“الرهينة”.. هنيبعل القذّافي

مدة القراءة 8 د

استدراج هنيبعل القذّافي إلى البقاع واختطافه منذ العام 2015 ورذل كلّ حقوقه في المحاكمة العلنيّة تحسم بأنّه “رهينة”. وحاله هذا يلخّص أحوال لبنان الرثّة في كلّ شيء: السياسة، الأمن، الحقوق، والقضاء. هؤلاء جميعهم شركاء في الاختطاف حتّى يثبت العكس.

احتجاز هنيبعل القذافي مأثرة أخرى من مآثر “القضاء اللبناني المرتهن سياسياً”. هي تنضمّ إلى غيرها من “القضايا السياسية” التي تُعالَج بالأمن، وذلك على مثال الديكتاتوريات والأنظمة الشموليّة. قضيّته من نوع القضايا التي تفتح “بازارات” المقايضة. تدبيرها كما حصل ويحصل ليس مقطوع الصلة على الإطلاق عن عامر الفاخوري، والمطران موسى الحاج ولا عن “مهزلة” توقيف عبد الله السبعاوي حفيد السبعاوي الناصري الأخ غير الشقيق للرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين بعد إقامته لمدة عامين مُتتاليين من دون أن يقرب إليه أحد، ثمّ استفاقة أحد الأجهزة على تنفيذ مذكّرة دولية في الحياة السياسية وتقديمه هديّة إلى جهاز أمنيّ آخر.

أكّد القذافي أنّ السلطات اللبنانية تواصلت مع خاطفيه حيث كانوا، وهو ما يدفعه للربط بين الخاطفين وبين أطراف في الدولة اللبنانية التي أصدرت السلطات فيها مذكّرة توقيف في حقّه بُعيد تسلّمه منهم

هذه بلاد “الأمن الكيفيّ”. الأمن ابن السياسة وأهوائها. المسيحي يتكفّل به الغرب. الشيعي تحميه قوّة الثنائي المسلّحة حتى أسنانها والقابضة على كلّ شيء. السُنّي طريد “هذا الأمن” بالتحديد. وهو “أمن غبّ الطلب”، أمثلته القذّافي، السبعاوي، الفاخوري، والمطران موسى الحاج.

لبنان الذي كان

لبنان واحة اللجوء لكلّ مُضطهَد سياسيّ غاب منذ زمن بعيد. منذ افتتح الأمن مساراً جديداً لهذه البلاد باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. صار لبنان بلداً مُقلقاً للعالم بعد أبنائه. تحوّل معسكر تدريب للحوثيّين ولأقنيتهم التلفزيونية. أضحى غرفة عمليات لـ”وحدة الساحات” العراقية والغزّيّة واليمنية… وقريباً جداً النيجيريّة.

إذا كان الأمن خلاصة السياسة، وينتهي الحال إلى ما آل إليه هنيبعل القذافي الممنوع عنه حقّ التعامل معه كـ”أسير حرب”، ويُسكَت عن ارتهانه في أقبية أمنيّة، فهذا لا يعني إلا موت السياسة ومعها لبنان الذي كان.

العنوان العريض لأحوال “الأمن اللبناني” هو تنفيذ مذكّرات سياسية أكثر من كونها قانونية أو قضائية. وقد يقول قائل وعن حقّ إنّ الأمن “عماد” الدولة، لكنّ هناك أسئلة ينبغي الإجابة عنها: أين قتلة الرئيس رفيق الحريري ومذكّرات المحكمة الدولية الخاصّة بلبنان؟ ومن يتعقّب وينفّذ المذكّرات بحقّ مَن صدر بحقّهم عقوبات أميركية وجوائز لاعتقالهم ومن يحمي العابثين والمهدّدين لأمن المملكة العربية السعودية؟ وفي أيّ جحور يُقيمون؟ وماذا عن الكيفيّة والاستنسابية في التحقيق بجريمة تفجير مرفأ بيروت؟

إخفاء هنيبعل القذافي بلا أيّ سند قانوني والادّعاء أنّ ذلك يعيد سماحة الإمام المُغيّب موسى الصدر ورفيقيه يفيد في ما يفيد بأنّنا أمام تبادل رهائن لا وجود له. ومثل هذا الادّعاء فيه ما فيه من خداع لا يسندهُ إلا سذاجة تصديقه.

