تعيش المنطقة على وقع الانتخابات النصفية الأميركية في 8 تشرين الأوّل المقبل، أو بعبارات أخرى فإنّ تطوّرات مهمّة في المنطقة لا يمكن فهمها على نحو كافٍ إلّا من زاوية صلتها إلى هذا الحدّ أو ذاك بتلك الانتخابات التي تجري على بُعد مئات الآلاف من الكيلومترات من هنا. هذا يجعل الانتخابات الأميركية المرتقبة استحقاقاً إقليمياً أيضاً، بمعنى أنّ الدول الإقليمية المهمّة تحاول التأثير في مجراها أو هي تأخذ خياراتها بناء على نتائجها المتوقّعة أو تحاول أن تراهن على فوز طرف فيها، وهو ما يخلق امتدادات إقليمية للانتخابات الأميركية على نحو يجعل انقسام دول المنطقة حولها أحد العناوين الرئيسية للانقسام الإقليمي في المرحلة المقبلة.
هذا الاهتمام الإقليمي الكبير بالاستحقاق الأميركي المرتقب ليست أسبابه إقليميةً بحتة، بل إنّ أسبابه في الأصل عالمية بالنظر إلى تأثير الانقسام الأميركي على الأحداث في العالم، ولا سيّما الحرب الروسية – الأوكرانية، وذلك في ظلّ الفارق الجوهري بين سياسات الرئيسين الأميركيَّين السابق والحالي، دونالد ترامب وجو بايدن، في التعامل مع القضايا الدولية والإقليمية، بدءاً بروسيا وأوروبا، مروراً بإيران ودول الخليح العربي، وفي مقدَّمها السعودية، هذا مع حفاظ الإدارتين السابقة والحالية على الأولويّة الاستراتيجيّة لاحتواء الصين.
إنّ القرار الإسرائيلي في ما يخصّ اتفاق الترسيم مع لبنان هو الآن قرار أميركي أخذاً في الاعتبار الحسابات السياسيّة، لا الاقتصادية وحسب، لواشنطن في ملفّ الترسيم
الترسيم عند مثلث الصلات اللبنانية ـ الإسرائيلية ـ الاميركية
لذلك لا يخرج ملفّ ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل عن هذا السياق المتّصل بالانتخابات النصفية الأميركية. وهو ما أكّده باكراً اتّصال بايدن برئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد لحثّه على إنجاز الاتفاق مع لبنان، كما اتصاله برئيس الوزراء الأسبق بنيامين نتانياهو لحثّه على عدم استخدام هذا الاتفاق في المعركة الانتخابية، وهو ما لم يحصل بطبيعة الحال. وهذا ما يشير، أصلاً، إلى الصلة بين الانتخابات الإسرائيلية المقرّرة في الأول من تشرين الثاني والانتخابات الأميركية في 8 منه. بمعنى أنّ رغبة بايدن في فوز معسكر لابيد أو في خسارة نتانياهو تمليها شروط معركته الانتخابية في الداخل الأميركي باعتبار أنّ فوز “بيبي” يُعدّ انتكاسة معنوية للديمقراطيين، وفي المحصّلة سيعطي دفعاً معنويّاً للجمهوريين.
نتيجة ذلك فإنّ القرار الإسرائيلي في ما يخصّ اتفاق الترسيم مع لبنان هو الآن قرار أميركي أخذاً في الاعتبار الحسابات السياسيّة، لا الاقتصادية وحسب، لواشنطن في ملفّ الترسيم. فهدف واشنطن المتمثّل بتعويض إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا يخضع أيضاً لاعتبارات سياسيّة في الداخل الإسرائيلي، وتحديداً لجهة منع وصول نتانياهو إلى السلطة للأسباب الأميركية المذكورة أعلاه، لكن أيضاً لأسباب لها علاقة أيضاً بالاتفاق مع لبنان، باعتبار أنّ وصول نتانياهو يمكن أن يعيد صوغ شروط جديدة في مسار التفاوض بين الجانبين الإسرائيلي واللبناني، مربكاً بذلك الجهود الأميركية للتوصّل إلى اتفاق بينهما. وهي جهود مدفوعة بأسباب عدّة، تبدأ بإيجاد مصادر جديدة للغاز، ولا تنتهي بتحقيق مكسب استراتيجي هو تغيير “الوضع القائم” بين لبنان وإسرائيل.
