لم تكن استدارة النائب وليد جنبلاط مفاجئة، لمن يتابع تقلّبات السياسة في لبنان. حين تلتقط رادارات المختارة ذبذبات التسويات في المنطقة، تجنح فوراً نحو سفح الجبل، إلى ساحل المتن الجنوبي، وقد صار الضاحية.
أصلاً لطالما كانت حارة حريك أقرب من كسروان ومن معراب، على الرغم من الخصومة وجولات السلاح. يبقى 11 أيّار “أصغر” من حروب الجبل والمجازر الدرزية المسيحية. ويبقى جنبلاط صاحب الجملة التي لا تُنسى: “جنس عاطل”.
لكنّ الجنوح هذه المرّة يأتي في لحظة مختلفة. ليس الترسيم البحريّ وحده الذي يلوح في أفق أيلول. وليست فيينا وحدها التي يفترض أنها قاب قوسين أو أدنى. وليست رئاسة الجمهورية فقط. هناك أيضاً تيمور والتوريث الهادىء مع “الجيران”، وهناك غزّة ومعادلة “العمليات الاستباقية” التي تحاول إسرائيل تسويقها. وجنبلاط عروبي حقيقي في هذا الجانب، من غزّة إلى الرياض. قليلون يجمعون مجد العروبة من هذين الطرفين. وأيضاً هناك تجربة العهد العوني المريرة، التي سيقاتل جنبلاط من أجل عدم تكرارها، وقد جوّعت اللبنانيين، وكان أهل الجبل “أمانة” برقبة بيت جنبلاط…
الجديد هو معلومات وصلت لـ”أساس” تقول إنّ هناك تفكيراً جديّاً بدأ يتقدّم في دوائر المملكة العربية السعودية، حول التحضير للقاء القيادات السيادية اللبنانية، في وقت قريب، لاستيضاح الاحتمالات في ملفّ رئاسة الجمهورية، على وقع التطوّرات في المنطقة
يراقب جنبلاط هذا المشهد، وفي باله أنّه لن يخوض معركة جديدة وحيداً. يعرف أنّ فرنسا طرحت على السعودية 3 أسماء لرئاسة الجمهورية، والسعودية لم تقدّم جواباً بالموافقة أو الرفض. لا تزال على “حيادها” من لبنان. كانت الانتخابات النيابية دليلاً ساطعاً. والأسماء التي عرضها إيمانويل ماكرون “مجهولة” عربيّاً.
العرب دخلوا المعركة
الجديد هو معلومات وصلت لـ”أساس” تقول إنّ هناك تفكيراً جديّاً بدأ يتقدّم في دوائر المملكة العربية السعودية، حول التحضير للقاء القيادات السيادية اللبنانية، في وقت قريب، لاستيضاح الاحتمالات في ملفّ رئاسة الجمهورية، على وقع التطوّرات في المنطقة.
كلام إذا كان دقيقاً، فهو يعني عودة العرب إلى الملف اللبناني من أوسع أبوابه، مع ما يعنيه هذا من تغييرات في شكل المعركة التي اختار جنبلاط أن يخوضها “من الداخل” على الطاولة التي “تركب” بعد انتخابات الرئاسة وعليها حزب الله والرئيس نبيه بري وسليمان فرنجية، في ظلّ غياب “طاولة أخرى”، إن في الداخل أو في الخارج.
قطار التسويات.. هل يلحق به لبنان؟
قد تنطلق النيّة السعودية في العودة إلى لبنان من فرضيّة أنّ قطار التسويات المفترضة، من فيينا إلى بيروت، قد ينتج عنه تغيير في العقليّة الحاكمة في لبنان، بعد عهد من العناد والتحدّي، أوصل اللبنانيين إلى حافة المجاعة، وإلى حافة الحرب أيضاً، ضمن المعادلة التي طرحها الأمين العامّ لحزب الله: “نموت في الحرب.. أفضل من الموت جوعاً”.
وسط هذا المشهد، خرج وليد جنبلاط إلى فضائية “المملكة”، الأردنيّة، ليقول إنّه يرفض “الحياد”، وهو طرح البطريركية المارونية وجزء من السياديّين. قال أيضاً إنّه سيحاور حزب الله، ونُشِرَت تسريباتٌ عن لقاء محتمل بينه وبين السيّد حسن نصر الله. قال هذا الكلام على فضائية المملكة التي دخلت مسار الحوار مع إيران منذ فترة، بحسب الزميل محمد قوّاص في “أساس” في مقال نشره قبل يومين. وقال إنّ “الاعتماد على القرارات… ضيّع فلسطين”، وإنّ “أميركا والسعوديّة تحاوران إيران… فلماذا لا أحاور جاري حزب الله؟”.
