يعرف العالم كله ملكة بريطانيا، وقد لا يعرف من بريطانيا إلّا ملكتها. لكنّ كثيرين في هذا العالم لا يعرفون ملوك بلجيكا وهولندا وإسبانيا والنروج والسويد وسواها، وقد لا يعرفون أساساً أنّ هذه الدول ملكيّة. وكأنّ ملكيّة بريطانيا هي من طبيعة الأشياء في هذا العالم ولا يمكن تصوّر أن يكون البلد غير ذلك.
السلاسة ونقيضها
ماتت الملكة، عاش الملك. رحلت إليزابيت الثانية وبات تشارلز الثالث ملكاً على المملكة المتّحدة لبريطانيا العظمى وشمال إيرلندا. لكنّ أمر انتقال العرش الذي يجري وفق ما هو مخطّط منذ عقود قد لا يكون بالضرورة بالسلاسة التي تُخفي نقائضها اللحظةُ العاطفية الجمعيّة للحدث.
في بريطانيا مَن يتخوّف أو يتمنّى أن يكون تشارلز آخر ملوك هذا البلد. استطلاعات الرأي الحديثة (قبل وفاة الملكة) تكشف تصاعداً في نسبة الداعين إلى إلغاء الملكيّة، ولا سيّما لدى الفئات الشابّة. غير أنّ هذه النسب ما زالت عند مستوى لا يهدّد جدّياً وجوديّة الملكيّة، وهي لا تتجاوز وجهات النظر ولا ترقى إلى مستوى الجدل السياسي الرصين.
يعتلي تشارلز الثالث عرشه في لحظة دراماتيكية من تاريخ بريطانيا. بريطانيا لم تستطع بعد إقناع نفسها بوجاهة الخروج من الاتحاد الأوروبي
يدخل الموقف الراهن من الملكيّة في إطار الترف، ولا يمكن مقارنته بذلك الذي كان محمولاً على قواعد أيديولوجيّة مبشّرة في العقود الماضية – ولا سيّما في حقبة الحرب الباردة ورواج اليسار في العالم – بإقامة نظام جمهوري يحكمه رئيس منتخب. ومع ذلك فإنّ السجال في وجاهة استمرار الملكيّة يتخذ طابعاً نضاليّاً لدى بعض المنظّمات التي تنادي بالجمهورية في بريطانيا وتنشط في مدن عديدة كبرى عبر ملصقات ومنشورات في الصحف من دون أن يُقلق الأمر أجهزة الأمن والمؤسّسات السياسية المعنيّة.
تراس اللاملكية
في صباها كانت ليز تراس رئيسة وزراء بريطانيا الجديدة واحدة من الناشطات الداعيات إلى إلغاء الملكيّة. تأثّرت تراس بتربية سياسية تميل نحو اليسار في كنف والدين مناصرَين لحزب العمّال. وجرّت سخريةُ القدر تراس نحو الملكة إليزابيت لتعيِّنها، قبل أيّام من وفاتها، رئيسةً للوزراء، والقدر جرّها لاحقاً لتقسم أمام إعلام الكوكب بالولاء لملك البلاد الجديد الملك تشارلز الثالث.
مع ذلك فَقَدت الملكيّة البريطانية، وإن تبدو محصّنة لا تهدّدها رياح اليسار والثورة وأفكار التغيير الكبرى، توازناً قد لا تظهر أعراضه إلّا لاحقاً. هناك ميلٌ إلى الاعتقاد أنّ القدرة العجائبية للمؤسّسة الملكيّة على الصمود أمام أمواج الاعتراض خلال 70 عاماً من عرش إليزابيت الثانية كان سببها إليزابيت بالذات.
يعني ذلك أنّ شخصيّة الملكة وشعبيّتها الكبرى وقدرتها دائماً على استعادة محبّة الناس حتى حين تعرّضت لمراحل عتب وفتور (مناسبة مقتل الأميرة ديانا مثالاً)، قد لا يمتلك مثيلها الملك الجديد الذي لا يتمتّع بتلك الطوباويّة التي واكبت الملكة الراحلة. حتى إنّ بعض دول الكومنولث التي بقيت مرتبطة بالتاج البريطاني بدأت تعبّر عن نزوع نحو الخروج من تحت تاج أجنبيّ ولن تحمله إليزابيت بعد الآن.
