في سياق مناقشة الاستراتيجية الدفاعية الوطنية التي طرحها حزب الله في العام 2006، وأعاد موقع “العهد” طرحها قبل الانتخابات النيابية، تتطرّق هذه الحلقة، السادسة في سلسلة مستمرّة، إلى توثيق المرحلة الأخيرة ممّا اصطُلح على تسميته “الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية الوطنيّة” في 2006. السِمة الأهمّ لهذه المرحلة كانت تنصّل حزب الله وحلفائه من التوقيع على اتّفاق بعبدا في 2012. وهو تنصّل فرضه ميزان قوى مستجدّ في سوريا وتهديد أكيد بسقوط النظام. بدا جليّاً لطهران أنّ سقوط النظام سيهدّد حكماً مشروع تصدير الثورة ومستقبل نفوذها الإقليمي. وبالتوازي مع تدخّل الحرس الثوري بفصائله كافّة، ومنها حزب الله، في سوريا، أضحت معادلة “جيش وشعب ومقاومة” التي أرساها اتّفاق الدوحة دون القدرة على تغطية الدور الجديد للحزب، ومعها أصبحت منصّة الحوار اللبناني خارج الصلاحيّة.
قد يكون إعلان بعبدا أهمّ ما توصّلت إليه طاولة الحوار، وربّما إنجازها الوحيد الذي تحقّق من دون أن يدرك موقّعوه أنّهم كانوا في سباق مع مسلسل من التحوّلات اليوميّة فرضتها المعارك الدائرة بين الجيش السوري وفصائل المعارضة في سوريا. فربّما اعتبر حزب الله حينها أنّ بنود هذا الإعلان سيخضع تفسيرها لاعتبارات ميزان القوى الذي أرسته نتائج عدوان 2006 وبنود اتّفاق الدوحة، وبذلك فإنّ مفاعيله ستبقى رهناً بالحوار العقيم الذي انطلق منذ ستّ سنوات حول سلاح الحزب الممعن في تعطيل الحياة السياسية وفي تدجين القيادات، وهو من تمرّس بدوره في التعايش مع القرار الدولي 1701. لكنّ الميدان السوري كان يرسل مؤشّرات معاكسة تلقّفتها طهران فكان لا بدّ من تغيير قواعد الاشتباك المعروفة لتدارك المخاطر على مصالحها في لبنان وسوريا.
اعتمد حزب الله خلال تلك الفترة ثلاثة مسارات لاستنزاف قدرات الدولة السياسية والأمنية وإضعاف مواقع القرار فيها بإغراقها في شتّى أنواع الأزمات
خمس جلسات عاشتها طاولة الحوار بعد صدور إعلان بعبدا في جلسة 11 حزيران 2012، وذلك في 25 حزيران 2012، 16 آب 2012، وجلسة 20 أيلول 2012 التي قدّم خلالها الرئيس ميشال سليمان تصوّره للاستراتيجية الدفاعية الذي اعتبرته الهيئة منطلقاً صالحاً للمناقشة، ثمّ استؤنف الحوار في العام 2014 في جلستَيْ 31 آذار و5 أيار 2014.
فما هي الظروف التي واكبت الحوار؟
اعتمد حزب الله خلال تلك الفترة ثلاثة مسارات لاستنزاف قدرات الدولة السياسية والأمنية وإضعاف مواقع القرار فيها بإغراقها في شتّى أنواع الأزمات:
– المسار الأوّل، وهو المسار السياسي وقد تجلّى بعرقلة العمل الحكومي الذي بدأ بأزمات التشكيل وإطالة أمد الفراغ الحكومي ولم ينتهِ بتعقيد مسار اتّخاذ القرارات أو بإسقاط الحكومات. ولا بدّ من التذكير بإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري في 12 كانون الثاني 2011، وأزمة تشكيل الحكومة التي امتدّت لأحد عشر شهراً بعد استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في 23 آذار 2013 على خلفيّة الفشل في تشكيل هيئة الإشراف على الانتخابات النيابية والتعيينات الأمنيّة.
– المسار الثاني، وهو المسار الأمنيّ المواكب للحوار الذي تصدّرته جولات الاقتتال الدامي في طرابلس بين جبل محسن، حيث يعيش مؤيّدون للنظام السوري وينتظمون ضمن ميليشيا مسلّحة تحت لواء الحزب العربي الديمقراطي الموالي لحزب الله، وباب التبّانة حيث الغالبية السكانية المؤيّدة للمعارضة السورية التي عانت شتّى أنواع التنكيل والإفقار أثناء فترة الهيمنة السورية على لبنان منذ العام 1976. هذا الاقتتال بجولاته العشرين الذي امتدّ من منتصف العام 2011 حتى نيسان 2014 وأودى بحياة المئات من الشباب اللبناني واستنزف القوى الأمنيّة، لم يكن أحد أوجه الصراع المحلّي القائم بين فريقَيْ 14 و8 آذار، بل كان التعبير الواضح عن اعتداءات النظام السوري على الاستقرار وعلى الدولة في لبنان.
