للمرّة الأولى في تاريخ تكليف رؤساء الحكومات وتشكيلها يُكلَّف رئيس حكومة من أجل “انتخاب” (أو مواكبة انتخاب) رئيس جمهوريّة!
هذا ما طلبه صراحةً النائب جبران باسيل من الرئيس نجيب ميقاتي، وهذا ما تعزِّز فرضيّته استحالة تشكيل حكومة “طبيعية” في المدّة القصيرة الفاصلة عن الاستحقاق الرئاسي تُرضي جميع أطراف النزاع.
لقد قادت الفوضى السياسية إلى فوضى دستورية سيَصعب معها توقّع تداعيات حلول موعد انتخاب رئيس جمهورية بدءاً من 31 آب، في ظلّ حكومة تصريف أعمال رئيسها مكلّف تشكيل حكومة وعاجز عن التأليف.
يقول متابعون للملفّ الحكومي: “صحيح أنّه ليس في السياسة أبيض أو أسود، لكنّ النتيجة التي حصل عليها ميقاتي تشير إلى أنّ هذا التكليف قد يكون الأخير في مسيرة رجل الأعمال في تشكيل حكوماته
سبق لموقع “أساس” أن تطرّق قبل أسابيع إلى هذا السيناريو المحتمَل الذي لم يضعه أهل التشريع في الحسبان، والذي قد يفتح الباب أمام اجتهادات أو وضعيّات دستورية لا سابق لها في تاريخ لبنان الحديث.
علم “أساس” في هذا السياق أنّ مرجعيّة رئاسية تُعدّ دراسة قانونية دستورية شاملة تُجرى للمرّة الأولى تتناول بشكل أساس “وظيفة” حكومة تصريف الأعمال في المدّة الفاصلة عن استحقاق رئاسة الجمهورية وما بعده في حال لم يتمّ تأليف حكومة جديدة، وفي حال عدم انتخاب رئيس جمهورية، وهما أمران سيؤدّيان إلى انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إليها. إذا حصل شغور في موقع رئاسة الجمهورية من دون وجود حكومة أصيلة، تتولّى حكومة تصريف الأعمال القائمة صلاحيّات رئيس الجمهورية بمقتضى المادة 62 من الدستور.
سنكون عملياً أمام سابقة لا مثيل لها في حال فشل الرئيس المكلّف في تشكيل حكومة وعدم التمكّن من انتخاب رئيس الجمهورية، وبالتالي بقاء حكومة تصريف الأعمال قائمة حيث سيفتح نقادش دستوري واسع حول مدى “صلاحية” حكومة تصريف الأعمال في تسلّم صلاحيات رئيس الجمهورية، وفق المادة 62 من الدستور.
أمّا في حال تمكّن ميقاتي من تأليف حكومة وعدم التمكّن من انتخاب رئيس للجمهورية سنكون أمام نموذج حكومة تمام سلام التي دخلت في مرحلة تصريف الأعمال لمدة سنتين تقريباً من 2014 حتى 2016 بعد الفشل في انتخاب رئيس يخلف ميشال سليمان.
عُرِفت حكومته يومها بـ “حكومة الـ 24 رئيساً” حيث كانت تلتئم بشكل دوري انسجاماً مع مقتضيات المادة 62 من الدستور التي تشير صراحة إلى أنّه “في حال خلوّ سدّة الرئاسة الأولى لأيّ علّة كانت تُناط صلاحيّات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء”. وبالتالي كان أي قرار يصدر عن مجلس الوزراء أو مرسوم يتطلّب توقيع الوزراء جميعاً نيابة عن رئيس الجمهورية!
أمّا في سياق يوميّات التكليف والتشكيل فقد علم “أساس” أنّ ميقاتي، حتى قبل تسميته رئيساً مكلّفاً، كان يتبنّى خيار استيلاد حكومة من حاضنة الحكومة الحالية مع تعديلات وزارية محدودة لا تقيِّد عمله في الأشهر القليلة المقبلة قبل فتح صناديق الرئاسة، “خصوصاً أنّني كنت مرتاحاً مع هذا الفريق الوزاري”، كما قال.
التعديل الوزاري المحتمل
إن قُدِّر لميقاتي أن يستغني شخصيّاً عن خدمات وزراء، فهو سيبلّ يده أوّلاً بوزراء الداخلية بسام المولوي والاقتصاد أمين سلام ووزير الطاقة وليد فيّاض.
لكنّ المعلومات تفيد أنّ التعديل الوزاري المطروح جدّيّاً على بساط البحث يطول وزراء الطاقة، الاقتصاد، المُهجّرين، الخارجية، المال، ومن المحتمل حقيبة الاتصالات. في المقابل سيُواجَه تغيير وزير الطاقة بممانعة قوية من باسيل، وكذلك وزير الاقتصاد.
