روسيا ـ أوكرانيا: السعوديّة الأبرز اقتصاديّاً

مدة القراءة 9 د

منذ أن اتفقت روسيا والمملكة العربية السعودية على خفض كمية البراميل التي تنتجها “أوبك بلاس” بنحو مليونَيْ برميل يومياً، زاد قلق الغرب من الدور المتنامي لدول الخليج في الصراع الروسي ـ الأوكراني من حيث تأثيره على ميزان القوى في هذا الصراع المستعصي، وكذلك من حيث انعكاساته على الصعيد الدولي لجهة احتمال أن يُحدث دخول السعودية كوسيط في الصراع، وكقوّة بارزة على الساحة الاقتصادية، في وقت غير مستقرّ اقتصادياً على مستوى العالم، “فرقاً كبيراً على الساحة الدولية”.

 

قلق الغرب

قرار “أوبك بلاس” الذي وصفه البيت الأبيض بأنّه يشكّل “انحيازاً سعودياً إلى روسيا”، واعتبره النقّاد الغربيون “نقطة ضغط تضرّ بأوروبا في المدى القريب”، ليس وحده مصدر هذا القلق، بل هو التأرجح الخليجي بين روسيا وأوكرانيا. فبعد تدخّل وليّ العهد السعودي ورئيس الوزراء محمد بن سلمان في التفاوض على تبادل أسرى بين روسيا وأوكرانيا بداية شهر أيلول الماضي، من بينهم رجل الأعمال الموالي للكرملين فيكتور ميدفيدتشوك، اعتبر محلّلون غربيون أنّه علامة على عمق الروابط بين موسكو والرياض و”أوّل مثال ملموس لهذه القوة الاقتصادية المحايدة عادة للعب دور الوسيط الدولي”، صوّتت السعودية ودول الخليج مع قرار في مجلس الأمن شجب ضمّ روسيا أربعة أقاليم في أوكرانيا، ودعا إلى تراجع موسكو عن قرارها.

وفي موقف مناقض ومثير للجدل، أعلنت السعودية أخيراً تقديم حزمة مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا بقيمة أربعمئة مليون دولار، واستضافت عبر إحدى أكبر المنصّات الإعلامية التابعة لها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي بعدما أشاد بمشاركة بن سلمان في التفاوض على صفقة تبادل الأسرى، دعا دول الخليج إلى لعب دور قيادي في إعادة إعمار وتطوير أوكرانيا، التي تبلغ تكلفتها حالياً حوالي 350 مليار دولار، مؤكّداً استعداد بلاده لتقديم شروط رائعة “للمستثمرين الخليجيين”.

الاستثمار الخليجي في أوكرانيا، بحسب “التلغراف” البريطانية، هو محلّ اهتمام السعودية وقطر والإمارات والبحرين التي تبذل جهوداً جادّة للتنويع في استثماراتها بعيداً عن النفط

أين تقف السعوديّة ودول الخليج من الصراع الروسيّ الأوكرانيّ؟

عندما اندلعت الحرب، حرصت دول مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة على البقاء على الخطوط الجانبية والحفاظ على علاقات ودّية مع كلا الطرفين، على ما يقول ماوريتسيو جيري المحلّل السابق في حلف الناتو لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في مقال في صحيفة “التلغراف” البريطانية. لكنّ دخول الأسلحة الإيرانية في قواعد اللعبة الروسية، بعد الأنباء التي أفادت بأنّ روسيا استخدمت طائرات مسيّرة إيرانية هي عينها التي يستخدمها الحوثيون في اليمن والتي استهدفت منشآت أرامكو في الأراضي السعودية ، أثار المزيد من القلق في الخليج لأنّه يؤكّد التعاون العسكري بين إيران وروسيا. إضافة إلى ذلك تتنافس روسيا والسعودية منذ فترة طويلة على حصّة كلّ منهما في سوق الطاقة، حيث استحوذت المملكة على مكانة روسيا كأكبر مصدّر للنفط إلى الصين في عام 2019. أمّا في ما يتعلّق بالسياسة الإقليمية والأمن، فكان دعم موسكو لنظام الرئيس السوري بشار الأسد غير ذي شعبية كبيرة بين دول الخليج، وكذلك العلاقات الدفاعية الوثيقة لروسيا مع طهران.

