إيران: التظاهرات تهز النظام.. والدخول إلى الجنة بـ”السياط”

مدة القراءة 7 د

الانتفاضة في إيران تتّسع لتشمل جميع المحافظات ، إضافة إلى العاصمة طهران. سيطرت على مدن وبلدات وشوارع. طبيعة المشاركين فيها تُسقط الحساسيّات بين القوميّات والإثنيّات والأعراق. لا يشعر حتى الفارسي أنّه غير معنيّ بها. مثله كالبلوشي أو الكردي أو الأهوازي او الأذري أو التركماني. فصعوبة العيش تطاله كما تطال الآخرين، والضيق في الحرّيات العامّة والخاصّة يخنقه كما يخنق حرّيات غيره.

قصّة مهسا أميني التي توفيت تحت التعذيب إثر اعتقالها عند “شرطة الأخلاق” لأنّ مقياس ظهور قسم من شعرها لم يكن على مقاس مَن فصّل القياسات في طهران، هي التي فجّرت التظاهرات. لكنّ قضيّتها كانت شرارة لغضب تراكمي، فبات قتلها النقطة التي فاضت عن الإناء.

 

الملابس ومعانيها السياسية

منذ أوائل القرن الفائت كان لفعل الملابس النسائية معانٍ كثيرة في آن واحد. ظهر في بادئ الأمر كانتفاضة على التقاليد، إلا أنّه حمل في طيّاته تحرّكات سياسية وتعابير عن مواقف تتجاوز الشعار المرفوع بلحظة تعبئة. فتحرّكات نساء الولايات المتحدة في الستينيّات وحرقهن لحمّالات الصدر، وأدوات التبرّج وأقلام حمرة الشفاه والأحذية ذات الكعب العالي والمكانس ورميها في ما أطلق عليه “حاوية قمامة الحرّية”، لم تكن تهدف إلى التخلّص رمزيّاً من الأشياء التي تقمع النساء، بل تبيّن لاحقاً أنّ الناشطات كنّ يومها منخرطات في محاربة الاستمرار بحرب فيتنام.

قبل ذلك، قادت الممثّلة المعروفة كاثرين هيبورن في الثلاثينيات حملات من أجل ارتداء المرأة للبنطال، ثمّ تبيّن أنّ جوهر الحملات نماذج للخروج من الأزمة الاقتصادية.

تختلف هذه التظاهرات عن أيّ تظاهرات سابقة. قد لا تؤدّي إلى إسقاط النظام في طهران، لكنّ المؤكّد أنّها تضعضعه

تبنّت النساء في ثقافات مختلفة قضيّة التحرّر من الملابس، التي كانت في الحقيقة نوعاً من العمل السياسي أو الاحتجاج الثوري بوجه الظلم. ففي فلورنسا وشمالي إيطاليا إبّان العصور الوسطى رسمن لوحات فنّية متنوّعة وكتبن الروايات على أنواعها لهدف واحد فقط، وهو “الوقوف بوجه محاكم التفتيش” التي كانت قابضة على حياة الناس.

في العام 1920 عادت هدى شعراوي من فرنسا بصحبة ابنتها وزوجها على متن الباخرة التي تقلّ سعد زغلول، وعندما رست الباخرة نزلت الأمّ وابنتها من دون أيّ غطاء على الرأس تأييداً لأفكار سعد زغلول السياسية.

لا تعكس صور التظاهرات المستمرّة في أنحاء إيران المختلفة الاعتراض على الزيّ الإلزامي والحجاب الإجباري وعلى قمع وقتل شرطة الأخلاق للإيرانيّات فحسب، لكنها تعكس أيضاً التنديد بسيطرة حكم الملالي على أجساد الأفراد وعلى حياتهم ذكوراً وإناثاً. فهي شكل من أشكال التحرّك ضدّ نظام الملالي الشموليّ القامع للحرّيات، والظالم للأقليّات، والمحرّض على قمع القوميّات.

هي شكل معبّر عن نقص المياه وعن التصحّر وعن السدود الفاشلة أو الخادمة للحرس الثوري. هي صوت المدرّسين والمتقاعدين وعمّال المرافئ. هي صرخة المزارعين أصحاب الأراضي البور والمواسم اليابسة. هي خسارة أموال المتعاملين مع سندات الدولة التي أقفلت الردهات لإفلاسهم، وهي أيضاً انعكاس لخسائر التجّار والصناعيين، وشكل من أشكال الاستياء الشديد من تحويل أموال الشعب الإيراني إلى الميليشيات والأدوات في سوريا ولبنان والعراق واليمن وقطاع غزّة. 

منذ أن أصدر البرلمان الإيراني قانوناً يعاقب النساء اللواتي يظهرن في العلن من دون حجاب بجلدهنّ 74 جلدة، كانت حصيلة النساء المعتقلات خلال عشر سنوات حوالي 30 ألف امرأة مقابل تعرّض أكثر من 460 ألف امرأة للتوبيخ، بحسب موقع “رصانة” المختصّ بالإحصاءات في إيران.

دخول الجنة بالسياط

لقد صرّح الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني مباشرة إثر انتخابه لولايته الأولى بأنّه “لا يمكن إجبار الناس على دخول الجنّة بالتهديد وضرب السياط”، فأقلق الملالي. وهو القلق الذي جعل الحرس الثوري يتفلّت بممارسة عنفه وإدخال الشعب في نظام يضرب بالسياط .


