ماذا بعد أوكرانيا؟
تخشى السويد أن تكون هي الجواب. وإذا حدث ذلك فلن يكون الجواب الأوّل من نوعه. فقد سبق أن انفجرت 11 حرباً بين روسيا والسويد في الفترة الممتدّة بين القرنين الثاني عشر والتاسع عشر، وتبادلت الدولتان احتلال فنلندة التي انضمّت الآن أيضاً إلى الحلف الأطلسي.
لكن قبل أن تنضمّ السويد إلى الحلف في ضوء تداعيات الحرب في أوكرانيا، وقفت ضدّ روسيا عندما اجتاحت قوّاتها كلّاً من جورجيا وأوكرانيا (2014). وقتذاك تبادلت الدولتان طرد الدبلوماسيين من موسكو واستوكهولم على خلفيّة اتّهام السويد للرئيس فلاديمير بوتين بأنّه يتصرّف كالنازيّين.
تجدّد اضطراب العلاقات بين العاصمتين بدأ في عام 2013 عندما اخترقت الطائرات العسكرية الروسيّة الأجواء السويدية فوق جزيرة غوتلاند التي لا تبعد سوى 500 كيلومتر عن روسيا، و190 كيلومتراً عن استوكهولم.
نقول “تجدّد الاضطراب” لأنّ العلاقات تدهورت بينهما حتى وصلت إلى مستوى المجابهة العسكرية المباشرة عندما احتلّت روسيا أستونيا في عام 1721 وفنلندة في عام 1809، وكانتا آنئذٍ جزءاً من السويد واستقلّتا عنها فيما بعد.
تخشى السويد أن تستولي روسيا، بعملية عسكرية خاطفة، على جزيرة غوتلاند كما فعلت في شبه جزيرة القرم
الحياد لا يحمي
في عام 1814 التزمت السويد مبدأ “لا حرب بعد الآن”. والتزمت بهذا المبدأ حتى اليوم. لكن بانضمامها إلى حلف شمال الأطلسي، فإنّها تحرِّر ذاتها من هذا المبدأ، اعتقاداً منها بأنّ حرب أوكرانيا قدّمت درساً للدول المحايدة بأنّ الحياد لا يحمي، وأنّه لا بدّ من مظلّة عسكرية.
بدأت السويد بتوفير حماية عسكرية ذاتية منذ عام 2016 عندما رفعت إنفاقها العسكري الى رقم قياسي. فبعدما كان لا يتجاوز مليار يورو، أصبح الآن يزيد على 23 ملياراً. ومن المؤكّد أنّه بعد انضمامها إلى الحلف الأطلسي سوف تزيد إنفاقها العسكري التزاماً بقرار الحلف الذي يربط حجم الإنفاق العسكري بالدخل القومي. والسويد كما هو معروف دولة غنيّة ذات دخل قوميّ مرتفع.
تخشى السويد أن تستولي روسيا، بعملية عسكرية خاطفة، على جزيرة غوتلاند كما فعلت في شبه جزيرة القرم. وكما تعيش أقليّة روسيّة في القرم، تقيم أقليّة روسية أيضاً في غوتلاند بموجب إقامات سويدية. وقد بدأت السويد إجراءات عدم تجديد هذه الإقامات حتى لمن وُلِدوا من الروس في الجزيرة السويدية. الأمر الذي اعتبرته روسيا تحرّشاً غير مبرّر. وذهبت السويد إلى أبعد من ذلك، إذ قرّرت عدم منح الروس تأشيرات لزيارة غوتلاند، حتّى لزيارة أقربائهم، خشية من أن يبقوا فيها أو أن يكونوا عملاء للمخابرات الروسية.
لقد سقطت الثقة بين موسكو واستوكهولم التي كانت على أيّ حال ثقة ضعيفة ومهزوزة. وبانضمام السويد وفنلندة إلى الحلف الأطلسي تشعر روسيا أنّ هذا الأخير أصبح يطوِّقها من الشمال (استوكهولم وفنلندة)، ومن الغرب (بولندة وتشيكيا امتداداً إلى فرنسا وبريطانيا).
من هنا وجّهت الحرب في أوكرانيا رسالة تحذير أو تخويف إلى دول الطوق الأطلسي حول روسيا، ولذلك تحرص الولايات المتحدة على تعطيل وصول هذه الرسالة بإغراق أوكرانيا بالمساعدات العسكرية والماليّة والسياسية والإعلامية على نحو لم تفعله منذ مشروع مارشال لمساعدة أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
اليابان وكوريا في “الأطلسي”
إلى ذلك لم يعد الحلف الأطلسي يقتصر على الجبهة الأوروبية. فالولايات المتحدة وسّعت نطاق الحلف إلى اليابان وكوريا الجنوبية من جهة، وإلى أستراليا من جهة ثانية. وهي تحاول الآن أن تجعل من تايوان رأس جسر لعمليات أسطولها السابع في المحيط الهادئ على الرغم من قرار الصين استعادة الجزيرة وضمّها الى الوطن الأمّ.
تعلّمت الولايات المتحدة (ومعها الحلف الأطلسي) من تجربتين بالغتَيْ المرارة هما العمليّتان العسكريّتان الروسيّتان في جورجيا ثمّ أوكرانيا. وفي الحسابات الأميركية أنّ روسيا ما كانت لتهاجم أوكرانيا لو أنّ الحلف الأطلسي تصدّى للعملية العسكرية الروسية في جورجيا. وفي هذه الحسابات الأميركية الآن أنّ تصدّي الحلف للعملية الحالية في أوكرانيا يشكّل قوّة ردع ضدّ أيّ عملية روسية قد تستهدف جزيرة غوتلاند السويدية. ولعلّ هذا المنطق هو الذي أقنع استوكهولم بخلع رداء اللاحرب الذي تلبسه منذ عام 1814 وارتداء الزيّ العسكري للحلف الأطلسي. وبذلك تصبح أيّ مجابهة عسكرية بين موسكو واستوكهولم مجابهةً عسكريةً مع أوروبا والولايات المتحدة.
فهل يشكّل ذلك قوّة ردع للطموحات الروسية في شمال أوروبا؟
إقرأ أيضاً: أوكرانيا: حرب القرم الثانية… و”خطر” آلاسكا
في الأساس ينفي الروس أن تكون لهم طموحات توسّعيّة، ويؤكّدون أنّهم يدافعون عن أنفسهم بتفكيك جدار الطوق الذي يقيمه الحلف الأطلسي حول روسيا، الأمر الذي يرسم علامة استفهام كبيرة عن حدود ومعنى هذا الجدار؟ هل الهدف منه هو تطويق الكرملين وخنقه؟ أو هو تعبير عن الخوف من طموحاته التوسّعية ومحاولة صدّها قبل انطلاقها؟
الإجابة متناقضة في كلٍّ من موسكو وواشنطن. والعالم يقع بين فكَّيْ كمّاشة هذا التناقض. فاستبدال السويد اللباس العسكري باللباس المدني يوحي وكأنّ العدّ العكسي للانفجار الأكبر قد بدأ.