اختارت السعودية لعب دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا. شارك وليّ العهد السعودي ورئيس الوزراء محمد بن سلمان مع تركيا في التفاوض على صفقة تبادل 300 شخص. كانت الصفقة المفاجئة هي الأكبر من نوعها منذ بدء الحرب، وكانت بمنزلة أوّل مثال ملموس للقوة الاقتصادية المحايدة عادةً التي تحاول لعب دور الوسيط في الصراع. لكنّ ظهور الرئيس زيلينسكي الأسبوع الماضي في برنامج Frankly Speaking   لشبكة “عرب نيوز” السعودية بيّن أنّ “هناك الكثير من الأمور التي لم تُكشف بعد”، كما قال الرئيس الأوكراني في حديثه.

الاستثمار الخليجي في أوكرانيا، بحسب “التلغراف” البريطانية، هو محلّ اهتمام السعودية وقطر والإمارات والبحرين التي تبذل جهوداً جادّة للتنويع في استثماراتها بعيداً عن النفط. وإحدى الطرق هي تطوير البنية التحتية الرئيسية، التي ستشكّل مكسباً كبيراً لدول الخليج التي بدأت تدرك أنّ بإمكانها كسب المزيد من خلال دعم الغرب أكثر من إبرام صفقات نفطية مع روسيا.

يُفضي هذا السياق إلى تساؤل طرحه ماوريتسيو جيري الذي عمل أيضاً محلّلاً لهيئة الأركان العامة للدفاع الإيطالي، ومفاده: هل يمكن أن تجعل هذه الخطوة في النهاية من دول الخليج شركاء اقتصاديين لأوكرانيا، وتجعل من السعودية والإمارات بشكلٍ خاص حليفين يمكنها الاعتماد عليهما؟ ويقول جيري: “ربّما. لكن ليس في أيّ وقت قريب. على المدى القصير، يبقى من المفيد لدول الخليج الحفاظ على علاقات حميمة مع موسكو. لقد أصبحت الإمارات ملاذاً لرأس المال الروسي. وتستفيد السعودية ماليّاً، على المدى القصير على الأقلّ، من التعاون مع روسيا في مسائل إنتاج الطاقة. ويمكن القول إنّ الآفاق الطويلة المدى أكثر فائدة للغرب، وبالتالي لأوكرانيا.

أعلنت السعودية أخيراً تقديم حزمة مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا بقيمة أربعمئة مليون دولار

تدرك دول الخليج جيّداً أنّه ما من حيوية اقتصادية طويلة الأمد في موسكو. سيكون النموّ في السنوات المقبلة في آسيا وإفريقيا وأميركا الشمالية. وبينما تحتفظ روسيا بنفوذ كبير على أوروبا (من خلال التحكّم بإمدادات الطاقة)، فإنّ لديها القليل جداً ممّا يمكنها استخدامه ضدّ الخليج لتثبيط العلاقات الوثيقة بين المنطقة وأوكرانيا. ومن المنطقي، بحسب جيري، “أن تستمرّ دول الخليج في الحفاظ على علاقاتها الدافئة مع روسيا، لكن مع وجود توتّر تنافسي أساسي بين روسيا والسعودية، وعلى هذه الدول أن تحاول بكلّ الطرق كسب الحلفاء الأقوياء في الصراع الأوكراني. وكون السعودية تحتلّ مكانة بارزة في الساحة الاقتصادية في وقت غير مستقرّ اقتصادياً على مستوى العالم، قد يُحدث فرقاً كبيراً”.

 

قراءات متعدّدة لعلاقات السعوديّة مع روسيا

وبينما مالت “التلغراف” باتجاه تمتين العلاقات بين دول الخليج، وخاصة السعودية، وبين حلفاء أوكرانيا في الغرب، حذّرت صحيفة “الغارديان” البريطانية دول الغرب من تعمّق العلاقات بين روسيا والسعودية. فكلّ من البلدين، كما كتب مراسل الصحيفة في الشرق الأوسط مارتن شولوف، “شنّ حرباً على بلد مجاور، ويمتلك نفوذاً كبيراً على أسواق الطاقة، ومن المعروف أنّهما لا يتقبّلان أيّ معارضة، وأنّهما يطمحان إلى أن يسجّلا اسميهما في محافل التاريخ”. وأضاف الكاتب أنّ “الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والحاكم الفعلي للمملكة العربية السعودية، وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، لديهما الكثير من الجوامع المشتركة”.