اتّخذ المسار الأمني المواكب للحوار مظهراً إرهابياً مع توقيف الوزير السابق ومستشار الرئيس السوري للشؤون الفرنسية ميشال سماحة في 9 أيلول 2012 من قِبل شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي وإدانته بأدلّة دامغة واعترافات علنيّة بنقل متفجّرات من سوريا والتخطيط لتنفيذ عمليات إرهابية في شمال لبنان بالتنسيق مع مدير مكتب الأمن الوطني في سوريا اللواء علي مملوك. وكيف لا يمكن الربط بين توقيف سماحة واغتيال رئيس شعبة المعلومات اللواء الشهيد وسام الحسن في 19 كانون الأول 2012؟
في 23 آب عام 2013، هزّ مدينة طرابلس انفجاران متتاليان في مسجدَيْ التقوى والسلام نتيجة انفجار سيّارتين مفخّختين، وهو ما أدّى إلى سقوط 47 قتيلاً، وأكثر من 500 جريح، وقد ادّعى القضاء على خمسة أشخاص بينهم رئيس حركة التوحيد الإسلامية المحسوبة على النظام السوري هاشم منقارة، ومسؤول الحركة أحمد غريب، والنقيب في المخابرات السورية محمد علي.
يمكن إدراج محاولتَيْ اغتيال الوزير السابق بطرس حرب في 5 تموز 2012 واغتيال الوزير السابق محمد شطح في 27 آذار 2013 في سياق الضغوط الأمنيّة على حرّية القرار السياسي في لبنان.
– المسار الثالث، المسار الميداني العابر للحدود:
انطلق هذا المسار بعد سنة تقريباً على اندلاع الحرب في سوريا حين بدأت مؤشّرات تداعي النظام في سوريا والمخاوف من انطلاق زمن جديد في أيّ لحظة. وصلت كتائب المعارضة إلى حي الميدان التاريخي في دمشق، وأعلن الجيش السوري الحر في 15 تموز 2012 إطلاق معركة بركان دمشق للسيطرة على العاصمة.
استدعى المرشد السيّد علي خامنئي الأمين العامّ لحزب الله ومجموعة من القياديين إلى طهران. يروي إسماعيل كوثري، النائب السابق في مجلس الشورى الإسلامي في إيران ونائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية والأمن القومي فيه، قصّة هذا اللقاء، فيقول على موقعه الشخصي ولاحقاً في مقابلة مع وكالة فارس الإيرانية إنّ نصر الله قال لخامنئي إنّه يرى أنّ الأمور تتّجه نحو النهاية بالنسبة إلى النظام في دمشق، وعندئذٍ ردّ خامنئي قائلاً: “إسمعوا ما أقوله جيّداً، إذهبوا وضعوا برنامجاً وخطّطوا له جيّداً وليكن على رأس أولويّاته بقاء بشار الأسد والحفاظ على سوريا”.
توسيع دور الحزب في سوريا
وفق مذكّرات الجنرال همداني، فإنّ “المرشد أمر بأن تكون السياسات الكليّة لمحور المقاومة وسوريا تحت إشراف الأمين العام للحزب. ولذلك كان يدير كلّ الأمور المتعلّقة بسورية بأمر مباشر من خامنئي. وقد تزامن ذلك مع ظهور قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني الذي وصل إلى العاصمة السورية، وبدأت عمليّات التنسيق بهدف ضرب الزخم المتصاعد لدى مسلّحي المعارضة وإعادة المعنويات للجيش السوري وانطلاق عملية التمهيد للمرحلة التي ستبدأ بعد عام تقريباً، مرحلة حزب الله في سوريا.
بالمتابعة لمسار التدخّل العسكري للحزب، فقد بدأ بمساندة الجيش السوري لاستعادة دمشق، ثمّ أخذ دوره يتصاعد مع تصاعد الأعمال الحربية بين النظام والمعارضة، فكانت “معركة القصير” عام 2013، وقد جاءت بمنزلة تأكيد أو تدشين رسميّ لحرب حزب الله المعلنة إلى جانب نظام الرئيس الأسد وضدّ المعارضين السوريّين.
في ظلّ ذلك الانغماس الكلّي في الحرب السورية لم يعد الالتزام بإعلان بعبدا ممكناً، ولا سيّما البند 12 الذي نصّ على “تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية وتجنيبه الانعكاسات السلبية للتوتّرات والأزمات الإقليمية”، والبند 13 الذي نصّ على “الحرص على ضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانية السورية وعدم السماح بإقامة منطقة عازلة في لبنان وباستعمال لبنان مقرّاً أو ممرّاً أو منطلقاً لتهريب السلاح والمسلّحين”. كذلك لم يكن أركان الممانعة، يتقدّمهم حزب الله، جاهزين لجلد الذات، فآثروا الخروج من الحوار والتنصّل من الإعلان بإنكار التوقيع عليه أو بالقول إنّه تعرّض لسلاح المقاومة. ولم تكن الجلستان اللتان عُقدتا خلال العام 2014 سوى انهيار انسيابيّ لمسار الحوار ومواكبة غلب عليها الطابع البروتوكولي لخروج الرئيس ميشال سليمان من القصر الجمهوري.
