقدّم بديلاً عن هجرة كفاءاته وأبنائه؟ أليس تأكيد البيان لضرورة مشاركة الدول العربية في صياغة معالم المنظومة الدولية الجديدة لعالم ما بعد الحرب في أوكرانيا، كمجموعة منسجمة وموحّدة وكطرف فاعل لا تعوزه الإرادة والإمكانات والكفاءات، هو السبيل لإخراج العالم العربي ومعه لبنان من عصر الأيديولوجيات الدينية والقومية البائدة التي كبّلت الشعوب والأنظمة إلى رحاب العالم الحديث الذي يمرّ الآن بمراحل حرجة؟
إنّ قراءة واقعيّة للتّحدّيات القاسية التي يواجهها العالم الليبرالي، الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية وآمن منظّروه بنهاية التاريخ بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي، تؤكّد أنّ القوى العظمى تعيد النظر بكلّ المفاهيم التي بُنيَت عليها استراتيجيات السيطرة والنفوذ والتحالفات في دول العالم الثالث الذي يحتاج إلى إعادة تعريف لدوره الجديد. لقد شكّلت الحرب الدائرة بين القوى الغربية وروسيا اختباراً حرجاً لصانعي القرار وواضعي الاستراتيجيات العسكرية والاقتصادية في الولايات المتّحدة وأوروبا، وأثبتت حراجة الموقف الاقتصادي والطاقوي الذي يواجهه الغرب أنّ عالماً جديداً في المنطقة العربية قد تشكّل، بمقوّمات وقدرات كبيرة تجعله عصيّاً على التطويع ويستحيل تجاوزه، وتستوجب العلاقات معه أكثر من ترتيب للأولويّات. هذا العالم العربي الجديد هو مَن صاغ إعلان الجزائر بالأمس القريب، وهو مَن يقدّم نفسه شريكاً في صياغة عالم ما بعد الحرب الدائرة في أوكرانيا.
إقرأ أيضاً:
فهل يقرأ الساسة في لبنان ما يجري في المنطقة والعالم؟ وهل يمتلكون جرأة التمرّد على نظريّات الأرياف الطائفية والولاءات العمياء التي يقبعون في معارجها حيث يمضون في دفع لبنان نحو مزيد من الانحدار، فيصيغوا الاستحقاقات المقبلة في إنتاج السلطة والاقتصاد والحوْكمة بما يجعل لبنان شريكاً في عالم عربي جديد؟
* مدير المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات