يقوم تخزين القات على طقوس وتقاليد في جلساته اليومية الطويلة. أما تأثيره في المتجالسن أرضًا على مفارش المقيل فيتدرج على مراحل تبلغ أوجها في ما يسميه اليمنيون “الساعة السليمانية”.
الساعة السليمانية
والساعة هذه معروفة أيضًا بلحظة “قرحة القات”، أي انفجار تأثير مضغه وتخزينه في زوايا الأفواه، وامتصاص عصارته وامتزاجها بالدم وتمكنها من الذهن. وتظهر علامات ذلك في كلام الشخص وشكله وحركاته وإيماءاته. وفي الساعة السليمانية يبلغ “المولعي” (صفة من يبلغ به ولعه وإدمانه الدرجة القصوى) قمة النشوة والإيهام. فيجلس ساهمًا مخطوفًا عن ما حوله ويخوض في عوالم الأخيلة والتهاويم التي ترشحه لتخليص سيزيف عن صخرته، أو لنقل قصر الملكة بلقيس في رفة عين، كما فعل جد غابر حسب الأسطورة، أو لسد ثقب الأوزون بورقة قات. وهذا فيما صاحبنا سادر في قعوده بين أمثاله، يحرك يده في نتف شعيرات ذقنه وشاربيه ساهيًا وغارقًا في الخدر والخمول.
النساء وحضرموت والقات
أجابتني صديقة مرة: “ياعزيزتي أنت لم تجربي سره ونشواته”. كنت أجادلها في مساوئ مضغ القات الذي راحت تداوم يوميًا على جلساته. فهو نجم سعدها، لأنها في مقيل تناوله تعرفت على حبيبها ورجل حياتها، كما تزعم. وكان المقيل مختلطًا في منزل باحث فرنسي يقيم في صنعاء. واختلاط النساء والرجال نادر في مجالس القات باليمن، بل يعتبر معيبًا ومستنكرًا. فتقتصر مقايل النساء القليلة عليهن وحدهن. لكن بعض الفئات العاملة في حقل الثقافة والإعلام والمجتمع المدني أقدمن على أختراق بسيط لنظام الفصل العام الحاد بين الجنسين. ساعدهن في ذلك تعرفهن على غير يمنيين في مجالات عملهن التي فتحت لهن أبواب حضورهن في هوامش الفضاء العام، سافرات إلى جوار معارفهن من الرجال.
ما يحدث في حضرموت من إسراف فئات عدة في تناول القات، بعد اغراقها به بدوافع ممنهجة إرادها نظام الوحدة بين الشمال والجنوب، لتسييد نفوذه وإبقاء سيطرته على مصالحه
صديقتي التي كمن حظها في أحد المقايل وصادفت فيه غرام عمرها، ألحت علي أن أحضر مقيلها، فوافيتها على مضض، مخفية عنها ما يتحول لاحقا إلى دعابة جلساتنا كلما زرتها: عندما غارت المقيل تركت لها على طاولة “بروشور” تتصدره لوحة لفنان يمني تصور شخصًا وجه أصفر شاحبًا وقد انتفخ صدغه حد الانفجار، وممحوةٌ نصف ملامح وجهه ووريقات وأغصان قات تمتد لتتغذى عروق جلدة. وما لم أقله لصديقتي حينذاك هو إنني أتيت صنعاء لحضور أجتماع تاسيسي جمعية تناهض تناول القات.
امرأة من معارفي الحضرميات التي رأيتها بوجه ذاوٍ حزين، ولما استفسرتها أنفجرت شاكية عنف زوجها واجباره إياها على بيع مصاغها ليؤمن حاجته اليومية من القات. وقصتها ليست سوى واحدة من عشرات القصص والحوادث التي تؤكد جميعها انتشار موبقات لم تعرفها حضرموت من قبل، ومثلها مناطق أخرى. فالتقارير والدراسات بينت شكوى أمهات وزوجات وآباء من جرائم تحدث داخل البيوت والأسر: سرقة، اعتداءات، غالبًا ما يقترفها رجال مدمنو قات. هذا بعدما كانت سمعة الحضارم السائعة: الأمانة، صون أموال الآخرين، ليس في بلادهم فحسب، بل أيضًا في المهاجر التي ذهبوا إليها ويعملون فيها.