تقول أوساط عون وباسيل إنّ “العدد غير اللائق من الأصوات التي نالها ميقاتي وغياب الميثاقية المسيحية والدرزية عاملان لن يساعداه في مهمّة التشكيل
سيعتبر ميقاتي الحكومة “المُعدَّلة” كاملة الأوصاف، وهي ستتقدّم من مجلس النواب لنيل الثقة تماماً كأيّ حكومة أخرى وفق مقتضيات الدستور، وستكون مهمّتها الالتزام بتنفيذ بعض البنود الملحّة قبل انتخاب رئيس جديد. وفي حال الفراغ الرئاسي تتسلّم مهامّ الرئاسة الأولى إلى ما شاءت الظروف السياسية.
أمّا في حال العجز عن تأليف “حكومة الرتوش” فقد بدأ ميقاتي التسويق لحكومة تصريف الأعمال باعتبار أنّها “قائمة وفاعلة وشغّالة ووزراؤها يعملون على ملفّاتهم”، مسلّماً بأنّ تأليف حكومة سياسية بناءً على ما أفرزته نتائج الانتخابات النيابية “يجب أن يُؤجَّل إلى ما بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فنكون أمام حكومة وحدة وطنية حقيقية يستحيل تأليفها في الأسابيع الأخيرة من عمر العهد”.
لكن أيّ ميقاتي يتكلّم ويفرض شروطه؟
هو الرئيس المكلّف بـ 54 صوتاً، وهو العدد الأقلّ من الأصوات الذي يحوزه رئيس حكومة مكلّف منذ التسعينيّات، وهو الرئيس المنزوع الغطاءين المسيحي والدرزي والفائز على رئيس حكومة الـ”لا تسمية” بثمانية أصوات فقط، ومع جَمع أصوات نوّاف سلام (24) و”لا تسمية” (46) تَطبش أكثرية مضادّة بوجهه من 70 نائباً.
فمن هي الرافعة الفعليّة لميقاتي في تشكيل الحكومة سوى الثنائي الشيعي؟ وكيف لرئيس حكومة بهذه المواصفات أن يؤلّف حكومة، سواء مع “روتشة” لحكومة تصريف الأعمال الحالية أو بأخرى مؤلّفة من طاقم جديد؟
يقول متابعون للملفّ الحكومي: “صحيح أنّه ليس في السياسة أبيض أو أسود، لكنّ النتيجة التي حصل عليها ميقاتي تشير إلى أنّ هذا التكليف قد يكون الأخير في مسيرة رجل الأعمال في تشكيل حكوماته. فحزب الله فعليّاً لا يثق به ويفضّل سعد الحريري عليه، والمسيحيون رفعوا الفيتو بوجهه، والنواب السُنّة انقسموا ضدّه، و”التغييريون” رفضوه، ووليد جنبلاط لدواعي “تزكية” تيمور لدى جيل التغيير تخلّى عن تسميته. والأهمّ أنّ عُدّة الشغل الوزارية بعد 31 تشرين الأوّل يصعب كثيراً أن تحصل بعُدّة شغل “مُستهلَكة” في حكومات العهد”.
خلاف باسيل – ميقاتي
في واقع الأمر، كلّ المسار السابق واللاحق للتكليف لن يسهِّل مهمّة ميقاتي، واستشارات القصر فجّرت “مشكلاً” بين باسيل وميقاتي زاد في طين التشكيل بلّة. فبعد الموقف الهجومي لباسيل على ميقاتي من بعبدا، ورفض الأخير الردّ عليه مباشرةً في الإعلام على الرغم من ظهوره في أكثر من مقابلة تلفزيونية، تَرَك للجهات الإعلامية المحسوبة عليه شنّ هجوم مضادّ على باسيل، فاتّهمته بـ”الانفصام السياسي والوقاحة والفجور وتكبيد الخزينة هدراً بمليارات الدولارات و”إنهاء” العهد القوي…”
إقرأ أيضاً: ميقاتي رئيساً… للمسلمين فقط؟
لا أحد يتوقّع أقلّ من رفع سقوف بين الجهتين كَمَنْ يخوض جولة “الضربة القاضية”. وإذا كان ميقاتي فضّل الذهاب نحو أهون الشرور بتطيير بعض الوزراء في حكومته تحت عنوان “التعديل”، فإنّ رئيس الجمهورية وباسيل يسعيان إلى حكومة سياسية لا أحد قادر على التكهّن ما إذا كانت مناورة وحسب لأنّ خيار ميقاتي، بحدّ ذاته، مرفوض عونيّاً.
تقول أوساط عون وباسيل إنّ “العدد غير اللائق من الأصوات التي نالها ميقاتي وغياب الميثاقية المسيحية والدرزية عاملان لن يساعداه في مهمّة التشكيل، فضلاً عن أنّه ليس رئيس الحكومة المطلوب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في أشهر العهد الأخيرة. وفي النهاية ختمُ التوقيع الأخير على الحكومة بيد رئيس الجمهورية”، مشيرةً إلى أنّ “قرار عدم المشاركة في الحكومة لا يعني إطلاقاً عدم المشاركة في تسمية الوزراء وإعطاء الموافقة عليها”.