بعد توقيف دام 6 أيام، خرج من السجن بعد ظهر أمس “المودع الموقوف”، بسام الحاج حسين. خرج مظفّراً بـ35 ألف دولار استطاع أن ينتزعها من وديعته في “فدرال بنك” بعد عملية بوليسية استغرقت ساعات يوم الخميس الفائت، وتخلّلها حجز رهائن ومفاوضات ووعود بعدم التوقيف، ثمّ خرج بعد 6 أيام في نظارة فرع المعلومات في بيروت، بسجلّ عدليّ ممهورٍ بـ”لا حكم عليه”، من دون أن نعرف ماذا فعل القضاء تجاه وديعته المحتجزة كسائر ودائع المودعين المعلّقة منذ ما يقارب 3 سنوات.
سلوك القضاء تجاه هذا الملفّ يطرح الكثير من الأسئلة: هل هو فعلاً “حَكَمٌ” بين المصارف والمودعين؟ أم “شيخ صلح” تقف مهامه عند حدود “حلّوها يا شباب”؟ هل هو طرف إلى جانب السلطة السياسية في التسويف والمماطلة وتقاذف المسؤوليات؟ أم هو مجرّد خزنة “أرشيف” لتكديس الدعاوى المقامة ضد المصارف من المودعين؟
المعلومات تشير إلى أنّ “فدرال بنك” أسقط الدعوى التي رفعها على عميله بسّام بتهمة استخدام السلاح وحجز الرهائن، فخرج الأخير أمس بلا أيّ ادّعاء أو إشارة أو حقّ عام أو شخصيّ
لو كان القضاء جدياً في عمله، لألزم المصرف بدفع وديعة الحاج حسين كاملة، ولحاكمه بعد ذلك بتهمة حمل السلاح واحتجاز الرهائن، لكن “التخريجة” التي تمّت تظهر أنّ ما حصل يحاكي المثل الشعبي القائل: “ضربني وبكى… سبقني واشتكى”، طالما أنّ المصرف هو من ادّعى، وهو من أسقط الحقّ من باب “مكارم الأخلاق” بغية إطلاق سراح الحاج حسين، الذي ينقل عنه من التقوه بعد إطلاق سراحه أمس، أنّه لن يستكين وسيعود إلى المصرف مجدداً من أجل المطالبة بالـ175 ألف دولار المتبقية في رصيده… فما سيكون موقف القضاء في هذه الحالة؟
“حلّوها يا شباب” هي لبّ الأزمة. هي الشعار الذي يفتح الباب واسعاً أمام الاستنسابية بين مودع نافذ ومودع لا قوة له ولا حول… والأزمة ستبقى مستمرة طالما أن القضاء صامت.
أما الدولة التي تقف خلف القضاء وخلف الأجهزة الأمنية فماذا فعلت من أجل بسام الحاج حسين وغيره من المودعين؟ أين القوانين التي ستعيد هيلكة المصارف؟ ولماذا تأخّر قانون “الكابيتال كونترول” ثلاث سنوات، ريثما خسر المودعون جنى أعمارهم على سعر 3900 و8000، وعلى بيع شيكات بقيمة وصلت إلى 13% فقط من أصل الوديعة؟ وأين الخطة الإنقاذية التي ودعدتنا بها الحكومات المتعاقبة على زمن الانهيار؟ وأين التفاهم مع صندوق النقد الدولي؟
لا يرى المودعون الدولة إلا حين يخرجون شاهرين سيوف الفقر و”العَوَز” على المصارف. ولا يرونها إلا في القوى الأمنية التي تقف بوجههم وفي القضاء الذي يحمي الدولة والحكومات المتعاقبة ومصرف لبنان والمصارف.