شيءٌ واحد لا يرقى إليه الشكّ، وهو أنّ هنيبعل القذافي رهينة ما دام مختطَفاً طلباً للثأر على معناه الرثّ والهجين، وما دامت المحاكمة ممنوعة عنه وفقاً لِما تنصّ عليه ما كنّا نسمّيه “القانون” و”القضاء العادل والمستقلّ”.

الأمن “أجير” عند “ربّ عمل سياسيّ”

انتهاك حقّ الرجل، فضلاً عن تعذيبه ورفض الاستماع إليه، يقول الكثير عن هذا البلد ورجالاته وتردّيهم أوّلاً وثانياً وثالثاً. الكارثة أنّ اللبنانيين ما عادوا يشاهدون أحوال بلدهم ولا وقائع انهياره المُتمادية وانتقاله إلى الجانب المُظلم من العالم.

والحقّ أنّ ما يحصل اليوم يقول إنّ الدولة تحطّمت بسلطاتها الثلاث، وما يُزعم عن “استقلاليّة وفصل سلطات” صار للتندّر وأُلحِقَ بروايات كثيرة عن ماضٍ كان مُشرقاً لو أنّه مضى قُدُماً. هكذا صار “الأمن” عندنا وعلى تعدّد مسمّياته “أجيراً” و”مستخدَماً” عند “ربّ عمل سياسيّ”.

الكسل اللبناني العامّ مُعبَّراً عنه بسكوت عميق عن هدم الدولة وأصلها الدستوري والقانوني والسياسي يُفسّر الكثير عن لبنان الذي صار “صالون استقبال” لعسكريّي الحشد الشعبي والحوثيّين وحركتَيْ الجهاد الإسلامي وحماس. هكذا أراد الممسكون بأعنّة السلطة. وكان لهم ما أرادوا. فلا شيء عند هؤلاء يبيعونه سوى الانهيار.

لبنان الجديد: الخطف بالخطف

لكلّ جريمة عقاب، إلا في لبنان: هنا لكلّ جريمة جريمة. وكأنّ هذا الوطن الصغير مسرح لتطبيق شريعة حمورابي في القرن الواحد والعشرين: العين بالعين والسنّ بالسنّ.

هكذا يُختطَف الإمام موسى الصدر ورفيقاه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين، في ليبيا عام 1978، وردّاً على ذلك يتمّ اختطاف هنيبعل، النجل الرابع للعقيد معمّر القذافي، من سوريا عام 2015. الخطف بالخطف والتغييب بالتغييب. هذا هو لبنان الجديد، وإلى هذا انتهت قضية الإمام موسى الصدر.

فعلى مبعدة أيام من الاحتفال بذكرى مرور أربعة وأربعين عاماً على تغييب السيّد موسى الصدر، رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان ومؤسّسه ومنشئ حركة المحرومين أمل، في العاصمة الليبية طرابلس، بُعيد هبوط طائرته فيها، خصّ هنيبعل القذافي قناة الحدث بتصريح نفى فيه وجود ما يؤكّد اختفاء الصدر في ليبيا، مؤكّداً اختفاءه في العاصمة الإيطالية روما.

وأشار هنيبعل في تصريحه هذا إلى أنّ عبد السلام جلّود كان المسؤول عن الملف اللبناني خلال فترة اختفاء الصدر، وهو الذي استقبله فور وصوله إلى العاصمة الليبية، وكان والده في سرت حينها ولم يلتقِ به. وأكّد أنّه لا يملك أيّ معلومات لها علاقة بالقضيّة ليقدّمها.

لم يستجب أحد لمناشدة هنيبعل القذافي إنشاء لجنة تحقيق في مجلس النواب، ومحاكمته علناً بحضور ممثّلين عن المجتمع الدولي والمنظّمات الحقوقية، للوقوف على قضيّته ووضعه الصحّي والجسدي

للقضاء وجوه كثيرة

هنيبعل القذافي رهينة اعتقال سياسي وابتزاز، فهو لم يحاكَم منذ سبع سنوات. والرجل المولود عام 1975، أي قبل ثلاث سنوات من إخفاء الإمام الصدر، موقوف في أقبية سجون أمنيّة منذ أواخر العام 2015، بُعيد اختطافه من سوريا واقتياده إلى لبنان على يد مجموعة (وصفهم هو بالمجرمين في رسالته الأخيرة)، مكوّنة من علي وحسين وحسن يعقوب، عنوةً، وعبر معبر غير شرعيّ. وأضاف أنّهم قيّدوا يديه ورجليه ووضعوه في بيت رجل يُدعى جعفر حيث عذّبوه وحقّقوا معه محاولين الحصول على معلومات في شأن اختطاف الصدر، ولمّا لم يتوصّلوا إلى أيّ نتيجة تُذكر، طالبوه بدفع أموال للإفراج عنه.

