لم يحدث مرّة أن حصلت انتخابات رئاسية من دون أرجحيّات خارجية. هذا التسيُّد الخارجي، الذي كان يلاقي داخلاً ما طائفياً أو سياسياً، أنهك على الدوام الوطنية السياسية اللبنانية، فحوَّل لبنان سيرةً ومساراً على الضدّ من الفكرة التي نهض عليها في لحظات التأسيس الأولى.
نهض متن لبنان الكبير في البدايات المُؤسِّسة على وطنيّة هي محصّلة صيغة لمشروع لبناني حمله البطريرك الياس الحويك إلى باريس عام 1920. كان قوام المشروع المناداة بـ “إحلال الوطنية السياسيّة محلّ الوطنية الدينية”. وقد أدرك الحويك فرادة مشروعه في الشرق، وهو ما ذكره في خطابه إلى رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك جورج كليمنصو، بقوله: “للمرّة الأولى في الشرق هناك مَن يطالب بإحلال الوطنية السياسية محلّ الوطنية الدينية”.
دائماً كانت رئاسة الجمهورية اللبنانية مُشبعة بتدخّل خارجٍ ما وتسيُّده على الداخل وأرجحيّاته المحلّية. هذا حصل منذ بشارة الخوري، ويستمرّ مع ميشال عون الآن. على الدوام كان استحقاق الرئاسة الأولى افتتاحاً أو تعبيراً لأزمة إقليمية دولية على غموض وعموميّة هذه المعادلة أو هذا المعنى. لكنّها في الأحوال كلّها كانت تشي بأزمة السياسة عندنا على معنيَيْ الفكرة والممارسة. وهذا ما جعل منصّة الرئاسة الأولى انعكاساً مستمرّاً لانعقاد تناقضات الداخل على الخارج، ولم ينجُ منه اللبنانيون طوائفَ وقوىً سياسية وأفراداً.
احتدام الوضع اللبناني الداخلي وانعدام الأفق السياسي في زمن فرنجية تُرجِمت أحوالهما وأهوالهما بين فريقين: الأوّل عنوانه “الجبهة اللبنانية” الآخر عنوانه “الحركة الوطنية”
الخارج وكثرته
لقد سبق التحكّمَ الإيراني بلبنان منذ العام 2005، أشكالٌ فجّة من إدارات خارجية تراوحت بين مزاعم التحديث وادّعاءات العروبة وصولاً إلى كليشيهات التحرير الذي لا يني يُنتج ذاته منذ زمن جمال عبد الناصر فإقامة منظمة التحرير وصولاً إلى “حزب الله” الذي يريد أن يحرّر الأرض ومَن عليها بنصوص سماويّة.
كان البدء من بريطانيا التي كاسرت فرنسا بالرئيس بشارة الخوري، وسجّلت صعودها الأوضح مع كميل شمعون. اندلاع ما اصطُلِحَ على تسميته “ثورة 1958” أنهى الفعّالية البريطانية، مُفتتحاً الطريق لدخول أميركي وازن بقي ويستمرّ. آنذاك كان “النصر” حليف “محور الناصريّة” بمواجهة “حلف بغداد”.
الخواء البريطاني ملأه سريعاً التدخّل الأميركي مقايضاً الزعيم الناصري في القاهرة، فكانت تجلّياته في تبوّؤ فؤاد شهاب. الانزعاج المصري من الأخير دفعه إلى العزوف على ما يقول الرئيس الراحل صائب سلام في مذكّراته. هكذا تمّ اختيار شارل حلو لرئاسة الجمهورية لاستئناف التفاهم الأميركي المصري. أسوأ ما لازم سيرة الرجل هو “اتفاق القاهرة” الذي شرَّع “السلاح الفلسطيني”، فكان أن فقدت الدولة قرارها الحصري بـ ” السلم والحرب”. ما حصل ماضياً يتشابه مع الحاضر في ظلّ “سلاح حزب الله”. لكنّ ذلك لا يعني التماثل في النتائج، لاختلاف جوهري بين القوّتَيْن. مهمّة تجميل الاتفاق تولّاها وزير الخارجية الراحل فؤاد بطرس معتبراً أنّه أرجأ وقوع الحرب ورَحَّلهَا إلى سنة 1974. هذا التجميل لا يُغيِّر من الحقيقة: انفجار لبنان.
