مذكرات صائب سلام (6): حلف شيعي ماروني ضدّ السنّة منذ 1980.. بمال الخميني

مدة القراءة 11 د

تزامن صدور مذكّرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته وفارساً من فرسان استقلاله.

أيضاً تصدر المذكرات في زمن استباحة مقام رئاسة الحكومة. وهو الذي كان واحداً من أشدّ رؤساء الحكومات حرصاً عليه وعلى صلاحياته، وهو ما جعله يصطدم بكل رؤساء الجمهورية المتعاقبين ويدخل معهم في منازلات سياسية قاسية من الندّ للندّ.

نظراً إلى الكمّ الهائل من الوقائع الواردة في المذكّرات، نشر “أساس” حلقتين عن الجزء الأوّل، وينشر أربع حلقات عن الجزء الثاني.

في الحلقة الرابعة من الفصل الثاني، يكشف الرئيس سلام عنحلف الأقلّيّات بأموال الخميني والدعم السوريّ” وعن “حلف شيعي ماروني عمل عليه السوريون وموّله الخميني، ضدّ السنّة والفلسطينيين، منذ العام 1980”.

 

“العنف لا يحلّ قضيّة في لبنان”

 صائب سلام.

 

على الرغم من استيائه في سنوات الحرب الأولى من الكتائب وكميل شمعون “الذين ارتموا في أحضان سوريا ولم يعودوا يسألون عن السيادة أو يبالون بالاستقلال”، إلّا أنّه كان حريصاً على التواصل معهم، والقيام بزيارات للقيادات المسيحية في “المنطقة الشرقية” ضمن ما سمّاه “سياسة الانفتاح” وتأثيرها على الرأي العامّ المسيحي.

يحدّثنا سلام عن لقائه بالبطريرك الماروني بطرس خريش قائلاً: “التقيت البطريرك خريش في باريس (خريف 1977)، وقد أبدى تململه من قادة الجبهة اللبنانية قائلاً إنّهم في الحقيقة يُرهبون المسيحيّين فلا يسمحون لهم بحرّيّة التعبير عن آرائهم، وإنّهم حملوا عليه ولقّبوه بـ”محمد الفلسطيني” لأنّه رفض أنْ يسلك معهم سبيل التطرّف. وندّد البطريرك خريش خصوصاً بكميل شمعون قائلاً إنّه يدّعي الحرص على المسيحية وهو ليس على شيء من هذا. ثمّ تناول شارل مالك واصفاً إيّاه بـ”المنافق بين الأرثوذكسية والمارونية”.

أدّى إعلان بشير الجميّل ترشّحه لرئاسة الجمهورية إلى غضب كبير في الشارع الإسلامي. وقد سعى سلام كثيراً من أجل وحدة الموقف الإسلامي في رفض ترشيح بشير الجميّل لرئاسة الجمهورية

ثمّ يخبرنا عن إحدى المحاولات الباكرة لإقامة حلف شيعي ماروني رواها له كامل الأسعد أواخر عام 1980: “فقد تعرّض الأسعد لضغط من قِبل النائبين محمود عمّار ورفيق شاهين لإعلان العداء للفلسطينيّين والاتّفاق مع الموارنة ضدّ السُنّة لمحاربتهم. وعندما جمع النواب الشيعة كلّهم، حاول بعضهم وعلى رأسهم كاظم الخليل أنْ يصدروا بياناً يمثّل السياسة المقترحة، لكنّه حذّرهم من العواقب الوخيمة لمعاداة السُنّة والفلسطينيّين ومن ورائهم جميع العرب، وأصرّ على أنّ تمسّكهم بالعروبة هو الأصل، وأنّه لا يتنازل عن ذلك، وأنّ هذه هي مصلحتهم. وأضاف كامل أنّ الشيخ (محمد مهدي) شمس الدين كان قد أتاه قبل ذلك وحاول أن يقنعه بالتحّرك الشيعي الإجماعي في نفس الطريق التي اقترحها عمّار وشاهين والخليل، ولكنّ كامل شرح له الخطأ في مثل تلك السياسة والأخطار الناتجة عنها، فتظاهر شمس الدين يومها أنّه اقتنع. لكنّهم عاودوا المحاولة عندما كان كامل الأسعد يتعالج خارج لبنان، خصوصاً أنّ لديهم الدعم المالي من الخميني والتغطية العملية من سوريا. وهنا أذكر ما ردّده حسين الحسيني يوماً بعد عودته من سوريا منْ أنّ المسؤولين السوريين هناك أفهموه أنّ مصلحة الشيعة في أنْ يتضامنوا مع العلويّين ضدّ السُنّة، وهذا ما نقله لي الوزير السابق جعفر شرف الدين يومها”.

