بعد عامين على تفجير مرفأ بيروت، بدأت تتوضّح ملابسات كثيرة عن كيفيّة إدارة التحقيق بعيداً عن الخيوط الأساسية، حول من أتى بالنتيرات ومن حمى إنزالها، ومن حافظ عليها كلّ هذه السنوات.
في هذه السلسلة وثائق تنشر للمرّة الأولى، حول تزوير في مراسلات قضائية، وحول إخفاء الشرطة العسكرية أدلّة عن اشتباه اليونفيل بالباخرة، وطمأنة الجيش إلى أنّها لا تحمل موادّ مسبوهة ؟
في الحلقة الثانية أسئلة عن مسؤولية الجيش عن تفجير مرفأ بيروت. وأدلّة على أنّ اليونيفيل حذّرت الجيش من “حمولة مشبوهة على متن السفينة وعن تصرّف مشبوه لها”. لكنّ تقرير الجيش ردّ بالقول إنّه “أجرى بحثه وتثبّت أنّ السفينة خالية من أيّ شيء غير قانوني“.
فور دخول الباخرة روسوس إلى المياه الإقليمية اللبنانية، شكّت الأمم المتحدة في أمرها. راسل الجنرال في قوات الأمم المتحدة “ستيفانو ديكول” الجيش اللبناني قبل دخول باخرة النيترات إلى مرفأ بيروت، وحذّر من وجود “موادّ مشبوهة” على متنها. لكنّ بحريّة الجيش اللبناني قالت إنّها خالية من أيّ موادّ متفجّرة وبإمكانها الدخول وأنّ المانيفست الخاصّ بها صحيح.
وفق القانون اللبناني فإنّ أيّ باخرة، سواء كانت تمرّ “ترانزيت” أو دخلت البلاد، تحوي أسلحة أو موادّ متفجّرة، فمن مسؤولية الجيش إبعادها ووضعها في مكان آمن.
يورد تقرير اليونيفيل أنّ مسؤوليّتها تتوقّف عند إبلاغ الجيش في حال الشكّ في أمر الباخرة. وهذا ما حصل بالفعل، لكنّ الجيش قال في تقريره إنّ الباخرة خالية من الموادّ المتفجّرة وبإمكانها الدخول.
راسل الجنرال في قوات الأمم المتحدة “ستيفانو ديكول” الجيش اللبناني قبل دخول باخرة النيترات إلى مرفأ بيروت، وحذّر من وجود “موادّ مشبوهة” على متنها. لكنّ بحريّة الجيش اللبناني قالت إنّها خالية من أيّ موادّ متفجّرة
صحيح أنّ التفتيش الروتيني غير كافٍ للكشف عن خطورة النيترات، لأنّها آتية تحت عنوان “الاستخدام الزراعي”، ويحتاج ذلك إلى مختبرات خاصة لمعرفة نسبة الآزوت فيها، إلا أنّ ذلك لا يبرّر إهمال الضبّاط الذين كشفوا عليها، والذين يُفترض بهم أن يكونوا خبراء في ملفّات كهذه… إذ إنّ المسؤوليات العسكرية والأمنيّة كانت تحتّم عليهم أن يرسلوا عيّنات منها إلى مركز البحوث بأسرع وقت للتأكّد من عدم خطورة هذه النيترات التي ستدخل قلب العاصمة بيروت.
فمن هم هؤلاء الضبّاط والعناصر؟ وهل تمّ استدعاؤهم للتحقيق أم لا؟
يتحدّث التقرير الأممي عن وجود “حمولة مشبوهة على متن السفينة وعن تصرّف مشبوه لها”. لكنّ تقرير الجيش ردّ بالقول إنّه أجرى بحثه وتثبّت أنّ السفينة خالية، ولم تتمّ الإفادة عن أيّ شيء غير قانوني!
حين تمّ إنزال النيترات وُضعت ليومين على الرصيف رقم 9 قبل أن يتمّ إدخالها إلى العنبر مباشرة، أي تمّ وضع 2,700 كيس ومراكمتها على هذا الرصيف وعرضها على الملأ.
الغريب أنّ الحكومة كلّفت الشرطة العسكرية، التابعة للجيش، عقب الانفجار مباشرة، بإجراء تحقيق أوّلي بالانفجار، لكن تمّ إخفاء كلّ ما يتعلّق بالمراسلات بين الأمم المتحدة والجيش لولا أن كشفه أخيراً شقيقُ أحد ضحايا تفجير المرفأ والناطق باسم الأهالي وليام نون.
ريمون خوري والإنابة المخالِفة للقانون
في العام 2013، وبعد تقدّمه في العمر، أعدّ المدير العام للجمارك شفيق مرعي توكيلاً لينوب عنه في التوقيع المدير العام بالإنابة ريمون خوري. وهنا يحتاج الأمر إلى الكثير من التوضيح.
