للمرّة الثانية خلال ولايته الرئاسية التي تشارف على نهايتها يتقصّد رئيس الجمهورية ميشال عون ذكر اسم جبران باسيل خلال خطاب رئاسي رسمي “تاريخيّ” مرتبط هذه المرّة بموافقة لبنان على اعتماد الصيغة النهائية التي أعدّها الوسيط الأميركي لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية الجنوبية مع إسرائيل.
في شباط 2020، عشيّة مشاركته الميدانية في تدشين السفينة التابعة لشركة “توتال” المكلّفة بمهمة حفر البئر الأولى في البلوك رقم 4، تحدّث بيان رسمي صادر عن رئاسة الجمهورية عن “إعداد وزارة الطاقة التي كان يتولّاها الوزير جبران باسيل عام 2010، مشروع قانون الموارد البترولية في المياه البحرية اللبنانية”، وهي الجملة التي أعاد تكرارها عون ليل الأربعاء في معرض سرده لمسار ملفّ الترسيم ودخول لبنان مدار التنقيب واستخراج النفط.
في غمرة الاحتفال اللبناني بـ”الانتصار التاريخي” كان ثمّة من يعيد التذكير بـ”فِخاخ قاتلة” تتضمّنها اتفاقية الترسيم البحري لن تظهر مدى جدّيّتها وخطورتها إلا بعد سنوات حين يسلك لبنان طريق التنقيب والاستخراج وليس الآن
شكر “ناشف” وآخر حارّ
أمرٌ غير اعتيادي في البيانات الرسمية الصادرة عن أعلى سلطة رئاسية تمنح الأفضليّة عادة في معرض ذكر الإنجازات للمؤسّسات وليس الأفراد وإن خرقها، وهو أمرٌ طبيعي ربطاً بأهميّة الحدث، الشكر “الناشف” الذي وجّهه عون إلى كلّ من الرئيسين نبيه برّي ونجيب ميقاتي، والحارّ الموجّه إلى النائب الياس بو صعب “الذي قاد في الأشهر الأخيرة مع أعضاء الفريق من عسكريين وخبراء وفنّيين مفاوضات صعبة وقاسية”، كما جاء في الخطاب.
إبراهيم وعون
بدا لافتاً في سياق لائحة الشكر الموجّهة لأفرقاء الداخل غياب اسم المدير العامّ للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الذي لعب على المستويين الأمني والسياسي دوراً محورياً وصامتاً في ملفّ الترسيم البحري خصوصاً على خط التواصل بين حزب الله والوسيط الاميركي، وهو دور سيكون “موصولاً” مستقبلاً بملفّ ترسيم الحدود البحرية مع سوريا، كما كان لافتاً غياب اسم قائد الجيش العماد جوزف عون. إذ اكتفت صيغة البيان بالإشارة إلى توجيه الشكر إلى “سائر المسؤولين الذين تعاقبوا على الملف في وزارتَيْ الطاقة والمياه والخارجية، وهيئة إدارة قطاع النفط رئيساً وأعضاء، وقيادة الجيش، وخصوصاً رئيس وأعضاء الفريق المفاوض، والقيّمين على مصلحة الهيدروغرافيا، وسائر الخبراء والفنّيين الذين ساعدوا من خلال خبرتهم وعلمهم في إنجاح مسار المفاوضات”.
خطاب الوداع
تعكس “لائحة الشكر” المسافة السياسية الفاصلة لعون وباسيل عن كلّ أفرقاء الترسيم ومستقبل ما بعد الترسيم. هي أمتار قليلة، مجبولة برسائل سياسية، باتت تفصل ميشال عون عن انتقاله إلى الرابية مسبوقةً برسالة للّبنانيين تمهّد لـ”وضع الحجر الأساس لنهوض اقتصادي يحتاج إليه لبنان من خلال استكمال التنقيب عن النفط والغاز”، كما قال، وستُستتبع بخطاب الوداع، وفق معلومات “أساس”، عشيّة خروج عون من القصر الجمهوري بمواكبة شعبية من مناصري ومؤيّدي التيار الوطني الحرّ.
دور الجيش
هي احتفالية رئاسية يصرّ عون على أن تُدمغ رسمياً بتوقيع باسيليّ شكّل النشأة “النفطيّة” الأولى، برأيه، إن لناحية مسار التنقيب أو الترسيم البحري.
في المسار الأول يردّد عون أمام زوّاره بأنّ “الأمر لم يكن ليحصل لولا وجود جبران باسيل على رأس وزارة الطاقة والإصرار على أن تبقى الوزارة ككلّ تحت السيطرة العونية على مدى السنوات الماضية. وما استطعنا أن نحقّقه في النفط عصى علينا في الكهرباء بسبب الحرب الكونية التي شُنّت ضدّنا وأفشلت كلّ خطط الكهرباء والمياه”.
في المسار الثاني تأكيد عون الدائم أنّ باسيل تصدّى “لأكثر من محاولة مشبوهة لحرف مسار الترسيم عن سكّته”. وما لا يقوله عون جهاراً يردّده بعض المحيطين بباسيل: “كان على رئيس الجمهورية بعد انتزاعه ملفّ الترسيم من عين التينة أن يختار بين استراتيجية الجيش في إدارة المفاوضات وتحذيرات باسيل من الوصول إلى المحظور كنتيجة لهذه الاستراتيجية. لذلك أحبط الرئيس مخطّطاً “غير بريء” كانت واجهته الأساسية الجيش وأثبتت نتائج التفاوض عدم صحّته لأنّه كان يمكن أن يقود إلى الصدام المباشر مع الأميركي والإسرائيلي وخسارتنا المعركة”.
