قمّة جدّة: كيف ستردّ إيران على النجاح السعودي؟

مدة القراءة 9 د

لماذا جاء الرئيس الأميركي إلى المنطقة؟

هذا السؤال نفسه يشير إلى اختلاف الأهداف بين الأطراف التي استقبلت الرئيس الأميركي. فبايدن جاء إلى المنطقة تحت وطأة الحرب الروسية على أوكرانيا وظهور ضرورات الطاقة والغذاء، ومكافحة التضخّم، وفي الوقت نفسه إحساس الأميركيين الحادّ بفقدان مناطق نفوذ في الشرق الأوسط والخليج لمصلحة روسيا وإيران… والصين. والحاجات العاجلة هذه والأخرى الاستراتيجية أثّرت وتؤثّر سلباً على شعبية الرئيس والحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية في تشرين الثاني. وبالإضافة إلى انتكاسات التضخّم وارتفاع الأسعار والضغوط على النقد والاقتصاد بعامّة، هناك الانتكاستان الداخليّتان المتمثّلتان بالعجز أمام لوبي السلاح، والأخرى قيام المحكمة العليا بمنع الإجهاض. من الواضح أنّ رحلة الشرق الأوسط والخليج لا تفيد في الحدّ من آثار النكستين الداخليّتين، وأمّا فائدتها في الأمور الأخرى فرهنٌ بعدّة اعتبارات معظمها ليست بيد أميركا وحلفائها وحدهم.

لننتقل إلى الضفاف الأخرى. على الضفة الإسرائيلية، وإذا تجاوزنا الدعاية الهائلة، فليس هناك جديد كثير لإسرائيل. هناك زيادة التسليح، وهناك التأكيد على أنّ إيران لن تمتلك السلاح النووي أبداً. وهناك حقّ الدولة العبرية في التصرّف (العسكري) بمفردها إن رأت ذلك ضروريّاً إنّما بعد إعلام الولايات المتحدة. كلّ هذه الأمور ليست جديدة، ولا تحتاج إلى زيارة بايدن لإحقاقها. وبخاصة أنّ الولايات المتحدة (وأوروبا) ما تزال تراهن على إنجاز العودة إلى الاتفاق النووي بالتفاوض.

ليس صحيحاً ولا دقيقاً أن يُقال إنّ الأميركيين بالإعلان عن التغيير الكبير في سياساتهم ليسوا صادقين ولا يستطيعون الاستمرار وقد تخاذلوا وجَفَوْا وأساؤوا من قبل

هناك الضفة الصغيرة الأُخرى المتعلّقة بفلسطين وزيارة بايدن لبيت لحم وليس لرام الله (!). وعلى الرغم من الإعلان الأميركي عن الاستمرار في تأييد حلّ الدولتين، فقد قال بايدن لمحمود عباس إنّ الأرض ليست مؤهّلة للعودة إلى التفاوض على السلام العادل. وحتى وقف الاستيطان ما تحقّق منه شيء، فضلاً عن أنّ بايدن ما حقّق وعوده في العودة إلى فتح القنصلية الأميركية بالقدس، وإعادة ممثّليّة منظمة التحرير إلى واشنطن. كلّ هذه الخيبات علّتها عدم إحراج رئيس وزراء الصهاينة في الانتخابات المراد إجراؤها مع استمرار الأمل بإبعاد بنيامين نتانياهو(!). الفلسطينيون خاسرون على طول الخطّ، ولذلك ما كذبوا على أنفسهم ولا وافقوا على إصدار بيان مشترك.

 

العلاقات مع العرب

فلنذهب إلى الضفة الكبيرة الأخرى، وهي ذات ثلاث شُعَب: شعبة العلاقات الأميركية – السعودية، وشعبة العلاقات الأميركية مع الدول العربية التسع التي ظهرت نتائجها في بيان القمّة، والشعبة الثالثة ترتبط بالعلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والدول العربية المشارِكة في القمّة والتي أجرى الرئيس بادين مع بعضها محادثات ثنائية.

في العلاقات الأميركية – السعودية تحقّق للمملكة انتصاران فوريّان، وآخران استراتيجيان:

– مجيء الرئيس الأميركي إلى المملكة بعد طول جفاء، واستقبال المملكة للرئيس على رأس تسع دولٍ عربية.

– ثمّ هناك نجاح مضمونيّ. فالمملكة لن تُطلق سراح الطاقة بدون حدود، بل ستصبح الصادرات 13 مليون برميل في شهر آب، بما لا يخرج على اتفاقية “أوبك بلاس” مع روسيا، خلال الشهور القليلة المقبلة على الأقلّ.

– وهناك أيضاً وأيضاً زيادة التسليح بعد إيقاف بايدن له، وزيادة ضمانات الحماية في البرّ والبحر والجوّ.