وما يحدث في حضرموت من إسراف فئات عدة في تناول القات، بعد اغراقها به بدوافع ممنهجة إرادها نظام الوحدة بين الشمال والجنوب، لتسييد نفوذه وإبقاء سيطرته على مصالحه في أكبر وأهم محافظة نفطية تكتنز أرضها ثروات عدة. فقبل الوحدة – يعتبرها الجنوبيون شؤمًا عليهم – كان دخول القات وتعاطيه ممنوعين في حضرموت. فحكومة “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية” في عهد الرئيس سالم ربيع علي (سالمين) في سبعينيات القرن المنصرم، أصدرت قانونا يمنع دخوله إلى محافظات حضرموت، المهرة، وجزيرة سقطرى. لكن الوحدة أدت إلى تفشي القات في الجنوب. وبعدما كانت طقوس تناوله من قبل تتخذ طابعًا احتفاليًا ترافقها جلسات أنس وغناء، تتزين خلالها النساء، ويطوقن أعناقهن ورؤوسهن بالفل والورد وويتضمخن بالعطر والبخور العدني، فتكسر هذه بعض مضار وإدمانه. وهذا على خلاف ما يحدث في هذه الأيام التي حولت جلسات القات عادة يومية كئيبة بأكلاف باهضة يدفعها المتعاطي من صحته ونشاطه، وعلى حساب قوت يومه واحتياجات أسرته في زمن الحرب.
طائرة سقطرى
جزيرة سقطرى الخلابة، وهي من أهم الجزر في العالم، ومحمية طبيعية حسب تصنيف منظمة الأمم المتحدة، تنطوي وهادها وجبالها وشواطئها على 12 ألف نوع من النباتات والأشجار النادرة التي لا توجد في أرض سواها. ولكن تعطل قانون منع القات شرّع طبيعتها لزراعته فيها.
مازلت اتذكر الدهشة والأنبهار في عيون الوفد الثقافي الذي زار الجزيرة رفقة الروائي الألماني العالمي غونتر غراس. وقد حملتنا طائرة خاصة هبطت في مطار سقطرى. وهو المطار إياه الذي راح يجلب البلاء إلى الجزيرة محمولًا على متن طائرة تهبط يوميا مكتضة برزم من النبتة الخبيثة. هكذا وصفتها سيدة سقطرية دعتني إلى تناول الغداء بمنزلها في زيارة أخرى لي إلى الجزيرة قبل بضع سنوات. وأنبرت تشكو معتذرة مني معللة فقر المائدة بندرة الخضار والفاكهة في السوق، لأن الطائرة التي تحملها لا تأتي إلا مرة واحدة في الأسبوع إلى الجزيرة، وأحيانا قد لا تأتي إلا في أسبوعين. أما طائرة القات فلا تنقطع رحلاتها اليومية عن مطار سقطرى مطلقًا. وختمت المرأة جملتها الأخيرة بحسرة ناقمة.
دواء الأسد الجبان
وردت هذه العبارة على لسان فتاة يهودية في تقرير لمجلة “روز اليوسف” المصرية في العام 2018، يتناول انتشار القات في إسرائيل، وعلى الأخص بين اليهود اليمنيين الذين يتفننون في تقديمه بأشكال وأنواع، واستخلصوا منه شرابًا كحوليًا يلاقي اقبالًا كبيرًا في الحانات الإسرائيلية. ومصدر القات الإسرائيلي اليمنيون اليهود الذين زرعوه بعد استيطانهم في الدولة العبرية منذ أربعينيات القرن المنصرم. وقد حصلت هجرتهم من موطنهم الأول ضمن صفقة بين نظام الأمامة في اليمن الشمالي وحكومة بريطانيا التي كانت تحتل جنوب اليمن. وسميت تلك الصفقة بعملية “ببساط الريح” كناية عن أسطول الطائرات التي نقلتهم إلى فلسطين.
إقرأ أيضاً: القات والحرب يوحدان اليمنيين في الشقاء.. ويدمران عمرانهم وأجسامهم(1)
تذكرت هذه عبارة بساط الريح عندما سألني صديق لبناني – بعدما شاهد فيلما وثائقيا عن اليمن – عن كنة أكياس النايلون المعلقة بخواصر الرجال اليمنيين كأنما جزء من تكوين أجسادهم. خجلةً أضطررت أن أشرح له أن تلك الأكياس “العلاقي” حسب تسمية اليمنيين، توضع فيها كمية أوراق القات التي يحملها الرجال متنقلين بين أسواقه وجلسات مقايلهم التي تبدأ ظهيرة يومهم.
أما عبارة “دواء الأسد الجبان” فتختزل الأساطير التي يتداولها “الموالعة” أو المولعون بالقات في وصفهم من بلغ درجة عاتية في إدمانه الذي يحسبون أنه يمنحهم نشاطًا جسديًا وذهنيًا وقدرات جنسية “شمشونية”. فهل الأمر فعلًا كما يزعمون؟
تنفي هذا الزعم حوادث العنف الأسري المنتشرة بين الأزواج ونسبة الطلاق المرتفعة في اليمن. فمعظم شكاوى النساء تؤكد أن مدمني القات الرجال يهملون زوجاتهم، ويتنصلون من تحمل مسئولياتهم ومتطلبات أسرهم.
*كاتبة وباحثة وناشطة حقوقية يمنية من جنوب اليمن – حضرموت