جاهر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أخيراً، واعترف بوجود “تضخّم مفرط”. أقرّ في آخر إطلالة تلفزيونية له قبل أسابيع بأنّ “الليرة (مش) بخير”، وأنّ طباعة أوراق نقدية جديدة من فئة مليون لا مفرّ منها، وهو ما ذهب إليه “أساس” قبل عام من اليوم (27 حزيران 2021) في مقال عنوانه: “أيّها اللبنانيّون انتظروا ورقة المليون“، وحذّر في حينه من أنّنا قد دخلنا بالفعل “في عين النموذج الفنزويلي”.
ربط سلامة طباعة هذه الورقة بالاتفاق مع الحكومة الجديدة المنتظَرة. وهذا يعني أنّ الانتظار إلى حين تشكيل حكومة جديدة بعد انتخاب رئيس جديد للبلاد، قد يطول وربّما نكون قد صرنا بحاجة إلى ورقة 2 مليون وليس إلى مليون واحد.
جاهر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أخيراً، واعترف بوجود “تضخّم مفرط”. أقرّ في آخر إطلالة تلفزيونية له قبل أسابيع بأنّ “الليرة (مش) بخير”
في عملية حسابية بسيطة، وفي محاكاة لقدرة الليرة الشرائية بين الأمس واليوم، أي بين مرحلة ما قبل الأزمة وبعدها، نكتشف حجم الكارثة التي نغوص فيها من دون أن نلتفت إلى تفاصيلها بشكل دقيق. فإذا احتسبنا سعر صرف الدولار على 29.500 ليرة، كمعدّل وسطي، نكون أمام المحاكاة التالية لتبدّل قيمة النقد اللبناني قياساً إلى الدولار:
– ورقة الـ100 ألف ليرة: كانت تساوي قبل الأزمة 66.6 دولاراً، وهي اليوم تساوي قرابة 3.3 دولارات. هذا يعني أنّ ورقة الـ100 ألف الخضراء، باتت تساوي قيمة ورقة الـ5 آلاف ليرة الزهرية قبل الأزمة (3.3 دولار).
– ورقة الـ20 ألف ليرة: كانت تساوي 13.3 دولار قبل الأزمة، وباتت اليوم تساوي 0.67 دولاراً، أي ما يعادل ألف ليرة على سعر صرف 1500. وبالتالي ورقة العشرين البرتقالية اليوم، هل المعادل الدقيق لورقة الألف ليرة في 2019.
– ورقة الـ10 آلاف ليرة: باتت قيمتها، وفقاً للحسبة أعلاه، ما كانت قيمة الـ500 ليرة المعدنية.
– ورقة الألف ليرة الزرقاء: باتت تساوي قيمة الـ50 ليرة المعدنية الصغيرة، التي ما كان أحد يرضى الاحتفاظ بها أو أن يأخذها أساساً. وهكذا صارت الألف ليرة اليوم، التي نحتار على صندوق “الكاش” هل نأخذها من المحاسب، أو نتركها، أو ماذا نتصرّف أمامها. واستطراداً فإنّ الـ500 ليرة المعدنية باتت قيمتها 25 ليرة، والـ250 ليرة باتت قيمتها 12 ليرة ونصف الليرة.
– أما ورقة المليون ليرة: التي يتّجه مصرف لبنان إلى طباعتها في المستقبل، فهي تعادل فعليّاً قيمة ورقة الـ50 ألف ليرة الزرقاء قبل الأزمة.
– ورقة المليونين: لذلك فإنّ “المصرف المركزي” مطالَب في أقلّ تقدير بطباعة ورقة الـ2 مليون، إذا كان يريد “إصابة” ما كانت قيمته 100 ألف ليرة قبل الأزمة. لأنّ 66.6 دولار أميركي تساوي مليوني ليرة اليوم.
– ورقة الـ5 ملايين: أمّا إذا كان “المركزي” وحاكمه يحملان نظرة ثاقبة، وقلباً جامداً، فيستطيعان أن يطبعا ورقة الـ5 ملايين بلا أيّ تردّد، لأنّها تساوي 250 ألف ليرة، على حسابات ما قبل الأزمة. ونحن بحاجة إليها أيضاً في زمن “الدولرة”.
– سحب الأوراق الصغيرة: ليس هذا فحسب. على “المركزي” أيضاً أن يسحب الفئات الصغيرة من السوق مثل الـ250 والـ500 ليرة المعدنية، وفئة الـ1.000 ليرة، لأنّها “خرجت من التداول” وباتت “حملاً ثقيلاً” على أصحاب المصالح التجارية وعلى المواطنين. مع الاحتفاظ بشكل مبدئي بورقة الـ5.000 كأصغر فئة ورقية من العملة اللبنانية.