– وهناك أخيراً الإشادة المتبادلة بالهدنة في اليمن، والمفهوم أنّه إذا لم تستمرّ الهدنة فإنّ الولايات المتحدة لن تكون على الحياد. وسيزداد حرصها على منع إمداد الحوثيين بالسلاح بحراً.

لنذهب إلى العلاقات الأميركية بالدول العربية التسع.

الأميركيون وهم يتحدّثون عن الشراكة الاستراتيجية مع العرب، وضعوا ذلك تحت عنوانين: سدّ الفراغ، أو ملء الفراغ، الذي أحدثوه بانسحابهم منذ أيام باراك أوباما، واستعادة التوازن.

جدول أعمال ملء الفراغ واستعادة التوازن يتجلّى في النقاط التي جاءت في خطاب وليّ العهد السعودي، ثمّ ظهرت في بيان قمّة الأمن والتنمية، وهي ثلاثة أقسام:

– مجالات التعاون الأمني.

– مجالات التعاون في ملفّات الحاضر والمستقبليات (= التنمية).

– ومجالات التصدّي للمشكلات العالقة في سورية وليبيا واليمن.. وفلسطين ولبنان.

في شأن مجالات التعاون الأمني تعود إلى البروز قضايا النووي والباليستيّات والمسيَّرات والتدخّل الميليشياوي، وهذه تحدّيات يتعلّق معظمها بطهران وأفاعيل ميليشياتها. وإذا كانت الشراكة الاستراتيجية تتجلّى في التعاون بشأنها عسكرياً وأمنيّاً، فإنّ المجالات الأوسع تظهر في مسائل وقضايا التقدّم والتطوير التي خطت فيها المملكة ودولة الإمارات ومصر خطوات واسعة، ويفيد التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة بشأنها إفادة كبيرة. لهذا عقدت الولايات المتحدة 14 اتفاقاً مع المملكة في عشرات المجالات.

وإذا كانت مسائل القسمين الأمني/العسكري والتنموي تتطلّب اختباراً وانتظاراً، فالذي يتطلّب الحذر والاختبار أكثر قضايا القسم الثالث المتعلّقة بالفراغ الاستراتيجي الذي أسهم في توليد مشكلات كثيرة، أقدَمُها القضية الفلسطينية التي ما عاد الأميركيون وسطاء فيها، بل انحازوا بالكامل إلى إسرائيل.

أمّا البلدان العربية الأخرى العالقة في مشكلاتٍ قاتلة وتحفل بالميليشيات والتدخّلات الخارجية، فقد صدر في شأنها جميعاً قرارات دولية. وبالإضافة إلى العرب وقد اجتمعوا على الاهتمام بهذه البلدان، فإنّ الولايات المتحدة تستطيع أن تكون أكثر فعّاليّة من خلال الدعم الحقيقي للقرارات الدولية، ومن خلال التدخّل المباشر لإخماد المشكلات وليس لإشعالها بحسب سياسات الفوضى الخلّاقة التي اشترعت لها كوندوليزا رايس.

جرت محادثات ثُنائية بين الرئيس الأميركي ورؤساء عرب في القمّة، بينهم الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي والشيخ محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات. وفي تلك المحادثات مع ثلاثة أو أربعة انعقدت اتفاقيات ثنائية أو ظهر دعم في هذا الملف أو ذاك، ودعا الرئيس بايدن رئيس دولة الإمارات إلى زيارة الولايات المتحدة.

 

الأميركيون صادقون؟

لنذهب إلى النتائج والآثار والتداعيات.

ليس صحيحاً ولا دقيقاً أن يُقال إنّ الأميركيين بالإعلان عن التغيير الكبير في سياساتهم ليسوا صادقين ولا يستطيعون الاستمرار وقد تخاذلوا وجَفَوْا وأساؤوا من قبل. يقول بايدن إنّ السياسات السابقة أضرّت بالمصالح الوطنية الأميركية، ولذلك على المرء أن ينتظر قليلاً ليرى كيف يبدو التغيير الذي وعد به من أجل المصالح الوطنية الأميركية لا من أجل العرب. وبخاصّةٍ أنّ الأميركيين والأوروبيين يعانون من مشكلات الطاقة، والمشكلات الاقتصادية المتكاثرة التي يستطيع الخليجيون الإسهام فيها إيجاباً، إنّما بالاعتماد المتبادل من ضمن الشراكة الاستراتيجية.

وما أظهر العرب إصراراً على الندّيّة وعلى التوازن وحسْب، بل أظهروا أيضاً حرصاً على الاستقلالية، وعلى عدم الدخول في محاور، بدليل إشادة وزير الخارجية السعودي بجهود العراق في التوسّط مع إيران من أجل إجراء محادثات سعودية معها ما توصّلت إلى نتائج لكنّها ستستمرّ. وبدليل تصريح الدكتور أنور قرقاش مستشار رئيس الدولة بالإمارات أنّ الدولة ماضيةٌ باتجاه تعيين سفير في طهران.

