تهدف هذه السلسلة من المقالات إلى طيّ مرحلة سابقة من النقاش حول الاستراتيجية الدفاعية الوطنية بكلّ مفاهيمها وأدواتها، وإرساء منهجية شجاعة تُطرح فيها مسألة الدفاع عن لبنان كقضية وطنية يشترك في نقاشها كلّ اللبنانيين من خلال المؤسسات الدستورية، ومجموعات الرأي، والأحزاب، وكلّ الأطر التمثيلية الأخرى، للوصول إلى حلول حقيقية وإسقاط كلّ القيود التي أناطت طرح هذه المسألة بإملاءات فريق سياسي دون سواه.
تصدّرت إشكالية سلاح حزب الله حملات الترشيح في الانتخابات النيابية الأخيرة التي جرت في 15/5/2022، حيث تقدّمت العناوين المطالِبة باستعادة الدولة لقرار السلم والحرب وبسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية وسواها من العناوين الاقتصادية والسياسية والقضائية التي رفعها اللبنانيون الرافضون لأداء المنظومة السياسية. وقد بدت الانتخابات وكأنّها تحوّلت إلى استفتاء شعبي حول جدوى سلاح الحزب والمخاطر المترتّبة على استمراره.
ربّما كان نصرالله، أو مَن وجّه الدعوة إلى الحوار، يرمي إلى إطلاق نقاش عقيم وإطالة الجلسات، وربّما الإطاحة بالحوار، لأنّ ما طُرِح كان ورقة مرتجَلة لم تراعِ أبسط البديهيّات في الاستراتيجيات الدفاعية
لم تكن الردود التي أطلقها مرشّحو حزب الله كافية للدفاع عن السلاح المتفلّت، الذي استنفد الاقتصاد واستباح الحدود وذهب بالاستقرار وأدّى إلى عزلة لبنان، أو لمواجهة الرفض الشعبي له الذي بلغ مناطق نفوذ الحزب. بدا أنّ هناك استحالة في إقناع اللبنانيين، حتى الشيعة منهم، بربط الدفاع عن لبنان بالمغامرات الميدانية التي يخوضها الحزب في أكثر من بلد عربي.
لم يختَر حزب الله المواجهة، بل حاول على لسان أمينه العامّ خلال افتتاح ورعاية مؤتمر “ثقافة المقاومة” بتاريخ 9/5/2022، أي قبل أسبوع من الانتخابات النيابية، التخفيف من وطأة العناوين المرفوعة باستعادة فصول من مؤتمر الحوار في عام 2006 ومن زمن تغيّرت معالمه، للقول إنّه لم يرفض مناقشة مسألة السلاح، بل كان أوّل المبادرين إلى ذلك. وقد قدّم الحزب في آذار من عام 2006 مقاربته التي ما تزال حاضرة للنقاش برأيه على الرغم من مرور 16 عاماً، وهو ما يزال ينتظر إجابات القوى السياسية عليها.
لماذا هذا النقاش الآن؟
تشكّل هذه المقالة مدخلاً إلى سلسلة من المقالات لوضع ما قدّمه حزب الله تحت مسمّى “الاستراتيجية الدفاعية الوطنية”، أمام الرأي العام، وتسليط الضوء على كلّ العناوين التي تضمّنتها، بهدف التأسيس لمرحلة جديدة من النقاش تتّسم بالمسؤولية الوطنية والواقعية والجدّيّة التي تليق بدولة لها سيادتها وقرارها وتحالفاتها ومصالحها. إنّ أيّ مقاربة جديدة لهذه المسألة يجب أن تعيد الاعتبار للمصالح الوطنية اللبنانية وتتلاءم مع المتغيّرات المحلية والإقليمية والدولية وموازين القوى الجديدة، وعليها أيضاً أن تُخرج الموضوع من حصريّته المذهبية إلى رحاب القضية الوطنية التي تعني كلّ اللبنانيين الذين يحقّ لهم مناقشتها وليس التزام الصمت وتقبّل الإملاءات تجنّباً للتخوين.
القول إنّ ما طرحه حزب الله في عام 2006 ما يزال صالحاً للنقاش يفتقر إلى الكثير من الحقيقة. فمن المتعذّر التسليم بصلاحية ما طُرح على الرغم من جسامة المتغيّرات التي عرفتها المنطقة والعالم بعد ذلك، وليس أقلّها اندلاع الصراعات في سوريا والعراق واليمن، وتدخُّل إيران في كلّ منها بواسطة حزب الله وسواه من الأذرع والميليشيات المرتبطة بولاية الفقيه، وتوقيع الاتّفاق النووي عام 2015، والانسحاب الأميركي منه في عام 2018، واتّفاقات التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية، وآخرها اندلاع المواجهة الروسية الأميركية في أوكرانيا وما نتج عنها من أزمات وتحالفات جديدة.
