في مشاهد نساء إيران المصوّرة أثناء احتجاجاتهن الراهنة المندلعة بعد قتل “شرطة الأخلاق” أو “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” (الباسيج) الشابّة الإيرانية الكردية مهسا أميني (22 سنة)، تمرّدٌ ينطوي على ملامح من طقوس أو شعائر إيفاءِ النساء النذور: نزعهنَّ أغطيةَ شعرهنَّ عن رؤوسهنّ، رفعها عاليًا والتلويح بها، وقذفها في الهواء أو رميها أرضًا بغضبٍ دفين. وقوفُ بعضهنّ أمام مرايا، وقصِّهنَّ شعرهنَّ بوجوهٍ مقطبةٍ، وبحركاتٍ تنطوي على انتقامٍ شخصي من الذات ومن المجتمع وتقاليده السائرة المفروضة عليهنّ بقوة سلطانية غاشمة لا تتورّع عن القتل تأديبًا أو انتقامًا من خروجهنّ عليها. ربطهنَّ خصلًا من شعرهنّ بعيدان ورفعها عاليًا في الهواء الطلق والتلويح بها أثناء سيرهن محتجات متظاهرات في الشوارع وإحراق صور قاسم سليماني المنصوبة عاليًا على جدران مبانٍ أجهزة أمنية حكومية في شوارع مدنٍ إيرانية.
قد تنطوي أفعال النساء الإيرانيات على خروج وتمرُّدٍ على شعائر إيفاء النذور وطقوسها التقليدية القديمة المذعنة لسحر الغيب والتنجيم وقراءة الطالع وزيارات المقابر، والتعريض بها والسخرية منها
دام رُعبكم
ولسليماني تلاميذ نجباء في لبنان، عاشوا وقَتَلوا وقُتِلوا وظلوا سرّيين وغامضين طوال حياتهم، ليقدّسَ رهطهم وأهلهم سرّهم ومقاتِلَهم، فينصبون لهم صورًا في شوارع “أعدائهم” المسالمين في أحياء بيروت. وتشبه صورهم هذه المذيّلة بعبارة “دامَ رعبكم” أفيشات أفلام رعب قديمة بالأسود والأبيض، وتنطوي على ملامح من فنون التصوير في الهند والطبيعة الهندية، التي ربما استلهمها صُنَّاع المشاهد والصور الخلاصية الكئيبة الكالحة في إيران جمهورية الخميني والخامنئي الإسلامية. لكن لا أحد يجرؤ في بيروت على الاقتراب من صور القَتَلة السرّيّين هذه، على خلاف ما حدث ويحدثُ في إيران مراتٍ ومراتٍ.
وقد تنطوي أفعال النساء الإيرانيات هذه على خروج وتمرُّدٍ على شعائر إيفاء النذور وطقوسها التقليدية القديمة المذعنة لسحر الغيب والتنجيم وقراءة الطالع وزيارات المقابر، والتعريض بها والسخرية منها. فهنَّ في ما يفعلونه بخصل شعرهن وأغطيتها يقلبن تلك الشعائر القديمة إلى عكسها: عرضهنَّ في العلانية العامة ما يُفترضُ أنه حرمتهن وقد يُقتلن بسبب سفوره.
الخروج في المنازل
والنساء الإيرانيات يتمرّدن اليوم في بلادهنّ احتجاجًا على قتل بعضهنّ لأن أغطية شعرهنّ أو ثيابهنَّ تخالفُ في تفصيل ما فيها تعاليم آيات الله الساهرين نهارًا وليلًا على تكفين أجسام النساء، لئلا تتعرّض سنتمراتٍ قليلة منها للهواء والنور ولنظرات رجال تربية الريبة الخمينية الجائعة والخائفة من جوعها لتلك السنتمترات السافرة في أجسام النساء في أماكن العلانية العامة. ذلك أن الثورة الخمينية الإسلامية، منذ انتصارها في إيران منذ أكثر من 42 سنة، قلبت أنماط العيش والسلوك ومعاييرها قلبًا كاملًا، على ما قال لنا إيرانيون التقينا بهم مرة في طهران قبل نحو 30 سنة: شعائر التديُّن وتعاليم الدين ومحرماته يجب أن تُمارس خارج البيوت، أي في الشوارع وفي العلانية العامة. أما الحياة العامة فانقلبت إلى حياة خاصة تُمارسُ في السِّر والستر داخل البيوت. وهذا على عكس ما كانت عليه حال إيران قبل انتصار ثورتها الإسلامية.
التقينا بأولئك الإيرانيين الشبّان مع زوجةِ أحدهم على متنِ طائرة أقلعت بنا في أواسط تسعينات القرن الماضي من مطار دمشق إلى مطار طهران، بدعوة من أحد مساعدي محمد خاتمي الإصلاحي، قبل أن يصير رئيسًا للجمهورية الإسلامية. وكان أولئك الشبان في زيارة دمشق لمراجعة سفارة غربية فيها بمعاملاتِ هجرتهم من إيران.
لبنانيون في إيران
في طهران دعانا أحدهم إلى عشاءٍ وسهرة في بيته، فإذا به بيتٌ بورجوازي مؤثث على نمطٍ غربي حديث ومترف. وإذا بالنساء الإيرانيات المدعوّات مع أزواجهنّ، يصلن مرتديات شادورات العفّة النظامية التي رحن ينزعنها عن أجسامهنّ فور دخولهنّ المنزل قائلاتٍ ما فهمنا منه أنهنّ يعلِنَّ أن وقت خروجهنّ قد بدأ الآن، أي في لحظةِ مغادرتهنّ الشارع العام ودخولهنَّ المنزل المدعوّات إليه للعشاء والسهرة، متلهّفات كأزواجهنّ إلى التعرّف علينا، نحن زائري طهران الغرباء. واللهفة تلك كانت تشي بقوة رغبة مستقبلينا للتعرُّف على غرباء ومحادثتهم. فهم محرومون من ذلك في بلادهم المنكفئة عن العالم بثورتها العصماء والصمّاء والعمياء.
