يشهد العراق اليوم امتحاناً كبيراً في الشارع، إذ دعا السيد مقتدى الصدر أنصاره من كلّ المحافظات إلى التجمّع في بغداد، في تكرار موسّع لما جرى يوم الأربعاء الفائت، حين اقتحم مناصروه مبنى البرلمان، وحاصروا منزل رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، زعيم “الإطار التنسيقي” التابع لإيران.
في مقابل التحشيد الصدري الكبير الذي ستشهده بغداد، دعا زعيم تيار “الحكمة” عمّار الحكيم إلى حشد جماهيري لمؤيّديه ومناصري قوى وأحزاب “الإطار” تحت شعار “إحياء مراسم عاشوراء”، في لعبة خطيرة قد تنقل الأمور إلى مواجهة شيعية – شيعية في الشارع، وقد تنزلق إلى بدايات حرب أهليّة.
على الجانب الآخر يقود السفير البريطاني في العراق مايك ريتشاردسون حراكاً دبلوماسياً هادئاً. إذ يلعب دوراً محورياً في تقريب وجهات النظر بين الفاعلَيْن الأساسيَّين في الساحة العراقية، الأميركي والإيراني. وهو يشكّل صلة الوصل غير المباشرة للحوار بين سفيري هذين البلدين. لهذه الغاية زار ريتشاردسون قبل 10 أيام السفير الإيراني الجديد آل صادق في مكتبه في السفارة الإيرانية في بغداد، وتباحثا في مستقبل العملية السياسية وآليّات التعامل مع الساحة العراقية. كما زار إقليم كردستان والتقى مسعود بارزاني لبحث آخر تطوّرات العملية السياسية العراقية وتشكيل الحكومة المقبلة. وقد اتّفقا على ضرورة أن يكون برنامج الحكومة المقبلة مستنداً إلى الدستور ووفق مبادئ الشراكة والتوازن والتوافق.
[VIDEO]
يحاول السفير البريطاني دفع المكوّن الكردي إلى التفاهم السريع على مرشّح لرئاسة الجمهورية يسهّل تكليف رئيس وزراء جديد. وهو تحرّك ينسجم مع المعلومات التي تتحدّث عن اللقاء غير المعلن الذي حصل في 5 حزيران الماضي بين الأميركيين والإيرانيين في المنطقة الخضراء في بغداد، والتفاهم على تمرير الاستحقاقات الدستورية وتفعيل العمل الحكومي، ومنع أيّ تصعيد قد يؤدّي إلى تفجير الشارع أو إشعال فتيل حرب داخلية. هل ينجح؟
لماذا تحرّك الصدر؟
يأتي التحشيد الذي يدعو إليه الصدر، وسعيه إلى استخدام الشارع لتعطيل العملية السياسية، ودعوته إلى سحب ترشيح السوداني من السباق إلى رئاسة الحكومة، في جزء منه ردّاً على ورقة “الثلث المعطّل” التي لجأ إليها “الإطار التنسيقي” وحلفاؤه لتعطيل جلسة انتخاب رئيس الجمهورية قبل ثلاثة أشهر، وردّاً على إفشال مشروعه لتشكيل حكومة أغلبية بقيادة مرشّحه لرئاسة الوزراء محمد جعفر الصدر، باعتباره فاز في الانتخابات بـ73 مقعداً، قبل أن يستقيل هؤلاء اعتراضاً على التعطيل الذي مارسته قوى “الإطار التنسيقي”.
لماذا؟
لأنّ السوداني هو مرشّح المالكي الشخصي، ويعتبر الصدر أنّه لا يمثّل أكثرية العراقيين، ولا سيّما أنّ العراقيين أعطوا الأكثريّة للكتلة الصدرية بانتخاب 73 نائباً لها، وليس لكتلة المالكي ولا لـ”الإطار التنسيقي” وقواه السياسية التابعة لإيران.
خرج السوداني إلى الضوء في عهد حكومات المالكي، فكان محافظاً لميسان في 2009 ووزيراً في حكومتَيْ المالكي 2010 و2013، ثمّ نائباً عن ائتلاف المالكي في 2014، ثمّ وزيراً للعمل في حكومة حيدر العبادي 2014، ثمّ وزيراً للمال في 2014 و2015، ثمّ وزيراً للتجارة من 2015 إلى 2016، ووزيراً للصناعة في 2016 ورئيساً لمجلس إدارة “منظمة العمل العربية”، بالإجماع، في القاهرة بين عامَيْ 2017 و2018، ثمّ نائباً “مالكيّاً” في انتخابات 2018 ثمّ 2021.
بدا ترشيحه لرئاسة الحكومة استفزازاً للصدر الفائز بالانتخابات. فكانت “الغزوة الصدرية السلمية” للمنطقة الخضراء، بتسهيلات أمنية، منعاً لإراقة الدماء.
لهذا استنفر الصدر جميع قيادات المؤسّسات التابعة له، من “سرايا السلام”، الفصيل العسكري التابع للتيار الصدري، إلى مندوبي المكتب الشرعي لمرجعيّة والده. ونزل الأمين العامّ لهذه السرايا أبو مصطفى المحمداوي إلى جانب ممثّل الصدر الخاصّ في لجنة متابعة العملية السياسية السيد عون آل النبي إلى الشارع للإشراف على تنظيم الاستعدادات لتحرّك يوم السبت، وذلك في مؤشّر إلى جدّيّة التهديد الذي يشعر به وإمكانية خروجه نهائياً في هذه المرحلة من العملية السياسية، خاصة في ظلّ تمسّك “الإطار التنسيقي” بترشيح السوداني، ونفي كلّ الأخبار التي تتحدّث عن انسحابه.