ملكية الثراء والترف
دخلت في الجدل تلك الطقوس التي تنتمي إلى العصور الوسطى التي تفرضها التقاليد الملكيّة والتي لا تشبه قواعد العصر. وفي الجدل أيضاً اعتراض على عيش الثراء والترف منذ الولادة من خلال الغرف من ميزانية الدولة وضرائب المواطنين. وفي الجدل أيضاً وأيضاً تحوُّل أفراد العائلة المالكة، وعلى خلاف عائلات مالكة في بلدان غربية أخرى، إلى نجوم محترفين جعلوا من النجوميّة هدفاً يتواطأ “بزنس” الإعلام على تسويقه.
لكنّ مخطئ مَن يعتبر أنّ “أسطورة” الملكيّة هي من صنع العائلة والسلالة. بريطانيا نفسها هي التي تقف وراء سرّ مناعة الملكيّة في البلاد. وإذا ما كانت ملكيّة البلد هي الأكثر شهرة في العالم، فذلك عائد إلى ما تتمتّع به بريطانيا نفسها من قوّة ونفوذ وانتشار في العالم. فإليزابيت كانت ملكة وسليلة عائلة تسود “إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس”. ثمّ إنّ قوّة البلد الاقتصادية والسياسية والعسكرية وموقعه الدبلوماسي بما هو بلد دائم العضوية في مجلس الأمن ويملك حقّ النقض، يجعلان من رأس السلطة الملكيّة محمولاً على رافعات الدولة لا رافعات العائلة الملكيّة.
والدولة العميقة
الواضح أنّ الملكيّة بحاجة إلى الدولة العميقة في بريطانيا، وأنّ الدعوات السابقة وتلك المغامرة الراهنة إلى إلغاء الملكيّة قرقعة غير جدّية لا أحد يأخذها على محمل الجدّ. وعلى الرغم من حقيقة أنّ الملك لا يملك صلاحيّات تنفيذية ولا يتدخّل في قواعد الحكم، غير أنّ إليزابيت حافظت على الوصل بين رأس الدولة والشعب في أوقات التوتّر والمحن، وعلى روابط البلد بالعالم في أوقات كانت علاقات حكومات لندن تسوء مع دول كثيرة، ولا سيّما تلك الموجودة داخل الكومنولث.
يعتلي تشارلز الثالث عرشه في لحظة دراماتيكية من تاريخ بريطانيا. بريطانيا لم تستطع بعد إقناع نفسها بوجاهة الخروج من الاتحاد الأوروبي. وهي على وشك الصدام من جديد مع المفوضيّة في بروكسل. والبلد يتعرّض لضغوط اقتصادية مقلقة بسبب أزمة الطاقة وارتفاع مستويات التضخّم المعولم، إضافة إلى أنّ “المملكة المتحدة” قد لا تبقى متّحدة إذا ما نجحت ضغوط اسكتلندا وإيرلندا الشمالية في الخروج من عباءة دولة الوحدة والحصول على الاستقلال.
لكنّ هذا كله ليس أولويّة تشارلز. التحدّي الوحيد وربّما للسنوات المقبلة هو مصالحة نفسه ملكاً مع البريطانيين بعد سبعة عقود من إرث أمّه. سيكون عليه إعادة لمّ شمل الأسرة والتخفيف من تشظّيها ووقف مهزلة نجوميّتها وتهيئة وليّ العهد ويليام ليكون يوماً ما ملك البلاد المقبل حتى لا يكون تشارلز نفسه آخر ملوك بريطانيا.
إقرأ أيضاً: إليزابيت الثانية… ترحل في وقت غير مناسب
لن يكون تشارلز وحيداً. إليزابيت ستكون معه. الدولة ستحوّل تشييع جنازة الراحلة إلى حدث تاريخي نادر ودوليّ كبير يهدف إلى شحن عواطف “الأمّة” وترميم تشقّقاتها، ويهدف إلى إعادة تعويم بريطانيا، دولة متخلّصة من الاتحاد الأوروبي تمتلك من التميّز ما يجعلها محجّاً لزعماء الدنيا في وداع إليزابيت.
*كاتب لبناني مقيم في لندن