الغالب من التحوّلات التي قلَبَتْ أحوال لبنان جاء تعبيراً وانعكاساً للحرب الباردة، ولبنان إحدى ساحاتها. في كلّ هذا، كانت فرنسا ادّعاءً وما تزال. اشتغل حضورها على رابطة “الأمّ الحنون” بأبنائها الموارنة من معارضي الرئيس “الدستوري” الأوّل بعد الاستقلال والذين يتفرّع جذرهم إلى اتّجاهين: الأوّل محوره الكراهية للسلطنة العثمانية بتعبيرها الإسلامي. أمّا الثاني فقد رعاه إميل إدّه الفرنسي الهوى وحتى الهويّة.
لم يحِد لبنان يوماً عن كونه مرآة الخارج وأحد تعبيراته. هذا لا يضيف عليه وإليه، بل ينتقص من فكرة الدولة الوطنية بشكل قاسٍ. والتوازن الذي أحدثه التفاهم الأميركي الناصري عكس استقراراً هشّاً نهض على سياسة داخلية تُرك للّبنانيين أمر تدبّرها، في حين أنّ سياسات لبنان الخارجية كانت تُصنع وتُشتغل من خارجه. لم يُعمّر هذا التفاهم طويلاً، فسرعان ما تصدّع بعد انهيار الناصريّة إثر هزيمة العام 1967 التي تفتّق عقل سياسي على تسميتها “نكسة”.
على هذه الوقائع صعد سليمان فرنجية في العام 1970. دعك من “مزاح الصوت الواحد”. ذلك أنّ انتخابه عكس موازين جديدة حصلت قبل سنتين على انتخابه تمثّلت بانتخابات نيابية أسقطت مريدي فؤاد شهاب، ورفعت “حلفاً” مَثّل خليطاً لأهواء فرنسية بريطانية أميركية كابد الكثير في الصراع مع الوجود الفلسطيني المسلّح في البلد بعد أحداث أيلول الأسود في المملكة الأردنية الهاشمية. هذا كان تعبيراً واضحاً عن مرحلة ما بعد عبد الناصر.
دائماً كانت رئاسة الجمهورية اللبنانية مُشبعة بتدخّل خارجٍ ما وتسيُّده على الداخل وأرجحيّاته المحلّية. هذا حصل منذ بشارة الخوري، ويستمرّ مع ميشال عون الآن
احتدام الوضع اللبناني الداخلي وانعدام الأفق السياسي في زمن فرنجية تُرجِمت أحوالهما وأهوالهما بين فريقين: الأوّل عنوانه “الجبهة اللبنانية” بما هي تعبير عن “المارونية السياسية” وتصلّبها حدّ وضع البلد أمام استحالة سياسية لإجراء إصلاحات دستورية طالب بها مسلمون بصفة “يسار”. الآخر عنوانه “الحركة الوطنية” التي استسهلت التغيير بالسلاح عوضاً عن السياسة وما تتيحه من أدوات. استسهالها الأفظع كان بالانخراط والاستعانة بالسلاح الفلسطيني واعتبار لبنان “ساحةً ثورية”. المهول في ممارستها أنّها أمعنت في إسقاط الدولة الوطنية فجعلت لبنان منصّةً “لتغيير في العالم العربي” ضدّ ما سمّته “رجعيّات” بقيت وما تزال مُستمرّة.