وقّع خوري مراسلات ومعاملات يفوق عددها تلك التي وقّعها الموقوفون على ذمّة التحقيق في السجن. إذ تقارب 70 توقيعاً على أوراق لها علاقة بموضوع النيترات، وهو مَن اختار مكان تخزين البضاعة التي فجّرت العاصمة. والغريب أنّه لم يتمّ التعرّض له أو مساءلته.
بموجب التوكيل الممنوح له من مدير الجمارك، كان يمكن لريمون خوري أن يرفض القرار القضائي الذي صدر بإنزال نيترات الأمونيوم لسببين:
– الأوّل أنّ القرار هو قرار عجلة، يسقط تنفيذه بعد مضيّ ثلاثين يوماً في حال لم ينفّذ (صدر القرار في تموز وتمّ تنفيذه في أيلول).
– والثاني أنّه بموجب التوكيل الممنوح له كان بإمكانه رفض إنزال الموادّ. وقد ورد على المانيفست أنّها “موادّ متفجّرة يحظر وجودها بين المدنيين”.
إذا ربطنا الخيوط، فإنّ “البوطة” التي كانت سبباً أو أعطت الأمر بتوقيف الباخرة وتنزيل البضاعة التي على متنها، ما تزال، كلّها من دون استثناء، محميّة بفضل الشرطة العسكرية
مصدر التشكّك في دوره هي تلك العلاقة الوطيدة التي تربطه بقائد الجيش السابق جان قهوجي. وإذا ربطنا الخيوط، فإنّ “البوطة” التي كانت سبباً أو أعطت الأمر بتوقيف الباخرة وتنزيل البضاعة التي على متنها، ما تزال، كلّها من دون استثناء، محميّة بفضل تقرير الشرطة العسكرية.
بناءً على المستندات التي بحوزته يتّهم وليام نون “الشرطة العسكرية بتزوير الوقائع”. ويطالب في حديث لـ”أساس” بـ”محاسبة المقصّرين”، أي الشرطة العسكرية التي يقول إنّها “أخفت أدلّة وزوّرت التحقيق، ولذا نحن نعتزم التقدّم بإخبار ضدّها”.
الشرطة العسكرية تهمل الأساس
المفارقة أنّ تحقيق الشرطة العسكرية لم يستوقفه صدور القرار بتفريغ حمولة الباخرة “روسوس” في حزيران، وأنّ ريمون خوري نفّذه في أيلول بتوكيل من شفيق مرعي، بينما لا يحقّ تنفيذ قرار قضائي بتوكيل. ولم يتوقّف أيضاً تحقيق الشرطة العسكرية عند صعود الجيش على متن الباخرة لتفتيشها، وإفادته اليونيفيل بأنّها خالية من أيّ موادّ مشبوهة.
فلماذا أهمل تحقيق الجيش تقرير اليونيفيل؟
تحدّث وليام نون عن مسؤولية الجيش خلال وقفة تضامنية أمام العدليّة، إذ قال: “اتّصل بي قائد الجيش وقمت بزيارته وشرح لي أنّه لم يكن على علم مسبق، وحتى اليوم لا دليل على أنّ جوزف عون تلقّى مراسلات أو كان على علم مسبق، وحين يتوافر مثل تلك الوثائق سنعلن عنها طبعاً، حفاظاً على مصداقية العمل. حتى الساعة المسؤول الذي أظهرته الوثائق هو قائد الجيش السابق جان قهوجي، وحين تتبيّن مسؤولية غيره سنعلن ذلك متى توافرت المراسلات والأدلّة”.
إقرأ أيضاً: تفجير المرفأ بعد عامين (1): مَن حمى القضاة والعسكر؟
يقول نون لـ”أساس” إنّه “على الرغم من مرور عامين، إلا أنّ هناك رواياتٍ يتمّ الاستدلال عليها ما تزال قيد البحث، ومراسلات خاصة بمكتب مخابرات الجيش ما تزال مختفية، وهناك مَن تحدّث للأهالي عن مسؤولية قيادة الجيش الحالية، لكنّنا لم نتحقّق من الأمر بعد بانتظار تسلّم المزيد من الوثائق”.
تشمل المعطيات الخطيرة الإضافية، التي يتمّ تأمين المستندات المرتبطة بها، كيفيّة وسبب وصول الباخرة، ومَن أمر بإفراغ الحمولة بهذه السرعة، ودور مكتب المحامي جان بارودي، محامي الشركة، إذ تردّد أنّه هو نفسه مَن طلب تفريغ الحمولة، وهو أمر مثير للريبة إن كان صحيحاً.
في الحلقة الثالثة غداً:
لغز قتل جو بجّاني