منذ عودة السفير السعودي وليد البخاري إلى لبنان، في شهر رمضان الفائت، تكرّست حيوية سياسية جديدة على الساحة اللبنانية. فقد كسر بنشاطه رتابة مملّة. والمعروف عن مثل هذه التحرّكات أنّها بحاجة إلى وقت لتنضج ظروفها وتبدأ بتحقيق أهدافها. لذا لا يمكن الرهان على نتائج سريعة، والأهمّ هو التركيز على الاستحقاقات ذات البعد الاستراتيجي للمرحلة المقبلة، والتي تبدأ فعليّاً مع استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية.
ترى كلّ القوى الدولية المهتمّة بلبنان والمؤثّرة أنّ هذه المرحلة هي نقطة فصل أو مرحلة انتقالية في انتظار العهد الجديد الذي سيمرّ من خلال تحوّلات جيوستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط.
لا ينفصل التحرّك السعودي على الساحة اللبنانية عن الحراك الاستراتيجي على مستوى المنطقة، الذي بدأ مع تنازل الرئيس الأميركي جو بايدن عن شروط كثيرة كان قد وضعها لزيارته للسعودية
في هذا السياق، لا بدّ من ذكر ثلاث محطّات أساسية في تاريخ حركة السفير السعودي في لبنان:
– المحطة الأولى احتفالية لمناسبة مرور 100 عام على العلاقة بين المملكة العربية السعودية وبكركي، حملت رسالة سعودية واضحة تدعم قيام “دولة لبنان الكبير”. وهذا دليل على الالتقاء الإسلامي المسيحي الذي قام عليه الميثاق.
– المحطة الثانية هي عودة السفير السعودي خلال شهر رمضان، وتنشيط محرّكاته في مختلف الاتجاهات من خلال الإفطارات التي نظّمها واللقاءات التي عقدها على مسافة أيام قليلة من الانتخابات النيابية.
– المحطّة الثالثة هي الحركة المستمرّة في هذه المرحلة استعداداً للمرحلة المقبلة، أي للعهد الجديد.
لا ينفصل التحرّك السعودي على الساحة اللبنانية عن الحراك الاستراتيجي على مستوى المنطقة، الذي بدأ مع تنازل الرئيس الأميركي جو بايدن عن شروط كثيرة كان قد وضعها لزيارته للسعودية. ولا يمكن إغفال التأثيرات الاستراتيجية لذلك على مسار مفاوضات فيينا الذي بات متعثّراً إلى حدّ بعيد بعد القمّة الخليجية الأميركية العربية.
أميركا وروسيا والصين
لا يقتصر التحرّك الاستراتيجي السعودي على استعادة العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، بل يتعدّاها إلى توازن العلاقات مع روسيا والصين، بالإضافة إلى جولة يقوم بها الأمير محمد بن سلمان، بدأها في مصر أمس ويستكملها في الأردن وتركيا من أجل تعزيز الموقف، تليها قمّة ستخرج حتماً بنتائج وتداعيات على وضع المنطقة ككلّ.
إذا لم يسمِّ جبران باسيل نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة، فلن يتمكّن حزب الله مع حلفائه الآخرين من توفير أكثريّة لميقاتي
في وسط هذه المتغيّرات يقف لبنان أمام خيارين:
– البقاء في خانة المحور الإيراني والتعرّض للمزيد من الانهيارات والأزمات الاقتصادية المتوالية.
– أو الانفتاح والمصالحة والتحالف مع المملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى، الذي سيكون الطريق الوحيد للبنان لاستعادة نفسه وسلوك طريق الخروج من الأزمة.
للّبنانيين في ذلك مثال أساسي هو اتفاق الطائف الذي انعكس إيجاباً على الوضع اللبناني. وللتذكير، فقد خرج اتفاق الطائف إلى النور بعد جهد سعودي استمرّ حوالى 3 سنوات بدءاً من لحظة إسقاط الاتفاق الثلاثي الذي كان يضمّ الموارنة والدروز والشيعة برعاية علوية ممثَّلة بالرئيس السوري حافظ الأسد. حينذاك رفضت السعودية المخاطر الناجمة عن ذلك الاتفاق، فأسهمت في إسقاطه، وفتحت الطريق أمام اتفاق الطائف الذي استعاد التوازن وأطلق عصراً ذهبيّاً جديداً للبنان.
يؤكّد هذا المؤشّر حتميّة التأثير السعودي في البيئة اللبنانية، وهو ما يعمل عليه على استثماره السفير السعودي، من خلال سعيه لإعداد الأرضية لتفاهمات أوسع بين مكوّنات المجلس النيابي استعداداً للمرحلة المقبلة.
إحباط محاولة الحريري
على صعيد تفصيليّ أكثر، يتّضح أن حركة السفير السعودي تهدف إلى تشكيل كتلة سنّيّة ذات أبعاد وطنية بعيدة المدى خارج التفاصيل اليومية، في سبيل الوصول إلى وضع إطار سياسي عامّ استعداداً للاستحقاقات المقبلة. وهذا يعني إحباط محاولة الحريري تشكيل كتلة نيابية سنّيّة موالية لقوى 8 آذار.
من الناحية الرمزية تبرز محاولة لاستنهاض لحظة 14 آذار في مواجهة قوى الثامن من آذار. تحتاج هذه الخطوة إلى جملة نقاط:
– أوّلاً، سحب السُنّة المستقلّين من ساحة سعد الحريري.
– ثانياً، تصويت القوات اللبنانية والحزب التقدّمي الاشتراكي لشخصية سنّيّة متّفق عليها لرئاسة الحكومة.
– ثالثاً، جذب عدد من أصوات النواب التغييريّين للتصويت على نقطة التقاء مع الاشتراكي والقوات والمستقلّين.
إقرأ أيضاً: خطاب الكراهية والعنف مرض عالميّ!
في هذه الحالة، إذا لم يسمِّ جبران باسيل نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة، فلن يتمكّن حزب الله مع حلفائه الآخرين من توفير أكثريّة لميقاتي. وعندئذٍ سيكون العونيون أمام خيارين: إمّا تسمية ميقاتي الذي سيكون عندئذٍ مرشّحاً لقوى الثامن من آذار مكرِّراً تجربته في حكومة القمصان السود، وإمّا أن يعمد باسيل إلى ابتزاز حزب الله وحركة أمل لاختيار مرشّح آخر غير ميقاتي، لكن لقطع الطريق على تسمية المحور الخصم مرشّحاً له.
يندرج كلّ ذلك في إطار إعداد الأرضية وتمرير المرحلة بانتظار الاستحقاقات الكبرى.