إنّ ما قدّمه حزب الله في حينه يفتقر إلى التخصّصية والاحتراف، ولا يشكّل أساساً للنقاش حتى في حينه، وإنّ أيّاً ممّن جمعتهم طاولة الحوار لم يكن مستعدّاً أو راغباً في مقاربة الموضوع المطروح. لقد اعتقد الفريق السيادي وقتذاك أنّ الوضع المترتّب على انسحاب الجيش السوري سيسمح بالتوصّل إلى توافق على مخرج ما، ولو بشكل تدريجي، لترتيب إعادة السلاح إلى مصدره، واستيعاب مَن يرغب من عناصر الحزب ضمن الأجهزة الأمنيّة، بما يكرّر تجربة استيعاب الميليشيات التي أُقرّت بموجب وثيقة الاتّفاق الوطني، وبما يسمح بتجنّب أيّ انقسام مجتمعي لاحقاً.
ما قدّمه حزب الله في حينه يفتقر إلى التخصّصية والاحتراف، ولا يشكّل أساساً للنقاش حتى في حينه، وإنّ أيّاً ممّن جمعتهم طاولة الحوار لم يكن مستعدّاً أو راغباً في مقاربة الموضوع المطروح
بالمقابل فإنّ ما كان مقصوداً بمبادرة حزب الله هو إبداء التجاوب مع الدعوة إلى الحوار بهدف كسب الوقت ريثما تسمح المستجدّات بالانقلاب على نتائج انسحاب الجيش السوري من لبنان تطبيقاً للقرار 1559. هذا ما أكّدته لاحقاً سلسلة من التغيّرات التي دخلت الساحة السياسية وأدّت إلى وقف الحوار، وبكلمة أصحّ إلى امتناع حزب الله عن حضور الجلسات ورفض مناقشة قضيّة سلاحه.
في المقاربة المفاهيميّة:
افتقرت مقاربة حزب الله من الناحية النظرية إلى الالتزام بالمفاهيم المتعارَف عليها في ما يتعلّق بالاستراتيجية الدفاعية الوطنية (National Defense Strategy) التي تُقرّها السلطة السياسية، والتي تُعنى بالتوجّهات الرئيسة للسياسة الدفاعية وطريقة تنفيذها، وتحديد الأهداف للمحافظة على المصالح الحيوية وتلك المتعلّقة بالمصالح الوطنية الاستراتيجية، وتحديث القوى العسكرية وتوفير البنية التحتيّة الداعمة لها والموارد المطلوبة. لقد تمّ المزج العشوائي بين الاستراتيجية الدفاعية وبين الاستراتيجية العسكرية الوطنية (National Military Strategy) التي تُعدّها السلطات العسكرية العليا، وهي عبارة عن خارطة طريق لاستخدام القوات المسلّحة في الدفاع عن الوطن والمصالح الحيوية، والمحافظة على قدراتها وميزاتها لمواجهة التهديدات، الأمر الذي أفقد المقاربة العناصر المطلوبة لتصنيفها في خانة الاستراتيجية الدفاعية.
لا يمتّ التنظير الذي تضمّنته ورقة حزب الله بصِلة إلى بديهيّات ما هو مطلوب في الاستراتيجيات الدفاعية. لقد استساغ الأمين العامّ، تبعاً لظروف حزب الله حينها، الظهور بمظهر العارف لوحده بأدقّ تفاصيل العمل الميداني والمتخصّص حصريّاً في دراسة الكيان والمجتمع الإسرائيليَّين ومكوّناتهما، واستساغ الحاضرون أيضاً الإيجابيات المترتّبة على وضع مسألة السلاح على الطاولة. استرسل نصرالله في الكلام عن نقاط القوّة والضعف لدى لبنان ولدى العدوّ، وتحدّث مطوّلاً عن الخصائص الجغرافية للبنان والمدى الحيويّ الإسرائيلي وبنيته التحتيّة، وتابع بعد ذلك استعراض الفرضيّات الميدانية حتى ما بعد الانسحاب من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وأغرق في توصيف أشكال الاعتداءات الإسرائيلية المرتقبة من قصف وخطف وارتكاب مجازر وتدمير للبنى التحتيّة وتهجير المواطنين والحصار على أنواعه. ليست كلّ تلك التفاصيل الميدانية سوى مواقف افتراضية ومتغيّرة يناقشها عسكريون ولا تمتّ بصِلة إلى أبسط منطلقات الاستراتيجية التي توكَل إلى القادة السياسيين.
إقرأ أيضاً: الاستراتيجية الدفاعيّة الوطنيّة (1): إشكاليّة وطنيّة قابلة للنقاش
ربّما كان نصرالله، أو مَن وجّه الدعوة إلى الحوار، يرمي إلى إطلاق نقاش عقيم وإطالة الجلسات، وربّما الإطاحة بالحوار، لأنّ ما طُرِح كان ورقة مرتجَلة لم تراعِ أبسط البديهيّات في الاستراتيجيات الدفاعية.
فمن البديهيّ الاستنتاج أنّ السياق الذي اعتُمِد في ما طرحه حزب الله كان يهدف في النهاية إلى القول إنّ الدفاع عن لبنان هو مسألة حصرية تخصّه وحده، وإنّ هناك استحالة لتغيير هذه المعادلة، وقد أعلن نصرلله ذلك في ختام مقاربته: “هذه في رأينا الاستراتيجية الدفاعية المنطقية والعلمية والتجريبية الوحيدة المتاحة أمامنا ونحن نلتزم بها”.
(يتبع)
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والاستشارات