المدّة الفاصلة بين حادثة عبدالله الساعي في جب جنّين مطلع السنة وحادثة بسام الحاج حسين هي نحو 8 أشهر، وهذا يؤكّد أنّ بال المودعين اللبنانيين طويل
المودع – المسلّح
إذاً، المعلومات تشير إلى أنّ “فدرال بنك” أسقط الدعوى التي رفعها على عميله بسّام بتهمة استخدام السلاح وحجز الرهائن، فخرج الأخير أمس بلا أيّ ادّعاء أو إشارة أو حقّ عام أو شخصيّ، وإلى أنّ الحاج حسين حصل على الـ35 ألف دولار من أصل وديعته، أي أنّ المصرف حسم من حسابه البالغ 210 آلاف دولار 35 ألفاً فقط، وذلك بخلاف ما أُشيع خلال أيّام توقيفه عن تسوية أجراها الحاج حسين مع إدارة المصرف لقاء إطلاقه الرهائن، تقضي بإقفال حسابه مقابل هذا المبلغ، وإلاّ لكان الحاج حسين لجأ إلى بيع وديعته بموجب شيك مصرفي كما هو سائد، مُعفياً نفسه من عناء التوقيف و”الجرصة”. وثمن شيك بقيمة وديعته يقارب المبلغ الذي حصل عليه.
أمس، طُوي هذا الملفّ إلى حين. طُوي بانتظار حادثة أليمة جديدة ربّما تُضاف إلى حادثتَيْ الحاج حسين في شارع الحمرا، وقبله عبدالله الساعي في جب جنّين البقاعية مطلع السنة الحالية، حين انتزع مبلغ 50 ألف دولار من “بنك بيروت والبلاد العربية”، ما دام القطاع المصرفي مستمرّاً في التعسّف والتسويف وهضم أموال الناس بلا مسوّغات واضحة وعادلة.
هنا كان لا بدّ من تسجيل جملة ملاحظات حول ما حصل على مدى الأسبوع الفائت:
أوّلاً، المدّة الفاصلة بين حادثة عبدالله الساعي في جب جنّين مطلع السنة وحادثة بسام الحاج حسين هي نحو 8 أشهر، وهذا يؤكّد أنّ بال المودعين اللبنانيين طويل، وأنّهم، مودعين وغير مودعين، لا يملكون ترف التعرّض للمصارف مثلما تحاول الأخيرة التصوير، لولا وصول “الموس للرقبة”. المودعون متفهّمون لعمق الأزمة ويعضّون على الجراح ويصبرون، بخلاف المصارف التي ما عادت تخجل من أفعالها، ولا توفّر فرصة لممارسة المزيد من التضييق على الناس، كلّ الناس، على الرغم ممّا يصدر عن المصارف والسلطة السياسية من شعارات ملأى بالعواطف والحبّ والتقديس للودائع والحقوق.
ثانياً، حجم التعاطف والدعم والمساندة الذي لاقاه بسام الحاج حسين من الناس في الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وعلى الأرض، حين تداعى العشرات لدعمه معنوياً حين كان يقوم بغزوته على المصرف، كان أكبر من الحادثة الأولى مع عبدالله الساعي في البقاع. وهذا مؤشّر إلى زيادة ملحوظة في منسوب النقمة التي تزداد مع مرور الوقت، وتختزنها الناس في نفوسها ضدّ تعسّف المصارف.
ثالثاً، إذا ما نظرنا إلى حجم وديعة بسام الحاج حسين في المصرف المذكور والبالغة 210 آلاف دولار، فإنّ الحديث عن “صغار المودعين” لم يعد محصوراً بعتبة 3 أو 4 أو 10 آلاف دولار كما في بدايات الأزمة. فهذه الحسابات تبخّرت أموالها وأُقفلت بألاعيب التعاميم كما هو معروف، وبالتالي فإنّ عتبة ما يُسمّى “صغار المودعين” قد ارتفعت بحكم الأمر الواقع إلى 200 ألف دولار وما فوق في حدّها الأدنى.
حجم التعاطف والدعم والمساندة الذي لاقاه بسام الحاج حسين من الناس في الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وعلى الأرض، كان أكبر من الحادثة الأولى مع عبدالله الساعي في البقاع
إطفاء الخسائر
رابعاً، ربطاً بما سبق ذكره في النقطة أعلاه، فإنّ سياسة مصرف لبنان والمصارف الرامية إلى تفريغ الحسابات من الأموال، وبالتالي “إطفاء” الخسائر أو تذويبها، و”تقليص الفجوة”، مثلما يفضّل تسميتها بعض المصرفيّين من باب الدقّة، تسير كما هو مرسوم. وهذا ما تظهره الأرقام عن حجم الودائع في المصارف، بعدما انحدرت من نحو 170 مليار دولار قبل الأزمة في العام 2019، إلى ما يقارب 104 مليارات دولار اليوم.