كأنّ جنبلاط يقول للأميركيّين والأوروبيّين والعرب: “إذا كنتم تريدون التوافق مع حزب الله على رئيس، فلا تطلبوا منّي مواجهته”. وهو يقول كلامه جهاراً نهاراً، ويذهب إلى التسوية. بالتأكيد يناسبه سليمان فرنجية. فهو جزء من الطبقة السياسية الحاكمة، و”المقفلة” منذ اتفاق الطائف. صديق وزميل، أقرب إليه من أيّ “مارونيّ قويّ”. وفوق هذا، هو مرشّح توأمه السياسي والروحي، الرئيس برّي. وقبل هذا وذاك، هو “عدوّ” جبران باسيل وميشال عون و”التسونامي” الذي أرعب المختارة ذات انتخابات في 2005، في عزّ نجوميّة جنبلاط وقوّته ومنعته.
من استمع إلى التصريحات بعد لقاء كليمنصو أمس بين جنبلاط ووفد الحزب، قد يخرج باستنتاج أنّه ربما “مش ماشي الحال”، وأنّ استدارة البيك قد لا تستند إلى “توقّع التسوية”، بل إلى الاحتمالين، إما التسويات المفترضة، أو انفراط الأجواء الإيجابية في المنطقة كلّها وليس فقط في لبنان.
فرنجيّة: عون الثاني
لكنّ البوصلة هذه المرّة تشير في اتّجاه خاطىء. لأنّ جنبلاط يعرف أنّ سليمان فرنجية هو “امتداد استراتيجي” لعهد عون. سيكون جبران الرئيس الظلّ، وفق تفاهمات ترعاها حارة حريك أو على الأقل لم يتراجع باسيل عن شروطه “التخريبية” حتى الآن.
قد تنطلق النيّة السعودية في العودة إلى لبنان من فرضيّة أنّ قطار التسويات المفترضة، من فيينا إلى بيروت، قد ينتج عنه تغيير في العقليّة الحاكمة في لبنان، بعد عهد من العناد والتحدّي
الأرجح أيضاً أنّ موقف العرب والغرب سيكون معادياً لمرشّح هو صديق طفولة بشّار الأسد، وربيب الحلف السوري الإيراني. وإصلاحيّاً هو ليس سوى ابن الطبقة إيّاها، التي بات المجتمعان العربي والدولي حسّاسَيْن منها ومتأكّدَيْن من عدم قدرتها على ممارسة أيّ إصلاح من أيّ نوع.
تقول المعلومات إنّ جبران باسيل اشترط على سليمان فرنجية تعيين أنطوان شقير حاكماً لمصرف لبنان، وغادة عون أو فادي عقيقي رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، ومارون قبيّاتي قائداً للجيش، لقاء انتخابه، مع ما يستتبع هذا من إمساك بالإدارة المارونية، باعتباره صاحب الكتلة النيابية والمسيحية الكبرى في محور الممانعة اللبناني.
نصل هنا إلى القوات اللبنانية، التي بدأت حوارات مع بعض وجوه “التغييريّين”. وقد شوهد النائب ملحم رياشي “يحتسي القهوة” مع النائب مارك ضو في فندق لوغابرييل قبل أيام، وكان الطبق الرئيسي بينهما انتخابات الرئاسة. في حين كان ضوّ جزءاً من الاجتماع الذي ضمّ تغييريّين وكتائبيّين ومستقلّين، بينهم أشرف ريفي ونعمة إفرام وفؤاد مخزومي، في مجلس النواب، للبحث في هذا الملفّ.
معايير القوّات: سياديّ – إصلاحيّ
وضعت القوات “معايير” محدّدة: أن يكون المرشّح للرئاسة فيه شيء من “السياديّة”، وإن لم تكن “قاسية”، وفيه الكثير من “الإصلاح”. وتعرف القوات، كما يعرف جنبلاط، أنّ مرشّحاً مثل فرنجية سيكون استكمالاً لمسلسل الجوع. ولا شيء بقي لتقسيمه، إلا إذا كانت الجبنة الجديدة، في العهد الجديد، هي النفط وما سينتج عنه من مليارات وصناديق واستثمارات.
إقرأ أيضاً: جنبلاط “يقطع الحبل” بجعجع: الحزب “الجار” أوّلاً!
وتعرف القوات أيضاً أنّ جنبلاط لن يترك الجانب العربي ويلتحق بالمحور الإيراني. لكنّ هذه المعركة لا يمكن أن تُخاض إلا بدعم عربي واضح ومحدّد ومعلن، مقابل المعركة الإيرانية الواضحة والدعم العلني والمحدّد لمرشّح محور الممانعة. التعطيل لا يكفي. وإذا لم يكن هناك معسكران إقليميّان، لا يمكن الذهاب إلى مرشّح وسطيّ.
بلا معركة، فرنجيّة هو الرئيس، وسيكون “ميشال عون الثاني”، استراتيجيّاً طبعاً، ومحلّيّاً بزنود دور جبران والحزب.