أكّد القذافي أنّ السلطات اللبنانية تواصلت مع خاطفيه حيث كانوا، وهو ما يدفعه للربط بين الخاطفين وبين أطراف في الدولة اللبنانية التي أصدرت السلطات فيها مذكّرة توقيف في حقّه بُعيد تسلّمه منهم. ويقول ياسر حسن محامي هنيبعل إنّه لم يعثر في ملفّات قضية الأخير على أيّة معلومة تفيد بكيفيّة تسليمه للدولة اللبنانية. والخاطفون ليسوا وحدهم من حقّقوا معه. إذ زاره لاحقاً رجل في زنزانته قال إنّه قاضٍ، وحقّق معه في قضية اختفاء الإمام الصدر وخرج بعدها إلى الإعلام ناسباً إلى “الرهينة” ما لم يقُله، وهذا ما أكّده هنيبعل في رسالته الأخيرة.

كان سبق رسالة هنيبعل الأخيرة ظهوره قبل أعوام في تسجيل بُعيد اختطافه وعلامات الضرب وآثاره جليّة على وجهه وعينيه، وشكا في تصريحه الأخير من معاناته الناتجة عن ضربه وظروف اعتقاله غير الإنسانية.

لم يستجب أحد لمناشدة هنيبعل القذافي إنشاء لجنة تحقيق في مجلس النواب، ومحاكمته علناً بحضور ممثّلين عن المجتمع الدولي والمنظّمات الحقوقية، للوقوف على قضيّته ووضعه الصحّي والجسدي. فعل أكثر من ذلك، فقد ناشد المرجع الشيعي الأعلى في العراق السيد علي السيستاني، والسيد مقتدى الصدر، للتدخّل في قضيّته “لأنّ ما يجري في حقّه يجري باسم الشيعة” على ما قال، وطالبهما وغيرهما بالإعلان عن موقف في هذا الشأن.

لبنان التضليل

سأل هنيبعل في رسالته الأخيرة: هل يمكن أن يقبل لبنان الرسمي ببقاء إنسان قيد الحبس مدّة سبع سنوات من دون محاكمة؟ سؤاله هذا يضع الإصبع على جراحنا الوطنية كافّةً: أين كان لبنان؟ وأين صار؟

إقرأ أيضاً: ابن القذّافي لا يزال حيّاً ويريد أن يستعيد ليبيا

ولعلّ خير جواب على سؤال القذافي الابن، هو ما أورده في تصريحه الأخير: ثمّة من يمارس التضليل المتعمّد على أسرة موسى الصدر وعلى حركة أمل وعلى الدولة اللبنانية وعلى الشعب اللبناني. الذي يمارس التضليل يا هنيبعل، هو لبنان الرسمي، لا غير. فمن استدرجك وخطفك وانتهك حدود لبنان وحدود سوريا وسيادتنا والقضاء… وربّما القدر، إنّما فعل ما فعل بعدما فرغ من جميعها.

وسواء كان الزعيم الليبي الراحل معمّر القذافي مسؤولاً بالفعل عن اختفاء الصدر، ولا سيّما مع ما قيل عن مشاجرة حدثت بينهما عندما كان الأخير في ليبيا، أم لا، فإنّ القناعة في الأوساط الحقوقية أنّه لا ينبغي أن يتمّ تحميل هنيبعل مسؤولية جريمة حصلت وكان عمره عامين وقت ارتكابها.

مواضيع ذات صلة

لمحة سريعة عن “مواقف” أحمد الشّرع

دمشق   أكثر من شخصية يتشكّل منها أحمد الشرع. هو أبو محمد الجولاني مؤسّس جبهة النصرة. وهو “موحّد الفصائل العسكرية”، ومطلق إدارة سياسية جديدة في…

الجولانيّ: من “الموصليّ” الرّاديكاليّ إلى “الشّرع” البراغماتيّ

خطفَ الأنظار زعيم “هيئة تحرير الشّام” (“جبهة النّصرة” سابقاً) أبو محمّد الجولاني. منذ انطلاق العمليّة العسكريّة في حلب وإدلب وحماة وصولاً إلى حمص. تصدّرَ اسم…

حكاية دقدوق: من السّجن في العراق إلى الاغتيال في دمشق! (1/2)

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…