مقتطف من التصوّر الذي قدّمه الرئيس ميشال سليمان للاستراتيجية الدفاعية الوطنية في جلسة الحوار بتاريخ 20 أيلول 2012 (بتصرّف):
أوّلاً، المخاطر:
1- العدوّ الإسرائيلي الذي يحتلّ مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وينتهك السيادة اللبنانية ويطمع بثروات لبنان النفطية والمائية.
2- الإرهاب.
3- السلاح المنتشر عشوائيّاً.
– ثانياً، مجابهة المخاطر:
من خلال تعزيز قدرات الدولة وإنماء طاقاتها لمقاومة أيّ اعتداء على أرض الوطن وضمان سيادة الدولة وسلامة المواطنين. وتتمثّل هذه القدرات بالطاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية والدبلوماسية والإعلامية والتربوية التي يجب استخدامها في استراتيجية متكاملة عمادها الجيش اللبناني.
ثالثاً، مرتكزات الاستراتيجية:
أ- قانون الدفاع الوطني، ولا سيّما المادة الأولى منه، واتّفاقية الهدنة الموقّعة في 23 آذار 1949، ووثيقة الوفاق الوطني – الفصل الثالث (تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي).
ب- السير بعملية ترسيم الحدود الدولية للبنان والمشار إليها في القرار 1701.
ج- نشر الجيش اللبناني في منطقة الحدود وتدعيم وجود وعمل قوات الأمم المتّحدة في الجنوب والنقل التدريجي لعدد من مهمّات اليونيفيل إلى الجيش اللبناني.
د- تعزيز القدرة العسكريّة عن طريق:
1- إقرار قانون برنامج متوسّط الأمد لتسليح وتجهيز وتدريب الجيش اللبناني، وتخصيصه بالموارد الكافية لتطوير قدراته البشرية والعسكرية، لتمكينه من وضع خطة للدفاع عن الأراضي والأجواء والمياه اللبنانية.
2- تزويد الجيش بالقوّة الملائمة للقيام بمهمّاته، والتوافق على الأُطر والآليّات المناسبة لاستعمال سلاح المقاومة ولتحديد إمرته ولإقرار وضعه بتصرّف الجيش المولج حصراً باستعمال عناصر القوّة، مع التأكيد على أنّ عمل المقاومة لا يبدأ إلا بعد الاحتلال. وذلك استناداً للمادة 65 من الدستور ولقانون الدفاع الوطني.
3- اتّخــاذ كلّ الخطوات السياسية لبناء مؤسسات الدولة وتطبيق إعلان بعبدا الصادر بتاريخ 11/6/2012.
في الخامس من أيار 2014 انتهت طاولة الحوار التي لم تلامس موضوع الاستراتيجية الدفاعية الوطنية. ذهب الحزب للقتال في سوريا ولم يعدْ حتى الآن مسقطاً معه معادلته الشهيرة “الجيش والشعب والمقاومة”، فليس في لبنان من جيش يُشارك ولا من شعب يُسأل أين ذهبت المقاومة!
ما هي أسباب الفشل؟
أسباب الفشل في تحقيق أيّ تقدّم هي في الاعتقاد أنّ الدفاع عن لبنان هو معادلة سياسية خاضعة لمنطق الأقليّة والأكثريّة، أو لمنطق القوّة القاهرة، سواء من داخل الحدود أو من خارجها، وهي في عدم القدرة على تحويل هذه المسألة إلى قضية إجماع لبناني تتضافر فيه كلّ الجهود لحماية لبنان والدفاع عن مصالحه العليا.
إقرأ أيضاً: سلاح الحزب بين اتّفاق الدوحة وإعلان بعبدا
لا يمكن الدفاع عن لبنان أو تحقيق سيادته بمنطق المواجهة بين أبنائه وأحزابه وطوائفه، كما لا يمكن أن يتفرّد أو يدّعي أيّ فريق لبناني حقّه في تصدُّر سواه في أيّ مسألة وطنية، فتصبح الاستراتيجية الدفاعية المنشودة هي استراتيجبة التسلّط على الوطن واستراتيجية التفكّك والانهيار واستراتيجية البحث عن أسباب الاقتتال والتشرذم.
ألم يحن الوقت لكي يعيد حزب الله قراءة تجربته في ضوء المخاطر المترتّبة على تحالفاته وثوابته الأيديولوجية والعسكرية والجيوسياسية، فهل يجرؤ؟
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والاستشارات