يمتلك الأردن تاريخياً براغماتية ورشاقة في مقاربة السياسة الخارجية. الأمر ينسحب أيضاً على الشؤون الداخلية، إذ استطاعت المنظومة السياسية التعامل مع مراحل اعتراض مهمّة، وبعضها كان خطيراً، أخذت أشكالاً قومية يسارية وإسلامية ومدنيّة، ولم تذهب الأمور إلى مستويات الصدام التي وصلت إليها الصراعات في بلدان الجوار.
مرّ “الربيع” العربي على الأردن، لكنّ الدراية والحكمة والصبر والخبرة مكّنت حكومات الأردن وغرف القرار من استيعاب الحراك وجعله محليّاً بيتيّاً، وعزله عن أيّ امتدادات مستوردة من “ربيع” الخارج. كما تمكّن المغرب أيضاً من احتضان “ربيعه” والخروج بإصلاحات دستورية يقوم عليها نظام الحكم الحالي وآليّة إنتاج الحكومات في الرباط، فإنّ “الملكية” قد تكون عاملاً مشتركاً لتفسير تلك الوصفات في التعامل مع التحوّلات.
تنطبق آليّات الداخل في الأردن على ما هو مطلوب للتعامل مع تحوّلات الخارج. لكنّ البراغماتية تستند أيضاً إلى مواقف متقدّمة حاسمة ميّزت الأداء الأردني وجعلت منه حازماً مفاجئاً في مفارق معيّنة. امتلكت عمّان جرأة في التعامل مع الحرب الداخلية السورية على نحو أغضب دمشق واستفزّها. وامتلكت أيضاً السبق في تصدّر العواصم في التحذير من خطر إيران منذ حديث العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني عام 2004 عن “الهلال الشيعي” الذي تقيمه طهران في المنطقة (أوضح لاحقاً: “قصدت الهلال الإيراني من وجهة نظر سياسية”).
أثارت عمّان منذ سنوات مسألة الممرّ الذي تقيمه إيران من طهران إلى بيروت، وحاولت في الوقت عينه ضبط الموقف من الوضع المعقّد الذي تعيشه سوريا. في أوائل عام 2017 أعلن رئيس هيئة الأركان المشتركة في القوّات المسلّحة الأردنية آنذاك، الفريق الركن محمود فريحات، أنّ بلاده لم تعمل يوماً ضدّ النظام السوري، وأنّ دعمها لبعض القوات العشائرية في جنوب سوريا كان هدفه مواجهة تنظيم داعش.
لكنّ الرجل حذّر في سياق التصريحات نفسها من ممرّ برّيّ تعمل إيران على شقّه باتجاه شمال العراق وشمال سوريا باتّجاه البحر المتوسّط. استغرب المراقبون حينها توجّس الأردن من ممرّ إيرانيّ يبعد عن حدوده ولا يطلّ مباشرة على أراضيه. في ذلك العام كان موقف فريحات متكاملاً مع موقف ملك البلاد عام 2004 من مسألة قيام هلال شيعي في المنطقة تقوده طهران.
“ناتو عربي”…
في تموز 2021 سعى العاهل الأردني لدى الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تسويق خارطة طريق للتطبيع مع النظام السوري. وفي أيّار الماضي أعاد الملك عبد الله الثاني في واشنطن أيضاً التحذير من أخطار على حدود بلاده مع سوريا تتسبّب بها ميليشيات وعصابات تابعة لإيران. كانت القوات الأردنية قد ردّت هجمات شنّتها عصابات تهريب المخدّرات من سوريا عبر الحدود الأردنية تعمل برعاية حزب الله ونظام دمشق (صادرت عمّان 20 مليون حبّة كبتاغون هذا العام مقارنة بـ 15 مليوناً في 2021).