والمشهد الذي أثار دهشتنا تمثّل في أن المدعوّات ما أن تجاوزنَ عتبة البيت وأُغلق بابه خلفهنّ، وخلعنَ شادوراتهنّ وعلّقنها قرب الباب، حتى بَدَوْنَ نساءً أخرياتٍ تمامًا: مرتديات أحدث أزياء الموضة الفاخرة على أجسامهن المنطلقة حرّة بوجوهٍ ونظراتٍ مبتهجة مرحة ومرحّبة. وفي نهاية السهرة وقفت النساء خلف باب المنزل وارتدينَ شادوراتهنّ المعلّقة على مشجب، فإذا بهنّ يفقدن ملامحهنّ ولم نعد نميّز بينهنّ، كأنهنّ نُسخٌ مكرّرة من شخص واحد.
وكانت زوجة صاحب الدعوة قد اتفقت مع زوجها على أن يوصلها صباح النهار التالي إلى الفندق الذي ننزل فيه كي تصطحبنا في زيارة إلى بازار طهران.
في غضب النسوة الإيرانيات اليوم، وفي إيفائهن نذور حرّيتهن الشخصية والعامة، شيء من الانتقام لصديقنا الإيراني وزوجته في وقفتهما مرعوبين ومهانين مثلنا على الرصيف أمام فندق في طهران قبل نحو ثلاثين سنة
زوجان في طهران
صباح النهار التالي أنزلَ الزوج أمام الفندق زوجتَه من سيارته التي يقودها، فاقتربنا منها نصافحها حيث كنا ننتظرهما على الرصيف. وما أن أقلع الزوج بسيارته ذاهبًا إلى عمله، وكنا لا نزال واقفين نحادثُ زوجته، حتى لمحْنا رجلًا بثيابٍ سوداء يُوقف سيارة الزوج ويُنزله منها، وينتحي به جانبًا. وفي هذه اللحظة بدا اضطراب ينمُّ عن رعب على وجه الزوجة. وكان بيننا من يكلّمها بالإنكليزية، وفهمنا منها أن رجل الثياب السوداء من جهاز “شرطة الأخلاق أو الآداب”، وأوقف الزوج ويُحقّق معه بتهمة إيصال زوجته وتركها مع أجانب أمام فندق، كأنها بائعة هوى.
اقتربت الزوجة من زوجها مرتجفة الخطوات، فيما وقفنا نحن جامدين في أماكننا لا ندري ماذا يمكن أن نفعل كاتمين شعورًا بالخزي والعار والغضب، حتى انفجر أحدنا بصرخة غاضبة شبه وحشية لا يُفهم منها شيئًا سوى أنها أدارت فجأة رؤوس الحاضرين وأبصارهم نحونا. وما كان من الصارخ إلا أن دخل الفندق راكضًا وصعد إلى الجناح الذي ينزل فيه محمد خاتمي الذي أيقظته من نومه الصفعات القوية على خشب جناحه، فارتدى عباءته وعمامته واصطحب موقظه الذي أخبره بالحادثة إلى باب الفندق. كان وجه خاتمي مشرقًا باسمًا، وهدّأ غضب من أيقظه من نومه. وعلى الرصيف توجّه من سيصير رئيسًا للجمهورية الإسلامية العصماء بعد مدة، وأمسك يدي الزوجين المرعوبين وقادهما مبتسمًا إلى بهو الفندق، فيما وقف رجل الثياب السوداء محدّقًا في وجوهنا بنظراتٍ حاقدة، قبل انصرافه إلى تنظيم مرور السيارات أمام الفندق.
نساء السفور والنذور
في غضب النسوة الإيرانيات اليوم، وفي إيفائهن نذور حرّيتهن الشخصية والعامة، شيء من الانتقام لصديقنا الإيراني وزوجته في وقفتهما مرعوبين ومهانين مثلنا على الرصيف أمام فندق في طهران قبل نحو ثلاثين سنة. والأرجح أن الصديقين الشابّين آنذاك، قد غادرا إيران مهاجرين إلى بلدٍ من بلاد “الشياطين”، واكتهلا هناك مثلما اكتهلنا في بيروت التي يدوم فيها رعبُ من يهتفون “دام رعبكم”، ليس في بيروت وحدها، بل في دمشق وبغداد وصنعاء أيضًا، بعدما شارك قاسم سليماني في إرعاب أهلها وتدميرها.
إقرأ أيضاً: مَن يخلف خامنئي (2): رئيسي “عصا” الإعدام للخميني وخامنئي
أما في طهران ومدن سواها في إيران الخامنئي المقدّس سره الذي قد يرثه عنه ابنه وحفيده بعده – شأن بشار حافظ وحافظ بشار الأسد – فالرعب لم يعد مقدّسًا. بل هو معرّضٌ بين سنةٍ وأخرى، بين شهر وآخر، للنقض والغضب الدّنيويَّين من فئات كثيرة من الشعب الإيراني… واليوم تُطلق نساء إيران غضبهنّ الدّفين سافرًا مثل شعرهنّ ووجوههنّ وأيديهنّ السافرة الحرة في العلانية العامة.