إذاً تختلف هذه التظاهرات عن أيّ تظاهرات سابقة. قد لا تؤدّي إلى إسقاط النظام في طهران، لكنّ المؤكّد أنّها تضعضعه. وما يثبت هذا الكلام هو ظهور الرئيس الإيراني مساء 28 آب 2022 في مقابلة متلفزة يتحدّث فيها ويبرّر ما يحدث في إيران. إنّها المرّة الأولى التي يقرّ فيها هذا النظام بـ”وجود” احتجاجات أو يتحدّث عنها أو يرى الرئيس نفسه مجبراً على التحدّث إلى الإعلام بعد 13 يوماً من انطلاقها وعدم النجاح في إخمادها.

غالباً ما يتساءل الإيرانيون والعالم في كلّ مرّة يتظاهرون: هل تكون التظاهرات تلك هي “المفصليّة”؟ لكن النظام ينجح في كلّ مرّة وعبر القتل والقمع في إحباط الاحتجاجات فيحكم من جديد بقبضته الحديدية.

 

أهمية التظاهرات الاخيرة

تعود أهمية هذه التظاهرات وتمايزها عن غيرها إلى عدّة عوامل: انتشارها الواسع في معظم المحافظات، والمشاركة العابرة للمذاهب والإثنيّات، والتوقيت المحوري بالنسبة إلى النظام، والطابع الاجتماعي لها إذ أتت ردّة فعل على ما تعرّضت له المرأة (مهسا أميني)، فيما النساء في إيران هن مكوّن أساسيّ في المجتمع.

كانت استجابة الإيرانيين ومشاركتهم في الاحتجاجات سريعة وواسعة النطاق. ويمكن ملاحظة نسبة النساء الكبيرة فيها. وقد قام العديد منهنّ بقصّ شعورهنّ أو خلع الحجاب الإلزامي، وفي بعض الحالات أشعلن النيران في الحجاب والشعر. وطالب المتظاهرون على الفور ومنذ اليوم الأوّل من التظاهرات بإسقاط النظام وإنهاء “الجمهورية الإسلامية”، وهتفوا “الموت للديكتاتور” و”الموت لخامنئي” وغيرهما من الشعارات الموصوفة بتأثيرها وقوّتها على مسامع النظام.

في المقابل، واجهت السلطات هذه الاحتجاجات بقمع شديد أدّى إلى سقوط قتلى تتزايد اعدادهم يوميّاً، وقيّدت قدرة الإيرانيين على استخدام الإنترنت، وقرّرت إقفال الجامعات في محاولة لقطع الطريق على الشابّات والشبّان الإيرانيين ومنعهم من اتخاذ هذه الجامعات مقرّات لانطلاق التظاهرات.

صحيح أنّ الاحتجاجات في إيران ليست جديدة، وكذلك ردّ فعل السلطات عليها، لكنّ هناك اعتقاداً اليوم بين المراقبين أنّ هذه الجولة قد تكون أكثر أهمية من أيّ من سابقاتها.

استلهمت هذه الاحتجاجات شجاعتها من الاحتجاجات السابقة، لكنّها تتجاوز التظاهرات التي سبقتها في عدّة جوانب:

– أوّلاً، تقود المرأة هذا الحراك.

– ثانياً، بدأ الإيرانيون البارزون في كلّ محافظات البلاد يتحدّثون علانية، سواء أكانوا ناشطين أو حقوقيين أو فنّانين أو رجال أعمال أو شخصيات مؤثّرة.

– ثالثاً، تضامن الإيرانيون الذين لا يشاركون عادة في الاحتجاجات مع النساء وطلاب الجامعات.

– رابعاً وأخيراً، تجاوزت هذه الاحتجاجات الانقسامات العرقية والإثنية والمذهبية وحتى الطبقية.

وفي ما كانت قضية مهسا أميني هي الوقود الذي أشعل هذه التظاهرات، إلا أنّ الشعارات تجاوزت الحدث وأعادت تسليط الضوء على مطالب الشعب المعيشية والاقتصادية، إضافة إلى مفهوم الحرّيات الغائب في ظلّ نظام الخميني – خامنئي. فما زاد من غضب الإيرانيين المتراكم لعقود جراء منع النظام للإصلاحات واستمرار الفساد والقمع وسوء الإدارة، هو انتخاب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في آب من العام الماضي، بعد إقصاء جميع خصومه الإصلاحيين المحتملين. ويرى مراقبون أنّ الانتخابات الرئاسية كانت جزءاً من تهميش أكثر منهجية للعناصر “المعتدلة” في السياسة الإيرانية. وقد جرت هذه الانتخابات بمعدل مشاركة منخفض وغير مسبوق.

تأتي هذه الاحتجاجات أيضاً في توقيت مريب ومحوري بالنسبة للنظام، إذ تتزامن مع “مرض” المرشد الأعلى علي خامنئي، على الرغم من ظهوره علناً مرّتين. فخطة النظام لخلافته غير واضحة، وكذلك احتمال أن تتمكّن إيران والولايات المتحدة من التوصّل إلى اتفاق لإحياء الاتفاق النووي، وهما أمران سيؤثّران بشكل كبير على مسار البلاد وأوضاعها.

إقرأ أيضاً: الملالي في امتحان مهسا أميني

لم يقتصر القمع على الداخل، بل ها هو النظام الإيراني يمعن باستخدام صواريخه الباليستية ومسيّراته المفخّخة التي ينشر عنها فيديوهات هوليووديّة حربية كلّ يوم على مختلف منصّات إعلامه الرسمي للتأكيد على قصفه كردستان العراقية حيث “مواقع المعارضة الإيرانية”.

التظاهرات في إيران تضعضع النظام هذه المرّة، وتواجهها السلطات بالسياط والرصاص والصواريخ.

 

*كاتب لبناني مقيم في دبي

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…