ما هو موقف الكاظمي؟
تحرّكت حكومة مصطفى الكاظمي، التي اتّهمها “الإطار التنسيقي” بالتواطؤ مع الصدر وتسهيل اقتحام أنصاره للمنطقة الخضراء واحتلال مبنى البرلمان، لاحتواء التحرّك الصدري الجديد، فعمدت منذ ليل الخميس-الجمعة إلى قطع كلّ الطرق والجسور المؤدّية إلى المنطقة الخضراء، بهدف إعاقة تكرار ما حصل يوم الأربعاء ومنع المتظاهرين من دخول هذه المنطقة مرّة جديدة. خاصة أنّ جماعة الصدر يتحدّثون عن استعدادات غير عاديّة وغير مسبوقة لاجتياز جميع هذه العوائق والمصدّات، ونيّتهم دخول المنطقة المحرّمة، بالإضافة إلى الحديث عن تحرّك مباغت قد ينطلق من داخل هذه المنطقة بالتنسيق مع المتظاهرين في الخارج لإسقاطها والسيطرة عليها.
من جهته، أعلن “الإطار التنسيقي”، في الاجتماعات المكثّفة التي عقدها في الساعات الأخيرة، مضيّه في التمسّك بترشيح السوداني لرئاسة الوزراء، ورفض دعوات سحبه من السباق. وطالب المكوّن الكردي بأن يحسم موقفه بسرعة وأن يتفاهم على مرشّح لرئاسة الجمهورية، وهدّده باستخدام ما يملكه من تمثيل نيابي إلى جانب حليفه الكردي في الاتحاد الوطني وحلفائه من المكوّن السنّيّ الذين يوفّرون له الغطاء الدستوري الذي يشترط انتخاب الرئيس بحضور ثلثي أعضاء البرلمان. ويمكن أن ينضمّ إلى هذه الأغلبية عضو “تحالف السيادة” خميس الخنجر في حال استجاب “الإطار التنسيقي” لشروطه “المكتوبة” التي وضعها مدخلاً لتسهيل استكمال الاستحقاقات الدستورية. وهو ما يشكّل مؤشّراً إلى جدّية جهود “الإطار” للاستمرار في استكمال العملية السياسية مع الصدر أو بدونه.
بعدما كان يتوقّع “الإطار التنسيقي” المسار التصعيدي الذي سيلجأ إليه الصدر لتعطيل العملية الدستورية ومنع تكريس خروجه من الحياة السياسية، استطاع تجاوز الأزمة بأقلّ خسائر ممكنة حتى الآن، إثر ظهور تباينات في المواقف بين قياداته، إذ تمسّك البعض منهم بضرورة التوصّل إلى تفاهم وتسوية مع الصدر يُقنعانه بمشاركة في الحكومة المقبلة. وفي المقابل كان تصعيدٌ من الأمين العام لحزب الدعوة الرئيس المالكي، الذي رفض أيّ تسوية مع الصدر مهدّداً بالانسحاب وهدم “الإطار التنسيقي”، خاصة أنّه يعتبر أنّه المستهدَف الأساس من تحرّك الصدر، فضلاً عن أنّ تصعيد الصدر يشكّل فرصة له للخروج من مأزق وأزمة التسريبات الصوتية العائدة له.
في موازاة الانقسام على آليّة التعامل مع الصدر وتياره داخل “الإطار”، تتّفق غالبية قياداته على نقطة واحدة، وهي ضرورة تشكيل حكومة جديدة تساعد على إنهاء عمل حكومة تصريف الأعمال وتُخرج الكاظمي من معادلة السلطة. خاصة أنّ بعض هذه القيادات اتّهمت هذا الأخير بالعمل على عرقلة استكمال الاستحقاقات الدستورية لتحقيق واحد من هدفين، إمّا إطالة عمر حكومته، أو إعادة تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة.
مظلّة إقليميّة ودوليّة لـ”الإطار”؟
تطرح هذه التطوّرات المتسارعة، التي توحي بوجود مظلّة إقليمية ودولية تسمح لـ”الإطار التنسيقي” بتمرير الاستحقاقات الدستورية، سؤالاً مفصلياً ومصيرياً: هل يسمح الصدر بتمرير ذلك على حسابه؟ أم يلجأ إلى تسوية مع “الإطار” تحفظ له حصّته في الحكومة المقبلة، على أمل أن تسمح السنوات المقبلة بتحقيق مشروعه الأغلبيّ؟ وهل يلجأ إلى التصعيد والذهاب إلى النهاية في العمل على إسقاط العملية السياسية؟ أم يشعل التظاهرات والاعتراضات لإسقاط الحكومة الجديدة في حال تشكّلت في أسرع وقت ممكن ويدعو إلى انتخابات مبكرة، مع ما يستدعيه ذلك من تعديلات دستورية قد تصل إلى حدّ المطالبة بتغيير طبيعة النظام من حكومي إلى رئاسي وتعديل قانون الانتخابات؟ وهل يسكت الكاظمي على تمرير تسوية على حسابه وحساب الإنجازات التي حقّقها على صعيد علاقات العراق الخارجية والإقليمية؟
إقرأ أيضاً: الصدريون في الشارع: نهاية المالكي و “الإطار”؟
يبدو أنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال بات أقرب إلى القبول بإمكانية الخروج بعد نجاح “الإطار التنسيقي” في تسمية غيره لهذا المنصب، إلا أنّه بدأ يستعدّ لإدارة مرحلة انتقالية طويلة بناء على رهان على عجز “الإطار” ورئيس الوزراء الجديد عن تشكيل سريع للحكومة. لذلك عمد إلى ترتيب أوراقه لهذه المرحلة الانتقالية، على الأقلّ من خلال تعيين مدير مكتبه رائد جوحي رئيساً لجهاز الاستخبارات.