وأوضح شولوف أنّه “بعد قرابة ثمانية أشهر من الغزو الروسي لأوكرانيا، وصلت العلاقات بين الرياض وموسكو إلى أوجها. وبقدر ما تضاعِف دول أوروبا والولايات المتحدة وبريطانيا من محاولاتها لمحاربة زعيم روسي يزداد تهديداً، فقد اختار الأمير بن سلمان بدلاً من ذلك تعميق العلاقات”. واعتبر أنّ اجتماع “أوبك بلاس” في فيينا كان أحدث خطوة رئيسية في علاقة متنامية تتحدّى بشكل متزايد مطالب حلفاء الرياض، ويبدو أنّها تمنح بوتين الراحة في منعطف حرج من الحرب. والعلامة الأخرى على تعميق الروابط بين موسكو والرياض ظهرت الشهر الماضي عندما ضمن دبلوماسيون سعوديون، في لحظة نادرة من الدبلوماسية الدولية، إطلاق سراح أسرى من دول مختلفة، بينهم خمسة بريطانيين، تمّ أسرهم في القتال الدائر في أوكرانيا.

وقالت “الغارديان” إنَّ علاقة وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجب أن تكون إنذاراً مهمّاً لإعادة صياغة العلاقة بين الرياض والغرب، “ويجب على الولايات المتحدة والديمقراطيات الغربية أن تثبت من خلال أفعالها أنّ المعركة العالمية في القرن الـ21 من أجل الحرّية والديمقراطية مهمّة وحاسمة للغاية، بحيث لا يمكن مقايضتها ببرميل نفط رخيص”.

وفي مقال تحليليّ كتب بن هارد في صحيفة “نيويورك تايمز” أنّ موقف السعودية ضدّ الولايات المتحدة يشير إلى مرحلة جديدة من المسار المستقلّ الذي اتّخذته المملكة في ظلّ وليّ العهد محمد بن سلمان. إذ لم يعد رأي الولايات المتحدة مهمّاً في القرار السعودي. ونُقل عن جيم كرين، خبير الطاقة بمعهد بيكر في جامعة رايس، قوله إنّ السعوديين لا يريدون مساعدة بوتين، لكنّ مصالحهم تقاطعت مع مصالحه عندما تعلّق الأمر بالنفط. إلى ذلك، يحتاج بن سلمان إلى رأسمال كبير وأسعار نفط مرتفعة لتنفيذ ما أعلنه من سلسلة مشاريع كبرى وبناء مدينة مستقبلية. وقال كرين إنّ “أوبك أعطت قبل فترة أولويّة للاستقرار والحفاظ على الطلب الطويل الأمد للنفط. لكنّ الاستقرار لم يعد أولوية أمام المصالح السياسية والاقتصادية الخاصة”.

أضافت الصحيفة أنّ أعضاء في الكونغرس الأميركي اتّهموا السعودية بالوقوف إلى جانب بوتين، الذي ينتفع من أسعار النفط العالية، وناقشوا تشريعاً للحدّ من تسليح السعودية أو يسمح بمعاقبة أعضاء “أوبك بلاس” المتّهمة بفرض تسعيرة للنفط. ورفضت السعودية “بشكل مطلق” فكرة أنّ خفض مستويات الإنتاج مدفوع سياسياً. وجاء في بيان المملكة أنّ “أيّ محاولة لتشويه الحقائق حول موقف المملكة في ما يتعلّق بالأزمة في أوكرانيا، مؤسفة”، في إشارة واضحة إلى الاتّهامات بأنّها تقف مع روسيا وقرار الرياض التصويت في الأمم المتحدة في ما يتعلّق بالحرب.

إقرأ أيضاً: “أوبك بلاس”: غضب أميركي وتلويح بعقوبات “نوبك”

على الرغم من ذلك ومن محاولات واشنطن عزلها، تواصل دول الخليج الأخرى التعامل مع روسيا. إذ التقى رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد مع بوتين في سانت بطرسبرغ. والتقى الشيخ تميم بن حمد آل ثاني مع بوتين في مؤتمر إقليمي بكازاخستان. وقاومت هذه الدول، التي تقيم علاقات مع الولايات المتحدة، الجهودَ الداعية إلى مقاطعة روسيا، نظراً إلى المصالح الاقتصادية المشتركة، أو لأنّها تعتقد أنّها قادرة على لعب دور الوسيط بين روسيا والدول الأخرى بشكل يزيد من صلابة موقعها الدولي.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…