يُقابل هذا الاعتراف الباسيليّ تأكيد مؤيّدين لمعركة الخط 29 أنّ الجيش سجّل نقطة على الدولة اللبنانية، مدعّمة بالقانون الدولي، سيذكرها التاريخ وسيأتي لاحقاً من ينبش أوراق المفاوضات والإحداثيّات ليُثبت تخلّي لبنان طوعاً عن جزء كبير من حدوده البحرية.
للمرّة الثانية خلال ولايته الرئاسية التي تشارف على نهايتها يتقصّد رئيس الجمهورية ذكر اسم جبران باسيل خلال خطاب رئاسي رسمي “تاريخيّ” مرتبط هذه المرّة بموافقة لبنان على اعتماد الصيغة النهائية التي أعدّها الوسيط الأميركي لاتفاقية ترسيم الحدود
فِخاخ قاتلة
هكذا في غمرة الاحتفال اللبناني بـ”الانتصار التاريخي” كان ثمّة من يعيد التذكير بـ”فِخاخ قاتلة” تتضمّنها اتفاقية الترسيم البحري لن تظهر مدى جدّيّتها وخطورتها إلا بعد سنوات حين يسلك لبنان طريق التنقيب والاستخراج وليس الآن.
عمليّاً، هناك فريق تقنيّ ومختصّ يسلّط الضوء على ما تجاوزه أركان الدولة اللبنانية عمداً في مفاوضات الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل، وكان بالإمكان أن يحصّلوا مزيداً من المكاسب النفطية للّبنانيين.
يقول مصدر متابع لملفّ التفاوض: “إذا أخذنا حرفيّاً بكلام جبران باسيل الذي سبق أن أكّد أنّ النزاع وفقاً للقانون الدولي كان بين خطَّيْ هوف والخط 29، يتبيّن أنّ نتيجة المفاوضات التي تُطبّل لها الدولة قادت إلى نيل لبنان 20% (الخط 23) وإسرائيل 80% من فارق المساحة بين الخطّين البالغة 1,800 كلم2. مع العلم أنّ الخط 29 هو الأقوى دوليّاً، فنتيجة التحكيم في قضية النزاع البحري بين كينيا والصومال في تشرين الأول 2021 المشابهة للنزاع بشأن صخرة تيخليت أعطت قوّة أكبر ومشروعيّة دولية لقوّة الخطّ 29. وبذلك يكون اتفاق الترسيم قد أعطى لبنان 350 كلم2 مساحةً إضافيةً عن خطّ هوف، ومنح الإسرائيلي في المقابل 1,400 كلم2“.
لغم الفقرة “هـ“
ردّاً على “نقاط القوّة” في الاتفاق التي يهلّل لها الجانب اللبناني مدعوماً من حزب الله، يقول هذا الفريق: “سابقاً كانت المعادلة “قانا لنا مع شراكة في كاريش”، واليوم كاريش ليس لنا مع شراكة إسرائيلية في حقل قانا قد ينشأ عنها نزاع مستقبلاً عكسته الفقرة “هـ” من القسم الثاني من الاتفاق التي تحدّثت عن أنّ قيام مشغّل البلوك رقم 9 (أي توتال) المعتمَد من لبنان بتطوير كامل المكمن المحتمَل حصريّاً لصالح لبنان، هو رهن بدء تنفيذ الاتفاقية المالية بين توتال وتل أبيب في شأن التعويض العائد لإسرائيل عن أيّ مخزونات محتملة في المكمن. وقد راهن الوسيط الأميركي، كما ورد في نصّ الاتفاقية، على حسن نيّة إسرائيل مع مشغّل البلوك رقم 9 لضمان تسوية هذا الاتفاق في الوقت المناسب”.
لا يُسقِط هذا الفريق من الحسبان أيضاً سلسلة الأخطاء الكبيرة التي ارتُكبت في ملف الترسيم البحري بدءاً من العام 2007 وصولاً إلى التخلّي الرسمي عن ورقة الخط 29، ثمّ الاحتفاء بانتصار ستُبرز “التجربة النفطية” مع إسرائيل برعاية أميركية وحدها مدى تأمينه مصالح لبنان الاقتصادية والأمنيّة والسيادية.
إقرأ أيضاً: ثمنُ الترسيم: لبنان “يتوجّه غرباً” مقابل الكهرباء وانتعاش المصارف
يركّز هذا الفريق على “اعتراف لبنان في الاتفاقية بأنّ الوضع الحدودي يبقى “على ما هو عليه” على أن يُحلّ لاحقاً من الناحية القانونية. لكنّ المعنى الحرفي لبقاء “الوضع على ما هو عليه” هو الاحتلال الإسرائيلي المستمرّ لجزء من المياه اللبنانية لغاية خطّ الطفافات واحتلال رأس لناقورة والـ B1 والنفق. فما حصل عمليّاً في الاتفاقية هو تكريس لواقع هذا الاحتلال”.
في السياق نفسه يطرح هذا الفريق سؤالاً مفاده: “هل يرضى الإسرائيلي الذي هو اليوم في وضعيّة احتلال لهذه الحدود أن يضع لبنان خطّ الطفّافات على الخط 23 عند رأس الناقورة؟ عمليّاً، كان هناك فرصة ذهبية للبنان لاسترجاع حدوده مستخدماً ورقة ضغط حاجة إسرائيل لاستخراج النفط بأقصى سرعة من كاريش. لكن اليوم فقدنا كلّ ورقة قوّة”.