ما نشهده في لبنان حاليّاً ليس نهاية عهد برأسين يديره “مرشد” من الضاحية الجنوبيّة لبيروت، بمقدار ما أنّه نهاية بلد عمّر قرناً وسنتين مع إعلان قيام لبنان الكبير في العام 1920. قام لبنان مع إعادة تشكيل المنطقة إثر انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة. من الطبيعي أن يمرّ في المرحلة الراهنة في مخاض.
مثل هذا المخاض نتيجة طبيعية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط من جديد في ضوء سقوط الأسس التي قام عليها منذ عشرينيّات القرن الماضي.
سيكون السؤال في المرحلة المقبلة، في انتظار ما سيحلّ بسوريا والعراق على وجه التحديد: “هل يمكن إعادة تركيب لبنان من جديد؟”. كلّ ما تبقّى خارج هذا السؤال مجرّد تفاصيل ليس إلّا.
في لبنان حاليّاً عالمان ليس ما يجمع بينهما بعدما عجّل “العهد القوي”، الذي ليس سوى “عهد حزب الله”، في انهيار كلّ المقوّمات التي قام عليها البلد منذ ما قبل الاستقلال في العام 1943. لم يعد مطروحاً انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة لا يستطيع أن يفعل شيئاً ما دامت هناك سلطة عليا تهيمن على كلّ السلطات الأخرى. تهيمن على السلطة التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة. أكثر من ذلك، تسيطر هذه السلطة العليا على منافذ البلد وعلى قرار الحرب والسلم فيه.
سقط لبنان. كان سقوطه مريعاً. سقط البلد فيما رئيس الجمهوريّة مجرّد شاهد زور لا يجرؤ على قول كلمة عن تدخّل “حزب الله” في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري منذ أحد عشر عاماً وأكثر
يعيش اللبنانيون في بلد فريد من نوعه. لا يعود ذلك إلى وجود دويلة تتحكّم بالدولة اللبنانيّة بواسطة جيش مذهبي خاصّ بها. لا يعود ذلك أيضاً إلى أنّه بلد من دون كهرباء ومصارف ومستشفيات ونظام تعليميّ. الأخطر من ذلك كلّه أنّ مرجعيّة لبنان لم تعُد في لبنان. لا وجود حتّى لمظهر لمرجعيّة لبنانيّة. كلّ ما في الأمر أنّ لبنان لم يعُد لبنان من دون أن يعني ذلك أنّ العهد الحالي الذي على رأسه، شكلاً، ميشال عون وجبران باسيل يتحمّل كلّ المسؤولية وحده.
عجّل “العهد القويّ” في الوصول إلى الانهيار بدل السعي إلى تأخيره بعدما اعتقد الثنائي الرئاسي أنّ الرضوخ لـ”حزب الله” وتأمين الغطاء لسلاحه سيؤمّن وصول جبران باسيل إلى رئاسة الجمهوريّة نظراً إلى أنّ مفعول صيغة “السلاح يحمي الفساد” لا نهاية له.
العالم لن يسمح
لم يدرك الثنائي الرئاسي يوماً أنّ العالم يراقب ما يحصل في لبنان وليس مستعدّاً للذهاب إلى ما لا نهاية في التسامح مع ما يحصل من مخالفات، لا في مجال تبييض الأموال ولا في مجال الفساد وتكريس حال الفلتان في المنافذ البرّيّة والبحريّة والجوّيّة… وتهريب المخدّرات. لبنان موجود تحت المراقبة منذ فترة طويلة فيما السلطة فيه غائبة كلّيّاً عن المشهد بدليل أنّها لم تستوعب إلى الآن ماذا يعني انهيار النظام المصرفي اللبناني… مثلما لم تُرِد معرفة ما الذي حصل في مرفأ بيروت ولماذا كان تفجيره ومَن وراء ذلك التفجير قبل عامين…
يتبيّن كلّ يوم أكثر أنّ إعادة تركيب لبنان مهمّة شبه مستحيلة. لم تكن فائدة من الانتخابات النيابيّة الأخيرة في ظلّ القانون الانتخابي المعمول به. أمّن هذا القانون لـ”حزب الله” احتكار التمثيل الشيعي احتكاراً شاملاً. لا يمكن الكلام عن أيّ إصلاح من أيّ نوع كان عندما تكون طائفة بكاملها ممثّلة في المجلس النيابي بمجموعة من النوّاب ترى في النظام الإيراني مثلها الأعلى.
لا فائدة من الانتخابات الرئاسيّة عندما يكون “حزب الله” قادراً على تعطيل المجلس النيابي وإغلاق أبوابه في غياب اتّفاق يوصل مرشّحه إلى قصر بعبدا. لم يتغيّر شيء في العام 2022 حتّى لا تتكرّر مأساة 2016، وهي مأساة تُوِّجت بوصول ميشال عون إلى قصر بعبدا بصفة كونه مرشّح “حزب الله” الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوريّ” الإيراني.
سقط لبنان. كان سقوطه مريعاً. سقط البلد فيما رئيس الجمهوريّة مجرّد شاهد زور لا يجرؤ على قول كلمة عن تدخّل “حزب الله” في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري منذ أحد عشر عاماً وأكثر.
إزالة حدود لبنان وسوريا
في النهاية، كيف يمكن إعادة تركيب بلد تتحكّم به ميليشيا مذهبيّة لا تعترف بوجود حدود للبنان. ألغى “حزب الله”، ومن خلفه إيران، الحدود بين لبنان وسوريا. حدث ذلك فيما رئيس الجمهوريّة يتفرّج ولا يجرؤ على قول كلمة، كون الأمر يتعلّق بقرار إيراني يفرض على “حزب الله” التدخّل في سوريا. أخطر ما في الأمر أنّ الحدود بين دولتين، يُفترض أنّ كلّاً منهما تتمتّع بالسيادة على أرضها، زالت من منطلق مذهبيّ بحت. صار الرابط المذهبي، الذي برّر به الحزب تدخّله في سوريا، أقوى من الرابط الذي يجمع بين المواطنين في دولة اسمها لبنان.
بات مستحيلاً الجمع بين عالمين يختلف كلّ منهما عن الآخر على أرض لبنان. لم يعُد الانقسام بين المسيحيّين والمسلمين كما كانت عليه الحال في الماضي عندما كتب جورج نقّاش مقاله المشهور في جريدة “لوريان” تحت عنوان: “سلبيّتان لا تصنعان أمّة”. تجاوز لبنان الانقسام المسيحي – الإسلامي إلى انقسام من نوع آخر بعدما تدخّل “حزب الله” في سوريا بحجّة حماية المزارات الشيعية فيها. تطوّر الانقسام بين اللبنانيين إلى هوّة تفرّق بين عالمين لم يعُد من عامل مشترك بينهما، بعدما اعتبر حسن نصرالله نفسه “مكلّفاً من الله”!.
إقرأ أيضاً: نحن لسنا بشراً
لن يجتمع هذان العالمان يوماً في غياب إعادة تشكيل للمنطقة. ستحتاج إعادة تشكيل المنطقة إلى سنوات طويلة سيغرق فيها لبنان أكثر في مشاكل تبدو غير قابلة للحلّ من دون معجزة حقيقية.
ألا يزال في عالمنا مكانٌ لمعجزة ما؟