خامساً، أن يلجأ مودع له 210 آلاف دولار في المصرف، إلى شهر سلاحه الحربي واحتجاز رهائن داخل المصرف من أجل الحصول على مبلغ زهيد من أصل وديعته لتسديد فاتورة أبيه في المستشفى، يعني بكلّ بساطة أنّ مصطلحَيْ “غنيّ” و”فقير” في لبنان ما عاد لهما أيّ معنى على الإطلاق. فصاحب الوديعة إن كانت مليون دولار أو دولاراً واحداً والعامل بقوته اليومي في لبنان باتا متشابيهن في “العَوَز”. بل أكثر من ذلك، فإنّ المودع “الغنيّ” بات من طبقة الفقراء الذين يبحثون يوميّاً عن فاتورة المازوت للمولّد أو عن ثمن الموادّ الغذائية اليومية “المدولرة”، نتيجة تشدّد المصارف غير المبرّر تجاه عملائها.
سادساً، استنسابيّة “جمعية المصارف” مع المصارف نفسها باتت تطرح العديد من الأسئلة وعلامات التعجّب، إذ لم تلجأ الجمعية على مدى 6 أيام إلى تكليف نفسها بإصدار بيان توضيح أو تهدئة أو حتى استنكار لِما حصل في شارع الحمرا، وكأنّ ثمّة مصارف محسوبة على الجمعية ومصارف غير محسوبة عليها، بخلاف ما حصل خلال حادثة عبدالله الساعي في البقاع مع “بنك بيروت والبلاد العربية”، وهذا دليل على أنّ الجمعيّة المذكورة تُدار من نُخبٍ تضع نفسها في خدمة بعض المصرفيّين وليس في خدمة المصارف أو القطاع المصرفي عموماً والمودعين.
“تسيّب” المصارف
سابعاً، وقوع الحادثة مع مصرف “فدرال بنك” لم يكن وليد صدفة، لأنّ المعلومات المستقاة من مصادر مصرفية شديدة الاطّلاع على سلوك المصارف، تؤكّد أنّ المصرف المذكور يمارس التضييق الشديد على مودعيه، وهو غير ملتزم بتطبيق تعاميم مصرف لبنان بالغالب، وخصوصاً التعميم 158، بل حتى التعميم 151 القاضي بدفع الودائع بالليرة اللبنانية على أساس سعر 8 آلاف ليرة للدولار، يمارسه بانتقائية شديدة على المودعين. وهذا مؤشّر إضافي إلى التسيّب في القطاع والاستنسابية في التعاطي مع المودعين بين مصرف وآخر، ويشير أيضاً إلى ضرورة إقرار قانون “الكابيتال كونترول” الذي سئمنا الحديث عنه منذ ما يقارب 3 سنوات إلى اليوم.
إقرأ أيضاً: خريطة مصرف لبنان لـ”شفط” دولارات السوق
ثامناً، وهو المخيف في كلّ ما سبق ذكره، كان بيان “اتحاد نقابات موظّفي المصارف” الذي صدر يوم الإثنين، ويطالب بإقرار قانون “الكابيتال كونترول” من أجل حماية موظّفي المصارف من المودعين! هذا مشهد سوريالي آخر يُضاف إلى حفلة الجنون التي تسود في البلاد. فبعدما كان هذا القانون مطلباً لتنظيم السحوبات من الحسابات المصرفية وجعل الناس سواسية على قاعدة المساواة، وبالتالي حماية المصارف من الدعاوى القضائية، أي حمايتها من القانون، بات مطلباً لحماية المصارف وموظّفيها من مودع غاضب يشهر سلاحاً أو يحتجز رهائن، وهذا يشير إلى انتقال الصراع من المؤسّسات إلى شريعة الغابة حيث الغلبة للأكثر نفوذاً أو تسلّحاً أو سطوة، وإلى هذا القطاع الذي ينازع بعدما كنّا نتغنّى به لعقود!