 

السُنّة “أهل الجماعة” وليسوا طائفة

أبلغ سلام بشيرَ الجميّل عبر مصطفى بيضون (مدير “جمعية المقاصد”) بأنّ المسيحيّين أخطأوا مرّتين: “مرّة منذ مئة سنة عندما اعتقدوا أنّ اتّفاقهم مع الدروز يؤدّي إلى الغاية المطلوبة، والمرّة الثانية حين اتّجهوا أخيراً للاتّفاق مع الشيعة، بينما الاتّفاق لا يقوم حقّاً إلّا إنْ كان بينهم وبين السُنّة أوّلاً، ليس لأنّهم أكثر عدداً وأقوى من الفئتيْن، بل لأنّهم أهل الجماعة”، وفسّر له (للجميّل) منْ هم أهل الجماعة الذين “يعتبرون أنّهم يمثّلون كلّ الإسلام، وكذلك هم جزء من مجتمع إسلامي واسع وليسوا وحدهم”.

وقد رفض سلام بحزم تقوقع السُنّة عبر إقامة “جبهة سنّيّة” خالصة، لأنّه يرى في ذلك “تنفيذاً لمآرب الذين يريدون أنْ يصنّفوا السُنّة في لبنان طائفة كإحدى الطوائف الستّ عشرة التي يتألّف منها لبنان. لعبة البعض تتّجه إلى القول بأنّ اتّفاق عام 1943 كان بين الموارنة والسُنّة، لكنّه الآن يجب أنْ يكون بين الموارنة والشيعة.. أنا أرفض منذ سنوات التفرقة بين المسلمين وأدعو إلى الوحدة بينهم، خصوصاً أنّني كنت أدرك اتّجاه فؤاد شهاب لتشجيع هذا الفصل من خلال موسى الصدر. وأنا على مبدأ أنّه إذا تقوقع أحد ورسم لنفسه دائرة مغلقة وحصر نفسه ضمنها فما عليّ إلّا أنْ أرسم دائرة أوسع أحيطه بها معي هو ودائرته”.

 

دعم فيليب حبيب لبشير والموقف الإسلامي الموحّد

كان سلام أحد أبرز الوسطاء في المفاوضات التي جرت لإخراج منظّمة التحرير من لبنان، وكان شديد الحرص على كرامتها وعلى خروجها مرفوعة الرأس، ولهذه الغاية التقى الموفد الأميركي الشهير فيليب حبيب عدّة مرّات، ودارت بينهما الكثير من الحوارات.

ينقل عن أحد القياديّين في منظّمة التحرير شهادة حبيب بالرئيس سلام: “أتاني هاني الحسن فقال إنّ جوني عبده اجتمع بحبيب، وإنّ حبيب قال له إنّ الوحيد (Consistent) المتماسك والثابت هو صائب سلام، وهو الذي آخذ منه الكلام الصريح والواضح. وكان حبيب فعلاً يتّصل بي أو أتّصل به مرّة أو اثنتين أو ثلاث مرّات أحياناً في اليوم، وهو يعتمد على ما أقول”.

وعندما سأله فيليب حبيب عن مرشّحه المفضّل لرئاسة الجمهورية، ولماذا لا يتولّى رئاسة الحكومة، قال له: “انزع هذا من فكرك، فأنا لنْ أكون رئيس حكومة، لكنّ المهمّ أنْ نقيم حكومة مع رئيس جمهورية نعتمد عليه، ففي لبنان يكون ترشيح رئيس الجمهورية من المسلمين، وعندما يصبح الماروني رئيساً للجمهورية يصير للمسيحيّين، وقد ربّتنا الأحداث، فعلينا أن نتّعظ من ذلك”. ويذكر سلام قوله لحبيب “إنّ من المستحيل على المسلمين قبول بشير الجميّل فحاورني، وأنا أقول مستحيل، قال: هذا ربّما هو موقفك الشخصي، قلت: لا هو موقف المسلمين كلّهم”.

رفض سلام بحزم تقوقع السُنّة عبر إقامة “جبهة سنّيّة” خالصة، لأنّه يرى في ذلك “تنفيذاً لمآرب الذين يريدون أنْ يصنّفوا السُنّة في لبنان طائفة كإحدى الطوائف الستّ عشرة التي يتألّف منها لبنان

أدّى إعلان بشير الجميّل ترشّحه لرئاسة الجمهورية إلى غضب كبير في الشارع الإسلامي. وقد سعى سلام كثيراً من أجل وحدة الموقف الإسلامي في رفض ترشيح بشير الجميّل لرئاسة الجمهورية. وكان يلتقي بالنوّاب المسلمين للتشديد على وحدة الصف الإسلامي، وأنّ الموقف الإسلامي لا يقبل مطلقاً ترشيح بشير الجميّل بهذا الأسلوب العنفيّ، فـ”صورة بشير هي صورة السنوات السبع التي قضاها في أعمال التخريب والعنف والقتل”، ويؤكّد لهؤلاء النواب أنّ منْ يقف على خطّ مختلف عن ذلك، فإنّما يعرّض نفسه للخروج من الصفّ الإسلامي.

يسهب في عرض تفاصيل لقاءاته واتّصالاته مع العديد من النواب: “كلّمت عثمان الدنا وشدّدت عليه كي لا يخرج من ثيابه، فمن يخرج من ثيابه يصبح عرياناً، فلا تتعرَّ منْ أهلك وأبناء بلدك ولو كنت متزوّجاً منْ عند الموارنة”، ومنهم أيضاً نائب عكار: “زارني سليمان العلي، وأبلغني بأنّ موقفه مثل موقفنا تماماً، وأنّه هو بالاتّفاق مع طلال المرعبي في الشمال يرفضان قضية بشير الجميّل رفضاً كاملاً”. لكنّ سلام كان “يستشعر في مداولاته مع النوّاب المسلمين أنّ هناك تذبذباً في مواقف الكثير منهم، ما أثار شكوكاً لديه في العمل الذي يقوم به بشير الجميّل ومن هم وراءه، وخصوصاً الوزير ميشال المر والملايين التي يلوّح بها للكثيرين”. وسعى كثيراً إلى تثبيت النوّاب المسلمين على مواقفهم. ويروي كيف أتاه نوّاب مسيحيّون يرفضون ترشيح بشير الجميّل، لكنّهم يخافون من سطوته وبطشه، منهم إميل روحانا صقر وفؤاد لحّود وفؤاد نفّاع.

بعد ذلك يحدّثنا عمّا كان يشاهده من إذلال متعمّد من قبل عناصر الكتائب للمسلمين على مداخل بيروت: “وكأنّه لم يكن يكفي بيروت جهنّم التي تفتحها عليها قنابل الإسرائيليّين، فأنا كلّما خرجت من بيروت لزيارة (فيليب) حبيب أو الرئيس (سركيس)، أرى في طريقي ألوفاً من أبناء بيروت في سيارات متنوّعة الأحجام، متكدّسين فوق بعضهم البعض، وهم يلقَوْن كلّ إرهاق وإذلال من عناصر الكتائب الواقفين على حدود الحازمية”. ويذكر أيضاً بعض الشكاوى التي بلغته عن “الممارسات القبيحة للكتائب بحقّ مسلمي بيروت” مثل “الشتائم والتعرّض للإسلام والنبيّ والقرآن، والاستيلاء على الزاد والخبز والدوس عليه”.

 

من هم النوّاب السُنّة الذين خانوا تعهّداتهم؟

يتابع سلام: “في اليومين السابقين للجلسة، كثّفنا الاتصالات، واجتمعت بالقصر الجمهوري بالمير مجيد أرسلان وكان معه شفيق بدر ومعي تقيّ الدين الصلح محاولاً أنْ أقنعه كي يماشينا في انتخابات الرئاسة بعدم اشتراكه في الجلسة. وقد حضر المقابلة طلال المرعبي الذي تشدّد في موقفه الحاسم معنا، وأنّه لن يشترك في جلسة انتخاب بشير الجميّل”.

وقبل يوم من الجلسة “كان البوانتاج أنّ 31 نائباً لن يحضروا الجلسة بناء على مواقفهم ووعودهم، ممّا يعني أنّ النصاب لنْ يكتمل. وفي نفس اليوم (الأحد)، قامت قوى المكتب الثاني في الجيش والقوى المسلّحة مع الميليشيات الكتائبية بقطع التواصل بين الشرقية والغربية ومنعت أيّ نائب في المنطقة الشرقية من أنْ ينتقل إلينا، وقام وزير الهاتف ميشال المر بقطع كلّ اتّصال هاتفي بين الشرقية والغربية ما عدا بعض تلفوناتنا ضمن منطقتنا فقط، وهو ما شلّ عملنا الى حدّ بعيد”.

وفي يوم الجلسة (الإثنين 23 آب 1982): “منذ الصباح بدأ التلفزيون يغطّي التحرّكات النيابية، ومَنْ يصل إلى مجلس النوّاب اسماً اسماً، وكنّا نتوقّع كلّ من حضر إلى المجلس، ولكنّ الفاجعة الكبرى رأيناها على الشاشة فجأة… سليمان العلي يدخل مع طلال المرعبي، فأدركنا أنّنا قد خسرنا، وبعد ذلك دخل إميل روحانا صقر أيضاً، وهذا يعني أنّنا لنْ نتمكّن من حجب الواحد وثلاثين صوتاً. وهكذا حصلت الانتخابات بعد النصاب المطلوب… وأصبح بشير الجميّل رئيساً للجمهورية”.

كان النصاب المطلوب 62 حيث تمّ احتساب الثلثين اعتماداً على عدد النوّاب الأحياء (92 نائباً من أصل 99). وقد حضر الجلسة 63 نائباً، أيْ أنّ حضور نائبَيْ عكّار السنّيَّيْن سليمان العلي وطلال المرعبي هو الذي أمّن النصاب، على الرغم من كلّ تعهّداتهما بعدم الحضور. وفي كتاب جورج فريحة صهر آل الجميّل وأحد أبرز مساعدي بشير الجميّل “مع بشير”، يذكر فيه أنّه عندما سئل بشير الجميل بعد انتخابه عن اسم الشخصية التي سيكلّفها تشكيل حكومة كان جواب الأخير: “إنّي أتردّد بين سليمان العلي وعثمان الدنا، ولكن أميل الى العلي لأنّه أكثر مرونة”، أيْ أنّه سيكون رئيس حكومة مطواع.

أمّا عن ردّات الفعل فيقول سلام: “أرسل إبراهيم قليلات من عنده من أحرق بيت عثمان الدنا أوّلاً، ثمّ بيوتاً كثيرة، منها بيت رائف سمارة وفؤاد لحود وبيت كامل الأسعد ومكتبه وبيت جو حمّود وغيرهم، ما ولّد عندي استياءً شديداً في الواقع، فأمليت بياناً باستنكار مثل هذه الأعمال أشدّ الاستنكار وحملت حملة شعواء عليها مؤكّداً أنّنا نحصر موقفنا المسؤول في نطاق الديمقراطية والقول الحرّ السليم”.

إقرأ أيضاً: مذكّرات صائب بيك (5): دكاكين السلاح المسلم والمسيحي والفلسطيني

يتناول أيضاً ردّة فعل الشارع الإسلامي الغاضبة والمستنكرة، ثمّ ينتقل إلى ذكر الوداع الحاشد والمؤثّر للقيادات الفلسطينية، وخاصّة أبا عمّار في مرفأ بيروت، ثمّ يشير إلى الضغوط التي تعرّض لها من قبل وليد جنبلاط ونبيه برّي وسائر النوّاب والقيادات الإسلامية ليكون رئيساً لأوّل حكومات عهد بشير الجميّل، لكنّه كان يرفض بشكل قاطع ويعيد تذكيرهم بما قاله سابقاً في منتصف السبعينيّات، “إنّني طلّقت الوزارة بالثلاث”. وكان يشرح لهم أنّه بات مقتنعاً بأنّ وجوده “خارج رئاسة الوزارة يجعله أقوى للمساعدة والمعاونة واتّخاذ المواقف التي تعزّز الوضع الوطني والإسلامي والمسيحي”. بعدئذٍ يسرد تفاصيل اجتماعه بالرئيس المنتخب بشير الجميّل في القصر الجمهوري بوساطة المستشار محمد شقير، وماذا دار بينهما في هذا الاجتماع المطوّل. وممّا قاله “أفهمته ما معنى التفهّم والتفاهم وكيف يجب أنْ يتفهّم المسلمين لأنّه يبدو أنّه لا يفهمهم أبداً”.

مواضيع ذات صلة

الإصلاحات الدستوريّة: الرئاسة 4 سنوات والرئيس المكلّف يعرض حكومته على البرلمان مباشرة

تزامن صدور مذّكرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته، وفارساً من…

مذكّرات صائب سلام (7): هكذا هَدَمَ الخُمينيون “قِلَاعَ السُنّة”

تزامن صدور مذّكرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته، وفارساً من…

مذكّرات صائب سلام (5): دكاكين السلاح المسلم والمسيحي والفلسطيني

تزامن صدور مذكّرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته وفارساً من…

مذكّرات صائب سلام (4): عن استخفاف “الموارنة” برئاسة الحكومة

تزامن صدور مذكّرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته وفارساً من…