أمَا وقد خسر لبنان فرصة عرض اتّفاقه مع صندوق النقد الدولي في اجتماعات المجلس التنفيذي، فإنّ جمعية المصارف وشركائها من بعض كبار السياسيّين تكون قد نجحت في استيعاب صدمة الاتّفاق والالتفاف على تدابيره باعتبارها المستهدَف الرئيسي.
وعسى أن لا يكون إقفال المصارف بعد موجة “اقتحامات” الفروع، ستاراً لتنظيم هجمة مرتدة، تستهدف إسقاط الاتفاق وفرض قوانين “إصلاحية” مشوهة وخطط تعاف وهمية، بما يرسخ حقيقة أن القوانين إما أن تكون لخدمة وحماية هذه “المحمية” أو لا تكون.
ليس هذا الكلام تجنّياً، بل يستند إلى شروط الاتّفاق مع الصندوق، التي يدّعون زوراً أنّ مشاريع القوانين وخطط التعافي التي يروّجونها تستجيب لتلك الشروط، فيما هي فصول متتالية من مسرحية والتذاكي على اللبنانيين والدول المانحة والصندوق أيضاً.
نصَّ التدبير الأوّل على قيام الحكومة بوضع “استراتيجية لإعادة هيكلة البنوك” على أن يتمّ تحصينها “بتشريع طارئ من مجلس النواب”
استهداف أصحاب المصارف
لا يستند القول إنّ الاتّفاق يستهدف أصحاب المصارف بالدرجة الأولى إلى تحليل واستنتاج، بل إلى قراءة بنوده. فهو تضمّن ثمانية تدابير عاجلة، منها خمسة تدابير تتعلّق حصراً ومباشرة بالقطاع المصرفي. وينطلق هذا التركيز على المصارف من حقيقة أنّ أصحابها وشركاءهم من كبار المساهمين والمودعين والسياسيّين، هم “المستفيد الأكبر” من الانهيار، ويجب تحميلهم الشطر الأكبر من الخسائر، وإجبارهم على إعادة ما لا يقلّ عن 10 مليارات دولار من الأموال المهرّبة. ونشرح ذلك استناداً إلى نصوص التدابير الواردة في الاتّفاق وهي:
1- نصَّ التدبير الأوّل على قيام الحكومة بوضع “استراتيجية لإعادة هيكلة البنوك” على أن يتمّ تحصينها “بتشريع طارئ من مجلس النواب”. وحدّد الصندوق شرطين لهذه الاستراتيجية: الأوّل “الإقرار بالخسائر الكبيرة التي تكبّدها القطاع ومعالجتها”، والثاني “حماية صغار المودعين والحدّ من الاستعانة بالموارد العامّة”. ويعني ذلك أنّ أصحاب المصارف وكبار المساهمين يصبحون أمام أحد خيارين: إمّا تحمُّل جزء كبير من الخسائر المحقّقة والمبادرة إلى زيادة الأموال الخاصّة لمصارفهم بضخّ رساميل جديدة وليس “بتركيب الطرابيش” كما تعوّدوا أو بوضع اليد على أصول الدولة من خلال بدعة الصندوق الاستثماري، وإمّا الخروج من السوق بالاندماج مع مصارف أخرى أو بإعلان إفلاس مصارفهم.
2- لأنّ صندوق النقد والدول المانحة ووكالات التصنيف الائتماني وشركات التدقيق والمحاسبة على بيّنة من حجم الارتكابات في عمل المصارف وانعدام الشفافية وعدم احترام المعايير المصرفية والمحاسبية. فقد تضمّن الاتفاق تدبيراً ينصّ على “تقييم أكبر 14 بنكاً كلّاً على حدة”، على أن تتولّى العملية “شركات دولية مرموقة”. ويبدو أنّ المقصود هو معرفة وتوثيق أين ذهبت موارد الدولة وودائع المودعين، وأين استقرّت وفي حسابات مَن؟
3- ولأنّ الصندوق والدول المانحة على إدراك أنّ قانون السرّية المصرفية هي الحصن المنيع للمصارف. فقد تضمّن الاتفاق تدبيراً خاصّاً بتعديل القانون. ويتوجّب التدقيق قليلاً بأهداف التدبير للتأكيد من أنّ المستهدف هم أصحاب المصارف وشركاؤهم. ونصّ على أنّ الهدف هو “الإزالة الفعّالة للعقبات أمام إعادة هيكلة القطاع المصرفي”، إضافة إلى “الكشف عن الجرائم الماليّة والتحقيق فيها”، وأخيراً “استرداد الأصول”…
4- وتكتمل الصورة بالتدبير الذي ينصّ على “الانتهاء من التدقيق بوضع الأصول الأجنبية لدى مصرف لبنان، للبدء بتحسين شفافية هذه المؤسّسة الرئيسية”… “أخوت يحكي… وعاقل يفهم”.