ينضمّ الأردن بدون كثير قناعة إلى تحوّل في المنطقة ذاهب باتّجاه الحوار مع طهران ومقاربة المسألة الإيرانية عبر مداخل ترى في الدبلوماسية احتمالاً للتعامل مع الأمر الواقع
لاحقاً، في 24 حزيران فاجئ الملك المراقبين حين أعلن، في مقابلة مع “سي إن إن” الأميركية، أنّه يتمنّى قيام “ناتو عربي” لحماية أمن المنطقة. لم يحدّد الملك إيران هدفاً للحلف، لكنّ مواقفه السابقة بشأن الخطر الإيراني أوحت بذلك. بعد يومين نشرت الـ “وول ستريت جورنال” في 26 حزيران بياناً إماراتياً، ردّاً على معلومات للصحيفة، أكّد أنّ “دولة الإمارات العربية المتحدة ليست طرفاً في أيّ تحالف عسكري إقليمي أو تعاون يستهدف أيّ دولة بعينها”. أضاف البيان أنّ “الإمارات العربية المتحدة ليست على علم بأيّ مناقشات رسمية تتعلّق بأيّ تحالف عسكري إقليمي من هذا القبيل”.
لم تكن إثارة مسألة الناتو العربي إلا استطلاعاً وإنذاراً قبل زيارة الرئيس الأميركي للشرق الأوسط التي تُوِّجت بقمم جدّة في 16 تموز التي كان العاهل الأردني حاضراً بقوّة فيها. لم تلقَ فكرة الناتو العربي استجابة صريحة، مع العلم أنّ الصحافة الأميركية كانت نقلت أجواء توحي بأنّ بايدن قادم إلى المنطقة من أجل تحقيق هذا الهدف.
خريطة التحالفات الجديدة
قرأت عمّان بدقّة وحصافة المشهدين الإقليمي والدولي الجديدين. أفصحت قمم جدّة عن ذلك جيّداً، ولم يصدر عن المتحدّثين العرب أيّ مواقف معادية لإيران قد يُفهم منها تحوّلات تجاري إسرائيل والولايات المتحدة في التلويح بالأحلاف والتكتّلات.
قرأت أيضاً خريطة التحالفات بين روسيا وإيران وتركيا وحساباتها، ولا سيّما تمنّع موسكو، لحسابات أوكرانية، عن لعب دور ضاغط ضدّ طهران ودمشق في جنوب سوريا. وتخوّفت عمّان من احتمال حدوث فراغ روسي في سوريا يجعل من إيران أمراً واقعاً على حدود البلاد السورية. استنتجت عمّان من الحوار بين الرياض وطهران ومن إعلان الإمارات إرسال سفير لها لدى إيران حصول تقدُّم في العلاقات، واستشرفت وضع إيران الإقليمي الجديد في حال نجاح أو فشل التوصّل إلى اتفاق في فيينا حول برنامجها النووي.
انطلاقاً من تلك القراءات أعاد الأردن صياغة لهجة جديدة يعتمدها هذه الأيام حيال العلاقة مع إيران. تحدّثت أنباء عن حوار جارٍ في بغداد بين طهران وعمّان. لم تعلن العاصمتان ذلك رسمياً، لكنّ رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي كان أعلن أنّ الحوار مع إيران بات يشمل بلداناً عربية أخرى (غير السعودية).
إقرأ أيضاً: بغداد – بيروت: بداية تزعزع الشيعية السياسية؟
جاء التحوّل في موقف الأردن مبكراً. استبق رئيس الوزراء الأردني بشير الخصاونة قمم جدّة وأعلن في 10 تموز أنّ “الأردن لم يعامل إيران قطّ على أنّها تهديد للأمن القومي”. بعد أسبوعين، في 24 تموز، أعاد العاهل الأردني اتّهام ميليشيات مقرّبة من إيران بتنفيذ هجمات على الحدود مع سوريا، لكنّه أكّد أنّ “الأردن وكلّ الدول العربية تريد علاقات طيّبة مع إيران مبنيّة على الاحترام المتبادل وحسن الجوار واحترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها”.
ينضمّ الأردن بدون كثير قناعة إلى تحوّل في المنطقة ذاهب باتّجاه الحوار مع طهران ومقاربة المسألة الإيرانية عبر مداخل ترى في الدبلوماسية احتمالاً للتعامل مع الأمر الواقع. تعرف عمّان فنون التجريب كما الخروج من أيّ تجارب لا تثمر ولا تخرج من جدران المختبرات، ذلك أنّ للأردن عيناً ترصد بحساسيّة حركة الرياح لمجاراتها واتّقاء رياح أخرى.