إيران على خط الترسيم بين لبنان وإسرائيل
في المقابل فإنّ إيران اللاعب الفاعل في ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل من خلال حزب الله تنظر باهتمام إلى الانتخابات النصفية الأميركية، وقبلها إلى الانتخابات الإسرائيلية، وهي على الرغم من توتّرات علاقتها مع الإدارة الحالية غير أنّها تفضّلها بلا قياس على الإدارة السابقة أقلّه لأنّ بايدن لم يبلغ المفاوضات معها، وقد تخلّى عن سياسة “الضغوط القصوى” التي اتّبعها ترامب ضدّها إثر انسحابه من الاتفاق النووي في العام 2018، حتّى إنّه ما عاد يمكن العثور على هذا المصطلح في الأدبيّات الإيرانية الحالية. وعلى المنوال نفسه فإنّ طهران لا تحبّذ عودة نتانياهو إلى الحكم لا لأسباب إسرائيلية بحتة وحسب، لكن أيضاً بالنظر إلى إرث ترامب في المنطقة الذي آذى إيران كثيراً.
يمكن القول إنّ هناك تواطؤاً أميركياً – إيرانياً بشأن التطوّرات الأخيرة لملفّ الترسيم لجهة رفض إسرائيل للتعديلات اللبنانية على مسوّدة الاتفاق أو التفاهم كما يسعى حزب الله إلى تسميته
عليه يمكن القول إنّ هناك تواطؤاً أميركياً – إيرانياً بشأن التطوّرات الأخيرة لملفّ الترسيم لجهة رفض إسرائيل للتعديلات اللبنانية على مسوّدة الاتفاق أو التفاهم كما يسعى حزب الله إلى تسميته. هذا لا يعني أنّ التواطؤ بين الطرفين مباشرٌ ونتيجة توافقات ضمنية، لكن ثمّة التقاء مصالح بينهما على الحؤول دون وصول نتانياهو وحماية اتفاق الترسيم على المدى الطويل. وفي السياق عينه فإنّه لا يضير حزب الله ومن خلفه إيران تأجيل بتّ الاتفاق في حال كان وصول “بيبي” سيعرّضه للنقض على نحو يذكّر بانسحاب ترامب من الاتفاق النووي، وهذه مسألة يجزم لابيد أنّها غير ممكنة، لكن تبقى هناك شكوكٌ حيالها.
الرهانات اللبنانية
في المقابل فإنّ الحزب وإيران اللذين كانا يضمنان الحصول على الاتفاق خلال ولاية لابيد لا يمكنهما الاعتبار أنّ شروط التفاوض وحظوظ الاتفاق ستبقى نفسها في حال فوز نتانياهو الذي ترجّحه حتّى الآن استطلاعات الرأي، وخصوصاً في حال تدنّت نسبة الاقتراع لدى عرب الـ48. وهذا عامل إرباك أساسي في مسار الاتفاق الذي يعبّر عن تقاطع مصالح دولية وإقليمية في الظرف الراهن، ومنها سعي إيران إلى الاستفادة من لحظة سلوك العلاقات السعودية الأميركية مساراً انحداريّاً بعد قرار “أوبك +” خفض إنتاج النفط، وهو ما سيرتّب أعباءً انتخابية على بايدن في 8 تشرين الثاني. هذا فضلاً عن الحسابات اللبنانية للحزب الذي يصوّر الاتفاق على أنّه انتصار تهديه المقاومة للبنان، وأنّه جولة رابحة في المعركة لفكّ الحصار الأميركي عنه. واللافت أنّ لابيد سارع، إثر تلقّي إسرائيل الردّ اللبناني على مسوّدة الوسيط الأميركي آموس هوكستين، إلى طرح معادلة جديدة للتعامل مع تهديدات حزب الله مفادها أنّ أيّ تصعيد من قبله سيطيح بالمسار التفاوضي من أصله. وهي معادلة سيحدّد تعامل حزب الله معها مقدار رغبته في الاتفاق التي يبدو أنّها لم تتناقص حتّى الآن، وذلك على الرغم من التعديلات اللبنانية على مسوّدة هوكستين التي ينمّ تعليق الرئيس نبيه برّي عليها عن رهان لبناني على قدرة واشنطن على معالجتها ضمن الاتفاق النهائي. لكن لا شيء محسوم بطبيعة الحال بالنظر إلى تسارع الأحداث ووقوع التفاوض في توقيت دقيق جدّاً إسرائيلياً وأميركياً.
إقرأ أيضاً: إسرائيل: تهديدات السيّد لن تمنع التنقيب في كاريش
ستكون لذلك كلّه تبعات على الداخل اللبناني، وبالتحديد في ما يخصّ استحقاق رئاسة الجمهورية، حيث يسعى الحزب في الجلسة النيابية لانتخاب رئيس جديد في 13 تشرين الأول إلى الحفاظ على مكاسبه في جلسة 29 أيلول، وبالتحديد لجهة إظهار قوّته السياسية مقابل خصومه، وهو ما يدخل ضمن خريطة الحسابات الإقليمية والدولية للانتخابات الرئاسية التي تزداد تعقيداً على ما أظهرته التطوّرات الطارئة على ملفّ ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل.