إذا كان مِن درس يمكن تعلّمه من السنوات الستّ لـ”العهد القويّ”، فإنّ هذا الدرس يتمثّل في أنّ الفراغ كان أفضل من وصول ميشال عون وجبران باسيل إلى قصر بعبدا.
كلّ ما فعله الثنائيّ الرئاسي في “العهد القويّ” كان استكمال القضاء على ما بقي من مؤسّسات الدولة اللبنانيّة، خصوصاً مؤسّسة القضاء. يظلّ القضاء، كسلطة مستقلّة، ركيزة لأيّ نظام قابل للحياة في أيّ مكان من العالم. عندما يسقط القضاء تسقط معه الدولة ومؤسّساتها. هذا ما تقصّده الثنائي الرئاسي الذي وضع نصب عينيه دائماً نقطة انطلاق في عملية القضاء على لبنان ومقوّمات وجوده.
معول عون هو الفراغ
يظلّ الفراغ أفضل من معول التهديم الذي لازم كلّ تصرّفات ميشال عون، خصوصاً منذ دخوله قصر بعبدا للمرّة الأولى في الثالث والعشرين من أيلول 1988 رئيساً لحكومة مؤقّتة لا مهمّة لها سوى ضمان انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة خلفاً للرئيس أمين الجميّل.
كلّ ما فعله الثنائيّ الرئاسي في “العهد القويّ” كان استكمال القضاء على ما بقي من مؤسّسات الدولة اللبنانيّة
يمكن إيراد سلسلة من الأمثلة التي تكشف مدى ذهاب ميشال عون وجبران باسيل في “القضاء”، عن سابق تصوّر وتصميم، على السلطة القضائية. ليس ما يدعو إلى العودة إلى السلوك المعيب للقاضية غادة عون، وهو سلوك يشكّل إهانة لكلّ لبناني ولكلّ ما له علاقة بالقضاء، لكن يمكن البدء باتّخاذهما موقف المتفرّج من الحكم الصادر عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي سمّت قتلة رفيق الحريري. لم ينبس رئيس الجمهوريّة ببنت شفة، ولو من باب رفع العتب، للقول إنّ المحكمة الدوليّة كشفت الحقيقة وسمّت المجرمين الذين نفّذوا جريمة موصوفة في حقّ لبنان وطناً وشعباً، وإنّ على القضاء اللبناني ملاحقة هؤلاء المجرمين على الرغم من انتمائهم إلى “حزب الله”. عندما يقبل رئيس الجمهورية في لبنان أن يكون هناك مَن هو فوق القضاء، فإنّه يكون يعمل شخصيّاً من أجل الانتهاء من هذه السلطة المستقلّة، علماً أنّه يعتبر في العرف والدستور بمنزلة “القاضي الأوّل” في لبنان.
تصرّف عون وباسيل، إرضاءً لـ”حزب الله”، وكأنّ اغتيال رفيق الحريري، قبل سبعة عشر عاماً ونصف عام، وقع خارج لبنان وليس في بيروت قبالة فندق “سان جورج”. رضا الحزب عليهما أهم من رضا اللبنانيين وأهمّ من مصلحة لبنان ومستقبل أبنائه.
لا حاجة بالطبع إلى إثارة موضوع التشكيلات القضائية التي رفض رئيس الجمهوريّة توقيعها قبل سنوات عدّة، ولا استبعاده منذ البداية أيّ تحقيق دولي في جريمة تفجير مرفأ بيروت. فعل ذلك كلّه كي يقطع الطريق باكراً على أيّ تحقيق يمكن أن يكشف مَن جاء بنيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت ومَن خزّنها سنوات فيه ومن أجل ماذا كان ذلك؟
جريمة العهد الكبرى
تظلّ الجريمة الكبرى للعهد العوني – الباسيلي في قبول أن يكون “حزب الله” مَن يقرّر مَن هو رئيس الجمهورية في لبنان. جعلت هذه السابقة، الخطيرة إلى أبعد حدود، من انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة أمراً لا فائدة منه.
لماذا لم تعُد فائدة من رئيس جديد للجمهوريّة؟ يعود ذلك إلى أنّ أيّ رئيس يختاره “حزب الله” يعني أن لا مهمّة لدى هذا الرئيس سوى متابعة سياسة الثنائي الرئاسي. تتمثّل هذه السياسة في إيجاد غطاء مسيحي رسمي لسلاح مذهبي يُستخدم ضدّ كلّ ما هو لبناني في لبنان وضدّ كلّ ما له علاقة بالقضاء. يبدأ ذلك بمتابعة عزل لبنان عربيّاً وتأكيد أنّه مجرّد جرم يدور في الفلك الإيراني. هذا ثبت بالفعل من خلال تصرّف وزير الخارجية اللبناني أخيراً في مجلس جامعة الدول العربيّة حيث كان صوت إيران في المجلس.
من يخرّب القضاء لا يعود يسأل عن أيّ شيء آخر، بما في ذلك التوازن بين رئاسة الجمهوريّة ورئاسة مجلس الوزراء. كلّ شيء يهون بعد ذلك، بما في ذلك الاستخفاف بالنتائج المترتّبة على انهيار النظام المصرفي، العمود الفقري للاقتصاد اللبناني. هل مَن لاحظ أنّ القضاء وقف موقف المتفرّج من هذا الحدث وكأنّه غير معنيّ به، علماً أنّ واجبه أن يكون في مقدَّم المعنيّين بجريمة سرقة أموال اللبنانيين والمودعين الآخرين؟
أفضلية الفراغ
سيبقى الفراغ أفضل من الإتيان برئيس للجمهوريّة على شاكلة الثنائي السعيد الذكر الذي سيتوجّب عليه مغادرة قصر بعبدا، غير مأسوف عليه، بعد شهر ونصف شهر. الأكيد أنّ ثمّة من سيقول أنّه يجب انتخاب رئيس للجمهوريّة بأيّ شكل كان وأيّ ثمن كان. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بحدّة: ما الفائدة من رئيس للجمهوريّة في خدمة “حزب الله” ومن خلفه إيران و”الحرس الثوري”؟
لم يكن القضاء على القضاء مجرّد عمل اعتباطيّ بمقدار ما كان جزءاً من خطّة ممنهجة اعتمدها “العهد القويّ” بتوجيه من الحزب الذي يديره. تستهدف هذه الخطّة القضاء النهائي على لبنان وتحويله إلى مجرّد رهينة إيرانيّة. المأساة أنّ العالم والمنطقة مقبلان على تغييرات كبيرة في ضوء الزلزال الأوكراني وفي ضوء الموقف الحازم الألماني – البريطاني – الفرنسي من الملفّ النووي الإيراني.
إقرأ أيضاً: يرحل “العهد القويّ”… ويبقى كابوس السلاح!
في انتظار هذه التغييرات المتوقّعة لا وجود لمرجعيّة سياسية في لبنان غير مرجعيّة الضاحية الجنوبية. عندما يعيش لبنان في ظلّ مثل هذه المرجعيّة هل يكون أفضل له انتخاب رئيس للجمهوريّة… أم الفراغ؟