ألا يعبّر ذلك، ولو بلغة دبلوماسية، عن قناعة الصندوق بمسؤولية المصارف عن الانهيار وخطورة ممارساتها المصرفية؟ وهذا ما عبّر عنه بلغة مباشرة وصريحة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بوصف هذه الممارسات بمخطّط بونزي، وكذلك فعل البنك الدولي بتقريره الشهير “مخطط تمويل بونزي”. والمقصود هو تلك “اللعبة الجهنّميّة” القائمة على جذب الودائع وإقراضها للدولة لتمويل الموازنة. ولذلك فقد نصّ الاتفاق مع الصندوق على “إلغاء الإجراء الذي يسمح بتمويل عجز الموازنة من مصرف لبنان.”
قوانين على قياس المصارف
لمّا كانت معارضة الاتّفاق غير ممكنة، فقد اعتمدت “العصبة” بهدف الالتفاف على الاتفاق على سلاح كسب الوقت وإغراق البلاد وصندوق النقد في مسرحيّات خطط التعافي ومشاريع قوانين الإصلاح. وتجدر هنا ملاحظة أنّ هذه المشاريع لم تتعرّض للتدبير الرئيسي المطلوب، وهو إعادة هيكلة المصارف. وحتى مشاريع القوانين التي عُرضت على مجلس النواب فقد صيغت بطريقة مشوّهة لا تحقّق الأهداف المرجوّة. وجاءت مليئة بالثغرات والألغام التي تفرغها من مضمونها وتجعل تنفيذها مستعصياً لارتباطها بقوانين أخرى. وخير دليل على ذلك قانون السرّيّة المصرفية الذي أعاده رئيس الجمهورية إلى مجلس النواب، بعدما تبيّن أنّه لن ينال موافقة صندوق النقد. وقد عبّر عن ذلك صراحة أحد مسؤولي الصندوق بقوله إنّ القانون “تشوبه أوجه قصور رئيسية”.
كابيتال كونترول أم تعديل الدستور
نأتي إلى القانون الهجين الآخر المتعلّق بالكابيتال كونترول والذي يصحّ اعتباره مسرحيّة كاملة لا فصلاً في مسرحية فحسب. فهذا القانون كان مطلوباً بعد ثلاثة أيام من اندلاع الأزمة وليس بعد ثلاث سنوات. وتمّ دفنه طوال تلك المدّة في دهاليز مصرف لبنان وجمعية المصارف والحكومة والبرلمان لأنّه ببساطة يجعل التحكّم بالودائع والسحوبات والتحويلات خاضعاً لأحكام القانون وليس لاستنساب أصحاب المصارف وشركائهم. وقد تمّ إحياؤه لبيعه “كبضاعة فاسدة” لصندوق النقد وللشعب اللبناني، علماً أنّ الصندوق لم يأتِ على ذكر الكابيتال كونترول في الاتفاق الموقّع مع الحكومة. وكان قد أعلن في العام 2021، تعليقاً على ظهور النسخة الأولى منه بالقول: “هذا القانون يجب أن يكون جزءاً من حزمة كاملة من الإصلاحات المدعومة بسياسات ماليّة ونقدية وأسعار صرف مناسبة”.
وبهذا المعنى فإنّ قانون الكابيتال كونترول بات لزوم ما يلزم، بعد “تناهب” أموال المودعين، ومنها الاحتياطي الإلزامي لدى مصرف لبنان. أمّا الهدف الوحيد منه فهو توفير الحماية القانونية لأصحاب المصارف وشركائهم لمواصلة الإنكار بأنّها مصارف متوقّفة عن الدفع ومفلسة قانوناً. ويتّضح ذلك من الإصرار على تضمينه نصّاً مخالفاً للقواعد والأصول القانونية، يقضي”بتحريم” رفع الدعاوى القضائية من قبل المودعين. والأدهى أنّه ينصّ على أن يكون “التحريم”، بأثر رجعي ليسري على الدعاوى المنظورة أمام القضاء. وتلك “سابقة لم يسبقهم إليها أحد”. فما علاقة قانون الكابيتال كونترول بحقّ التقاضي الذي يكفله الدستور، وخاصة إذا تعلّق هذا الحقّ بتوقّف مصرف عن الدفع، وهو أمر ينظّمه قانون النقد والتسليف. يضاف إلى ذلك الإصرار على حذف المادّة المتعلّقة بأهداف القانون، الواردة في النسخة الأولى. وما على الناس إلا التصديق أنّ مشروع القانون هو لحماية حقوق المودعين.
إقرأ أيضاً: حُمّى اقتحام المصارف وهستيريا القتل والفرار من البلاد
أمَا آن الأوان لإسدال الستارة على مسرحيات “البلف” والتذاكي… أمَا آن الأوان للاستماع إلى صرخة أحد أعضاء فريق صندوق النقد: “نرجوكم أن تحترموا عقولنا”…