إلى ذلك صرّح وزير الخارجية السعودي أن لا حاجة إلى “ناتو عربي”، وإنّما هناك دعوة وليّ العهد السعودي قبل خمس سنوات لـ”استراتيجية الأمن والدفاع العربي”، وسيتواصل العمل من أجل السير فيها. وها هو الرئيس عبد الفتّاح السيسي يتحدّث عن “الأمن العربي الواحد”. وإلى هذا وذاك وذلك يصرّ العرب على عدم حدوث تغيير في علائقهم الاستراتيجية مع روسيا والصين والهند.

يبدو أنّ اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين واليمنيين والعراقيين، سيكون عليهم الانتظار أكثر، و”نيّال من عنده ميليشيا”، ومن ليس عنده ميليشيا فالأفغان حاضرون

هكذا، فالذي أراه أنّ هناك آمالاً كباراً في هذا الاجتماع العربي على الأمن المشترك والتعاون والتنسيق. وهناك آمال أيضاً في التغيير الإيجابي بالعلاقات مع أميركا.

إنّما ما الذي يحصل على الضفّة الأُخرى أو عند المعسكر الآخر؟

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين آتٍ إلى طهران بعد يومين، وكذلك الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان. وهناك انشقاقٌ عميقٌ في العلاقات الدولية تتزعّم فيه الولايات المتحدة معسكر الحلف الأطلسي السابق، بينما تتزعّم روسيا والصين المعسكر الآخر. وما عادت الحرب حرباً باردةً، بل هي ساخنةٌ في أوكرانيا وغير أوكرانيا. وكلّ المشكلات التي ذكرها وليّ العهد السعودي جاءت في بيان قمّة جدّة للأمن والتنمية والأمن أوّلاً. وللتذكير فإنّ كلّ هذه البلدان ذات المشكلات والميليشيات والجيوش الموجودة فيها، مصدر مشكلاتها إيران وروسيا أو روسيا وإيران. وينبغي أن نضيف إلى البلدان المذكورة العراق وغزّة، وفيهما ميليشيات إيرانية أو متأيرنة.

 

التصعيد الإيراني الآتي

ما أقصده أنّ الاجتماع الأميركي – العربي على الشراكة الاستراتيجية لن يكونَ برداً وسلاماً لا على إيران ولا على روسيا. والمعروف أنّ إيران استخدمت دائماً ميليشياتها للضغط من أجل النووي، واستخدمت مسيّراتها وباليستيّاتها ضدّ الدول العربية. وها هو أحد زعماء الميليشيات بالعراق يقول إنّه لن يسلّم سلاحه إلاّ للمهدي (!). بينما أرسل نصر الله مسيّراته باتجاه البحر بحجّة الحفاظ على مصالح لبنان الغازيّة والنفطيّة، وهو يزيد شروطه على إسرائيل وعلى الدولة اللبنانية قبل إسرائيل كلّ يوم، أو تشتعل الحرب.

وفيما كان الأميركيون والسعوديون يمتدحون الهدنة في اليمن، هاجم الحوثيون، كما فعلت إيران، قمّة جدّة، وقالوا إنّهم يرون الهدنة سيّئة، ولن يجدّدوها أو يمدّدوها. وستتجمّع تداعيات سلبية أُخرى بعد قمّة طهران. لذلك وفيما نتساءل عن مدى وفاء أميركا بوعودها في الشراكة الاستراتيجية الجديدة، يكون علينا من قبيل الإنصاف وتوسيع الأفق أن نسأل أيضاً عن ردود الفعل الإيرانية والروسية، وبخاصّةٍ أنّ الاتفاق النووي ما جرت العودة إليه بعد، وروسيا سيكون عليها تقوية تحالفها مع طهران، والتساؤل كيف يمكن الإفادة (لإيلام أميركا وإسرائيل طبعاً!) من الوضع في سورية وليبيا واليمن وما وراء سورية واليمن، وأعني بذلك لبنان.

ستتوالى الضربات المتبادَلة. وستتعقّد انتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية، وسيهجم الحوثيون من جديد، وقد تتحرّك “حماس” لتحرير فلسطين، وقد يتحرّك الحزب المسلّح لتحرير القدس أخيراً وليس حقل كاريش وحسب.

إقرأ أيضاً: خارطة محمّد بن سلمان لإنقاذ لبنان

بالنظر إلى كلّ هذه المعطيات والتوقّعات: هل آن الأوان لاستقبال الجديد الجديد؟

يبدو أنّ اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين واليمنيين والعراقيين، سيكون عليهم الانتظار أكثر، و”نيّال من عنده ميليشيا”، ومن ليس عنده ميليشيا فالأفغان حاضرون.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…