لماذا تطبع المصارف المركزيّة عملات أكبر؟
هكذا يكون مصرف لبنان قد أقرّ واعترف بالمشكلة، ثمّ خطا أوّل خطوة في مسيرة ما يُسمّى في عالم النقد والاقتصاد بـRedenomination، أي “إعادة تقييم العملة”، وفق متطلّبات السوق، بغضّ النظر عن سياسة الدولة والخطط الحكومية. (عمليّاً هي الخطوة الـ25 منذ العام 1964 إلى اليوم) التي تلجأ إليها السلطات النقدية في الدولة المنكوبة، من باب الاستجابة لإجراءات تلافي التضخّم، فكيف إن كان مفرطاً كما هو اليوم (Hyperinflation)؟
يؤدّي التضخّم إلى زيادة الأسعار الاسمية للمنتجات والسلع والخدمات تدريجياً، فيقلّل من القيمة الحقيقية لكلّ فئة نقدية، ومع مرور الوقت تصبح الأسعار كبيرة جدّاً، تماماً مثلما يحصل اليوم في لبنان. وهذا يعيق المعاملات الروتينية بسبب ضرورة حمل أكوام من الأوراق النقدية، فيتسبب بمعاناة للمواطنين الذين ينبذون التعامل مع الأعداد الكبيرة، وبضغط على ماكينات الصرف الآلي (ATMs) وعلى موظّفي المصارف والعاملين بالصناديق في كلّ المصالح والمؤسّسات.
قد تحلّ هذه الخطوة هذا الجانب من المشكلة، إذ تقوم المصارف المركزية بإدخال وحدة جديدة تحلّ محلّ الوحدة القديمة، تماماً مثلما فعلت الأرجنتين بالبيزوس في عام 1983، وتركيا بليرتها في عام 2005، وزيمبابواي بعملة الدولار خاصّتها في الأعوام 2006 و2008 و2009… هذه الدول حذفت أصفاراً من عملاتها، فالمليون ليرة تركية، حوّلها المصرف المركزي التركي إلى ليرة، حاذفاً 6 أصفار منها في العام 2005… وقِس على ذلك.
لماذا لم يلجأ سلامة إلى ذلك من قبل؟
قد يكون مصرف لبنان تقصّد تأخير هذه الخطوة وحتى الإعلان عنها قرابة عام كامل. ربّما يعتبر مصرف لبنان أنّ الإعلان عن هذا الأمر سيشكّل ضربة إضافية للّيرة اللبنانية، ولهذا يحاول تلافيها وقذفها إلى المستقبل قدر المستطاع. لكنّ السؤال الأهمّ من التوقيت يتعلّق بكمّية الليرات التي ستُطبع: ماذا سيفعل سلامة بالكتلة النقدية؟ هل سيسحب مقابل كلّ ورقة مليون ليرة 10 ورقات من فئة المئة ألف؟ أم سيضخّها في السوق إضافة إلى ما فيه من ليرات؟
لا جواب واضحاً حتى اللحظة، لكنّ شكل القرار الذي سيتّخذه مصرف لبنان مع الحكومة العتيدة المنتظَرة “مقروء من عنوانه”: موظّفو القطاع العام يشلّون الإدارة العامة منذ أسابيع بإضرابهم المفتوح، ويطالبون بزيادة رواتب تساويهم بالسلطة القضائية المحتسبة رواتبها على سعر صرف 8.000 ليرة بدل 1.500 ليرة.
إقرأ أيضاً: المازوت والبنزين إلى 2 مليون للصفيحة نهاية الصيف؟
بحسب تقرير لـ”الدولية للمعلومات” أصدرته قبل نحو سنة، فإنّ حجم رواتب القطاع العام بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب يوازي 8 مليارات دولار على سعر الصرف الرسمي، أي نحو 1.000 مليار ليرة شهرياً، وهذا يعني أنّ الرواتب إذا ما دُفعت على سعر 8.000 ليرة، ستتضاعف من 1.000 مليار ليرة شهرياً إلى نصف تريليون شهرياً (5.333 مليار ليرة لبنانية)، رافعةً حجم الكتلة النقدية اللبنانية الموجودة في السوق اليوم من 54.6 تريليوناً (آخر إصدار لمصرف لبنان) إلى نحو 106 تريليونات ليرة لبنانية في السنة الأولى، على أن يزيد حجم هذه الكتلة 52 تريليوناً سنوياً.
عندئذٍ لا تسألوا عن سعر صرف الدولار، لأنّه سيكون حتماً أعلى من 100 ألف ليرة بكلّ تأكيد.