هكذا انفجر لبنان وراح اللبنانيون يميناً ويساراً، مسيحيّين ومسلمين، يتقاتلون على كلّ شيء بمدد خارجي تجلّى بتدخّلين فظّين: سوريا وإسرائيل. هكذا استحال الحلّ. صار اللبنانيون يرسمون بالدم والكراهية “معايير الوطنية”. كان العنف المتبادل شديد الصلة بخارجٍ ما راح يتنقّل من بيروت ليجوب عواصم العالم، وبالطموحات الإقليمية عند دمشق وتل أبيب. وقد تُرجِم الاحتراب بين هاتين سياسيّاً بترسيم بينهما تقاسما فيه البلد. أمّا الجغرافيا اللبنانية فقد تبعثرت جمهوريّات كثيرة. وأوضح أمثلتها انشطار بيروت إلى شرقية وغربية. وراحت “الوطنية اللبنانية” ومعاييرها تتدفّق عبر اصطفاف قواها مع هذا المحور أو ذاك. وعلى هذين الاحتدام والتوازن العسكري السياسي تمّ انتخاب إلياس سركيس عام 1976.
الصراعات وتدخل الدول
أدار الياس سركيس الجمهورية الممزّقة تحت صراع محلّي، معطوفاً على آخر دولي ملتهب. ولأنّ أوهام البنادق أكثر إقناعاً سوف يمضي العقل اللبناني بانكفائه عن التفكير موالياً هذا، وتابعاً لذاك، مع بقاء الخرائط على انقسامَيْها الديمغرافي والجغرافي. شكّل هذا مُجتمعاً طوراً من أطوار التقلّبات تحت وطأة قضايا حارّة من طبيعة غرائزيّة كانت تزعم لنفسها العاطفة والأخلاق في الذهاب إلى كلّ الاتجاهات وأحدها إسرائيل. وبالقدر الذي استسهلت فيه “الحركة الوطنية” مباشرة التغيير بالسلاح والذوبان في المشروع الفلسطيني، فعلت “الجبهة اللبنانية” مع إسرائيل تسليحاً وتمويلاً وتدريباً وسياسات.
كثيرة هي العناوين التي جرى استخدامها في المطاحنة اللبنانية اللبنانية. وكلّها من النوع الأيديولوجي. استُعملت العناوين المتعدّدة في إنتاج “وطنيّة” كانت مشوبة على الدوام، ومن الطرفين، بـ”عيب” استدعاء الخارج للاستقواء به على الداخل. لكن كان الطرفان الإسرائيلي والسوري يبحث كلّ منهما عن نفوذه في بلد “الخاصرة الرخوة” للدولتين. كان الطرفان وبالمعنى الحرفيّ مهجوسان بالسيطرة على لبنان. التغيير الذي طرأ وبدّل من الأوزان والأحجام كان يوم اجتاح العدوّ الإسرائيلي بيروت مُنزِلاً هزيمةً ساحقةً بـ”منظمة التحرير الفلسطينية” ومعها “الحركة الوطنية”.. وسوريا حضوراً ونفوذاً.
إقرأ أيضاً: دستور جبران 2022: “الثاني في طائفته” رئيساً
كانت أوضح صور انتهاء الحقبة الفلسطينية وهزيمة المسلمين بمسمّى “الحركة الوطنية” هي انتخاب بشير الجميّل الذي حمّل البلد بوصوله إلى الرئاسة ما لا يحتمل أيضاً. أكثر من ذلك، فقد شكّل هذا الوصول إلى سدّة الرئاسة الأولى إعلاناً فعليّاً لانتقال لبنان برمّته من ساحة تقاسم نفوذ بين معسكرَيْ الحرب الباردة إلى الغرب. كانت وطأة ذلك ثقيلة على المعسكر السوفياتي الذي قرّر الردّ يما يجيده ويحترفه: الاغتيال. والحقّ أنّ اغتياله شكّل مفصلاً أساسيّاً في تاريخ البلد. ثمّة الكثير عن خياراته التي لم تكن صائبة. ويؤخذ عليه جموح لم يكن مناسباً للزمنين اللبناني والدولي. على أيّ حال، فقد قضى دافعاً ثمن أحلامه وفيها ما فيها من أحلام لبنانية صافية، أقلّها حلمٌ ببلد مستقرّ ومزدهر.
في الجزء الثاني والأخير غداً:
من بشير إلى عون.. سرديّة مارونيّة واحدة